في يناير من سنة 1954، بعد عمليات السوق المركزي ومركز الطرود البريدية والقطار الرابط بين الدارالبيضاء والجزائر، وبعدما اكتشف الفرنسيون عددا مهما من أعضاء المنظمة السرية منهم من اعتقلوه، ومنهم من نجح في الإفلات واللجوء إلى المنطقة الشمالية أو إلى مدينة سيدي إفني بالجنوب، انتفض المرحوم محمد الزرقطوني ونحن برفقته وأسرعنا في تحركاتنا لاجتياز هذه المرحلة الصعبة التي خلقت أزمة خانقة داخل قيادة المنظمة السرية.. حقا، لقد عشنا أزمة صعبة؛ لأن كل الذين ألقي عليهم القبض وكل اللاجئين إلى المنطقة الشمالية أو إلى مدينة سيدي إفني بالجنوب، كانوا هم المؤسسين الأولين، ويمثلون قوة فكرية وعملية على صعيد الدارالبيضاءوالرباط وكل المدن المغربية الأخرى، ولم يكونوا مجرد فدائيين يقومون بأعمال ضد المستعمر؛ ولكنهم كانوا النواة الأولى والنخبة التي توجّه وتسيّر وتخطط وتبحث عن السلاح وتجند المواطنين، وكانوا يتحلون بالشجاعة والصدق والوفاء والإخلاص، يعبرون عن تشبثهم بأصالتهم المغربية وحبهم للجهاد دفاعا عن دينهم ووطنهم وملكهم، ويمتاز البعض منهم بخصال أخلاقية نادرة، وبديناميكية في العمل، وسعة في الصدر، وطلاقة في اللسان، تساعده على التأثير في الناس وإقناعهم بخوض غمار الكفاح لتحرير وطنهم. في ظل هذه الوضعية الحرجة، سارعنا إلى البحث عن مراكز أخرى جديدة بعيدة عن أنظار الفرنسيين الذين شنوا علينا حملة واسعة النطاق، وكان لزاما علينا العمل على إدارة الأزمة بترو وحكمة بعد اعتقال عدد كبير من رجال المقاومة من جهة، والبحث عن أماكن جديدة من جهة ثانية، لضمان أمن تحركاتنا وسرية اتصالاتنا؛ فتقلص عدد المؤطرين الذين كان لهم اتصال بالخلايا والجماعات في مختلف المدن المغربية، فعقد المرحوم محمد الزرقطوني عدة اجتماعات مع من بقي من أعضاء المنظمة السرية في منزلي بدرب بوشتنوف، للبحث عن وسيلة للخلاص من هذه الأزمة الخانقة، وعمن سيخلف الفدائيين والمقاومين الذين سجنوا أو هاجروا إلى المنطقة الشمالية أو إلى مدينة سيدي إفني. كان الشهيد محمد الزرقطوني يمتاز عن غيره بفضيلة الاعتراف بعظمة الرجال، ويسعى إلى التعرف بهم والتعاون معهم. وفي اجتماع لنا بمنزلي، فاجأنا محمد الزرقطوني بذكر اسم شخص كنت أسمع عنه ولم أكن أعرفه. وقال: "هناك شخص مسجون عند الفرنسيين لو تمكنا من تهريبه لربحنا الكثير، وعوضنا خسارة بعض الفدائيين الذين فقدناهم". فقلت له: "ومن هو هذا الشخص؟ وبماذا يمتاز علينا؟ وما علاقته بالمقاومة؟". فقال: "إنه شخص ذكي ومثقف، وعلى دراية كبيرة بما يجري داخل المغرب وخارجه، ويحمل فكرا ثوريا، وكان على رأس مجموعة كبيرة من الوطنيين المغاربة ويتمتع بعزيمة قوية، وأكثر من كل هذا رجل وطني من الطراز الرفيع، ويستحق أن يكون مسؤولا عن تسييرنا وتوجيهنا". فقلت لمحمد الزرقطوني: "هل له تجربة في هذا الميدان حتى يصلح لهذه المهمة؟". فقال: "له تجربة رائدة وشجاعة ووطنية، بدليل أنه لما ألقي عليه القبض من طرف الفرنسيين، أحضروا له مجموعة كبيرة من مسيري جماعات حزب الاستقلال اتهموه كلهم بالمشاركة معهم كرئيس لهم وبتزويدهم بالمناشير، واتهموه كذلك بكونه المسؤول الأول عن التسيير