"نواكشوط الكتابة" مُؤلف جديد للكاتب المغربي الخضر الورياشي آثر أن يكون فيه مختلفاً بدءًا من عنوانه، وانتهاء بمقالاته المبثوثة في متنه، والتي تسيجها حُرقة عجيبة نتلمسها من خلال نبرة "صوت الحرف" الصارخ. الخضر الورياشي كاتب أثير، لاسمه مكانة خاصة في قلوب أهل مدينته، يحبونه ويحبهم، وترضيهم كتاباتُه، وهو يحرص أن يكتب ما يعجبهم.. لا شي خارج اهتمامه، يكتب القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، والمقال، والخبر، والخاطرة، والسيرة الذاتية... وفي كل نصوصه لا نعدم متعة أبداً؛ يختار كلماتِه، ينتقيها بدقة، وخوفه من القراء لا حدود له، يعتبرهم قضاة يحاكمونه على قيمة ما ينشره، لذا حرصه على الدقة فيما يكتب يصل أحياناً حد الهوس، ولكن يكفي لأي نص أنْ يُصبغ باللون الأخضر (نسبة إلى اسمه "الخضر") حتى يحصد أعلى نسبة من القراءة، وقدراً غير يسير من الإطراء، والإعجاب فتتقاطر عليه رسائلُ كثيرة مادحة ومُنوهة.. له في كل بلد عربي صديق أديب، في مصر، وسوريا، والعراق، والسودان، وهي شهرة لها ما يبررها ناهيك عن المعجبين به، وهم كُثر.. إن الحديث عن الكاتب المغربي الخضر الورياشي يحتاج إلى وقفات طويلة، ليس لأنه متميز فقط، إنما لأنه محبوب، ومن نحب لن نوفيه حقه مهما اجتهدنا.. اقتحم ميدان الإبداع بشكل عام منذ مدة طويلة، اشتغل رئيسَ تحرير في جريدة "كواليس الريف"، وفي "صوت الريف"، ونائبَ مدير جريدة "أنوال الجديدة"، ومصححاً لغوياً في "الصدى"، وهي جميعاً صحف محلية كانت تصدر في مدينة الناظور، منها التي لا يزال تواصل صدورها، ومنها التي توقف توزيعُها لسبب أو لآخر.. والتميز هنا بالنسبة لي هو مرادف للكتابة الناجحة، والباذخة حين تترك أثرها في المتلقي، وتفرض نفسها في المحافل هنا، وهناك، والكتاب، اليوم، كحبات الرمل حين نعدهم، لكن الذين يتركون أثراً قليلون.. أولا: "نواكشوط الكتابة" من الخارج في غياب معرفة دقيقة بالمؤلف (إذا كنا طبعاً لا نعرفه) نرتهن غالباً للعنوان في اختيار قراءة كتاب معين أو عدم قراءته. ثمة عناوينُ تشد بتلابيبنا، وعناوين تنفرنا، وعناوين تفاجئنا، وعناوين تصدمنا، وعناوين تسحرنا، وأخرى تستفزنا.. ولنتذكر بأننا لا نقرأ كل النصوص بنفس الطريقة؛ فروايات جورجي زيدان التاريخية مثلاً لا تحدث الأثر نفسه في قارئ لمحمد عبد الحليم عبد الله في رواياته الرومانسية، وقراءة المقال لا يحدث نفس "الوخز" (من اللذة طبعاً) الذي تحدثها الخاطرة أو القصة، لذا وعياً من الخضر بهذا جعله يضع تحت العنوان مناصاً هو "مقالات" مُهيئاً بذلك القارئ ليضع نفسه في منظور ملائم.. فلو افترضنا أن الكاتب وضع على الغلاف تحت عنوان كتابه (رواية تاريخية ) فإنه، وفقاً لعقد القراءة بينه وبين القارئ كما يقولون، من المفروض أن يلتزم بعدم قول ما يناقض ذلك .. نحن مثلا سنستسيغ أن يقوم الموتى من الأجداث في محكي عجائبي فانتطازي، لكن أن يحصل الشيء ذاته في رواية رومانسية فنحن لن نتقبل ذلك أبداً. ثم إن الخضر قاص، وناقد، وفنان، فأن يكتب فوق غلاف كتابه "مقالات" فهو يحدد مسار القارئ بدءًا.. حتى يلتزم معه وفق عقد القراءة بين وبين القراء.. عنوان الكتاب "نواكشوط الكتابة" لأول وهلة يبدو غريباً، وغيرَ عادي أبداً، وقد يحتاج الأمر إلى السؤال بإلحاح: ماذا تعني كلمة "نواكشوط"؟ وما علاقة نواكشوط بالكتابة؟ وإيماناً من الخضر الورياشي بغرائبية نواكشوط كلفظة يفرد في أول الكتاب شرحاً مفصلا لها، وهو كالتالي : نواكشوط: هو المكان الذي تكثر فيه المراعي والنباتات وتتصف بالملوحة، نواكشوط: المكان الذي يكثر فيه هبوب الرياح.. نواكشوط: المكان الذي إذا حفر انبجس منه ماءٌ كثير، نواكشوط: تعني قصير الأذنين أو فاقدهما، نواكشوط: هي البئر.. طيب، تعالوا نتلمس هذه الشروحات في لوحة الكتاب، وبالنظر إليها ملياً سنضرب (الصواب أضرب) بكل ما شرحه الخضر عرض الحائط، لأن مكوناتها توحي بمعنى واحد هو موريتانيا البلد المعروف بدء بالرمال المنثورة في اللوحة، وانتهاء بهيئة الطفل (أسمر اللون، جالس يقرأ، ويضع فوق رأسه غطاء)، والمحيط لا ماء فيه، ولا نبات، وحتى الطفل لو صور بغير غطاء الرأس لثبت أنه بأذنين كبريتين .. هو عنوان فيه احتيال إذاً، وكنائي كما يقول جيرار جنيت، تحضرني هنا بعض عناوين الروايات الشبيه بهذا الأمر، مثلا رواية الأب غوريو لبلزاك، للوهلة الأولى يبدو أن البطل سيكون هو أبا البنات، أو الشيخ خائر القوى الذي سيموت كمداً بسبب جحود بناته؛ غير أن الأمر ليس كذلك البتة لأن البطل شخص آخر تماماً هو (راستنياك)، كان يلزاك يسلط عليه الأضواء، ويحتل مركزية الأحداث، كذلك في رواية "الفرسان الثلاثة" لألكسندر دوما، لا يكون البطل فيها إلاّ الفارس رقم 4.. الخضر يحب ممارسة هذا الاحتيال اللذيذ على القارئ في اختيار عناوين كتبه، حدث هذا معه في مجموعته القصصية "قصتي مع جاكي شان، وجنية الكتب .."، ولنتساءل ما العلاقة بين جاكي شان وجنية ليس للكاراتيه ولكن للكتب؟ ! أما "نواكشوط الكتابة" فأجده غير إشهاري البتة. ولعل داعي الغرابة، هنا، هو كلمة "نواكشوط" التي تذهب بنا رأساً إلى موريتانيا- حسب لوحة الكتاب خاصة- ولا شيء إذاً مما ذكره الخضر في شرحه لها. ثانياً: "نواكشوط الكتابة" من الداخل هو كتاب من جنس المقال، والكتابة فيه ليس سهلا، لما يحتاجه هذا النوع الأدبي من براعة ودقة وحسن التخلص وضرورة التركيز. يضم الكتاب سبعة وثمانين (87) مقالا في حقول مختلفة (حول السياسة، والتربية، والسرقة الأدبية، والثقافة، والدين، والتعليم، والفن، ونقد ظواهر اجتماعية شتى، والثقافة، والمرأة، والكتب، والشعر، و...) وإن كان سيركز كثيراً على هم واحد هو الكتابة.. لذا، أجد أن عناوينَ حول موضوع الكتب والكتابة تتكرر بشكل لافت وقوي، بل وتفضح عشقه الأولي، والسرمدي للكتب... لنتأمل هذه العناوين: نواكشوط الكتابة، وتعالوا نأكل الكتب، والحياة السرية للكتب، والكاتب ليس مسيطراً، وقصتي مع الكتب، وحكايتي مع الكتابة، وأبناء الريف لا يحبون الكتب، ولعبة الكتابة، وبائع الكتب والدكاترة، والكتابة وشد الاهتمام، والنشيد الحزين للكتابة، والكاتب والكتابة، والكتابة خلق الله، والكاتب هبة الله، والكاتب كائن منفعل، ومصطفى محمود والمرأة والكتابة، والكاتب لا يسكت عنه الغضب، والكاتب وأحمر الشفاه، وهكذا أقرأ.. هكذا أكتب، وأصدقاء الكاتب لا يقرؤون كتبه، والكاتب والنية .... قرأت كتاب "نواكشوط الكتابة" مرة ومرات، ولفت نظري أمرٌ غريب، يبدأ الخضر الكتاب بكلمة (آه)، وب (آه)ثانية في المقال الموالي مباشرة، ويختمها بمقال سماه "توبة".. يتألم الخضر، إذن، حقيقة إنه يتألم من واقع ما، ومن حالة، ومن مرض ما، والمتألم حين يرى إلى جرحه الداخلي والخارجي لا يفكر سوى في دواء لهذا الجرح أملا في اندماله، وقد يكون الدواء إما عقاقير، أو جراحة، أو .. وقد يكون اتخاذ قرارات مصيرية كالانتحار، أو "التوبة"، والخضر يختار التوبة عن الكتابة.. ولأني أعرفه جيداً (أرضة الكتب) فهذا من رابع المستحيلات.. هو يحتال علينا بدءًا من عنوان كتابه، وانتهاء بقراره الغريب، وهو العاشق، الصامت، الصارخ، الغارق في الحروف حتى أذني. (هل تاب العطر الفاغم على خدر امرأة خاطئة فأتوب تلك ذنوبي فدعوني).. وذنب الخضر الورياشي أنه كاتب، وكاتب فنان، يحمل في ذاتك علة المجتمع، تلك التي يداويها للناس . والطريف هو أن الخضر الذي يقرر التوبة عن الكتابة يرى أن علاج المرضى والحزن، والألم هو قراءة الكتب.. هو قراءة الكتب مكررة. ويسرد قصة جميلة ل صلاح نيازي الذي ضاقت به الدنيا، ولم يرتح سوى عندما ترجم الرواية العالمية "عوليبس" للإيرلندي جميس جويس .. فرق واحد بين الطبيب والفنان هو أن الطبيب رجل سليم، رجل يداوي مرضى،.. ولكن الفنان طبيب لا بد أن يحمل في ذاته وقلبه العلة التي يدوايها للناس، ليس المفروض أن يحس الطبيب بألمك، ولكن الفنان لا بد أن يحس بألم الناس حتى يعطيهم دواء للصبر، وهذا هو دور حملة الأقلام أيضاً، فإذا تاب هؤلاء عن الكتابة فالحياة تصبح دوحة لا يرجى جناها. ثالثا: كلمة في حق الكاتب الخضر الورياشي تتبعت برنامجاً إذاعياً بثته إذاعة ميدي1 عبر الأثير ذات ليلة رمضانية بتاريخ 22/8/2011، (ما زلت أتذكره للآن) خصته المنشطة لسؤال طرحته مجلة إيطالية لمناقشة ملف عن "الكاتب الناجح". ولتقريب هذا الموضوع الحساس ولبسطه أكثر، وضعت عدة أسئلة؛ من أهمها: ما هو معيار الكاتب الناجح؟، وهل هناك معيار أصلاً؟.. والحق أن حلقة البرنامج أثارتني بغنى النقاش الرصين. ولعل أهم ما طرح هو أن الأمر قد يتعلق، حين نتحدث عن كاتب ناجح، بكثرة رسائل الإعجاب التي يتلقاها عبر البريد الأرضي، أو لايكات، أو جيمات في فيسبوك، أو ترجمة كتبه إلى لغات أخرى، وربما بما يولد عنده من أعداء، أو بتحويل إنتاجاته إلى أعمال سينمائية، وربما... وربما... سألت نفسي يومها: ألا يكفي أن يكون الكاتب ناجحا لأنه كاتب بدون فلسفة؟.. سؤال مشروع.. لكن هل الكتب متشابهة؟.. أعتبر الخضر كاتباً ناجحاً؛ لأنه حين يبدع يراهن على الاختلاف؛ والتميز سمة يحرص على أن تحمل توقيعه بحيث حين تقرأ له تقول: "هذه لغة الخضر الورياشي، هذا أدب فيه رائحة خضراء (نسبة إلى الخضر طبعاً)".. والخضر الورياشي له حظوته، لا يمكن أن تقرأ له دون أن يستوقفك، حين يقرأ ما يكتبه في مناسبة أو أخرى، وعلى الهواء مباشرة، تلتاع إليه الأعناق إعجاباً، وإحساساً بأن ما يقول يستحق الإنصات.. يوم قرأ على ضيوف الناظور في المهرجان العربي للقصة القصيرة جداً/ النسخة الثالثة في مارس 2014 نصه "نبي إبليس" احتدت الأكف بالتصفيق، صفق له الجميع بحرارة، فأبهر، ولفت الأنظار، وكثير ممن حضر يومها لم يمنع سؤاله: من هذا؟.. هو كاتب ناجح لأنه يرفع شعار "اقتلوا العادية" حسب دعوة حنا مينة رحمه الله، يكتب بإسهاب، في القصة، وفي الخاطرة، وفي الفن، وفي النقد؛ لكنه يحرص على الجدة، والفرادة، والتنوع، وهي صفات تجعل منه كاتباً نجماً.