والتوجيه، كما عثر البوليس الفرنسي على اسمه على رأس قائمة أسماء مسيري الحزب بمدينة الدارالبيضاء، في الوثائق التي وجدوها في منزل المرحوم بناصر حركا ". وأضاف: "كان ذلك في نهاية سنة 1952، إلا أنه أنكر معرفته بالجميع، ونفى كل التهم المنسوبة إليه، مما جعل البوليس يخضعه العمليات التعذيب الوحشي لأزيد من 22 يوما دون توقف، ويقال إن رجليه نزفتا بدم أسود من شدة الضرب وقسوة التعذيب، ومع ذلك لم ينتزع منه البوليس الفرنسي كلمة واحدة، أو اسما لواحد من الوطنيين الذين كان يخوض إلى جانبهم المعركة السياسية، بفضل شجاعته وصموده؛ الشيء الذي استغرب له أحد الضباط الفرنسيين، حيث قال: "لو كان كل المغاربة مثل هذا الرجل، فالتعذيب لن ينفع معهم وما على الفرنسيين إلا الرحيل عن المغرب"، هذا الضابط حاول أن يقدم له كأسا من الحليب أثناء الاستنطاق فأخذه منه ورمي به على وجهه، فما كان على هذا الضابط إلا أن زاد في عذابه وينزل به أشد أنواع التعذيب قسوة. وبعد ذلك، حمل وهو منهوك القوة ومكسر العظام على متن سيارة البوليس ملفوفا في ثوب إلى سجن أغبيلة في حالة ميؤوس منها، وقدم للمحاكمة يوم 6 دجنبر سنة 1953 ضمن مجموعة كبيرة من مسيري حزب الاستقلال. هذه هي تجربة هذا الرجل باختصار. فقلت له: "إذن، ما اسمه؟". فقال: "اسمه محمد الناصري، وكان يشتغل مديرا بشركة "لافاسك" عند صديقه إبراهيم الروداني". حضر هذا الاجتماع، الذي عقد في منزلي كل من حسن "الأعرج" الذي استأنف نشاطه بعد أن تأكدنا أن اسمه لم يذكره أي من المقاومين المعتقلين لدى جهاز الشرطة الفرنسية ومولاي الطيب الامراني وحسن السكوري قبل التحاقهما بالمنطقة الشمالية ومحمد بنموسى قبل التحاقه بمدينة سيدي إفني بالجنوب المغربي. وفي هذا الاجتماع، سألني محمد الزرقطوني عن السلاح، فأخبرته بأنه يوجد عندي مسدسان واحد من نوع 6.35 ملم والآخر من نوع 7.65 ملم، أما حسن الأعرج فأخبره بأنه يتوفر على مسدسين من نوع "نوفيل لاركو"، مخبئين في مطحنة الدقيق الموجودة بدرب الطلبة، فطلب مني الذهاب معه وإحضارهما، فذهبت رفقة حسن الأعرج وأحضرتهما له. "رسالة مكتب تحرير المغرب العربي" ذات يوم، وفي إطار هذه الاجتماعات، أطلعنا محمد الزرقطوني على فحوى رسالة توصل بها من رجال الحركة الوطنية في المنطقة الشمالية، تلتمس منه مواصلة العمل الفدائي؛ لأن أعضاء مكتب تحرير المغرب العربي بالقاهرة أخبروهم، أنهم بعد اتصالهم بالمسؤولين المصريين من أجل دعم كفاح الشعب المغربي، اشترطوا عليهم أن تقوم قيادة المقاومة في المغرب بتنفيذ عدة عمليات فدائية كبيرة، وقبل القيام بها إعلامهم بنوعية العمليات والتاريخ الذي حدد لتنفيذها، ليتأكدوا بوجود مقاومة ونضال من طرف الشعب المغربي، وتكون دليلا يبرهنون به على أن لهم علاقة مع قيادة المقاومة المغربية، فاقترح علينا محمد الزرقطوني إحراق مستودعات ومحطات توزيع البترول فقط وعدم التعرض لعمالها، وأكد على ضرورة الإسراع في تنفيذ هذه العمليات، وأضاف أنها مناسبة لنؤكد فيها كذلك للمستعمر الفرنسي وللجميع استمرار أعمالنا الفدائية وأن حملات القمع التي استهدفت مقاومينا وفدائيينا ورجالنا وجهادنا لن ترهبنا ولن تضعف صمودنا، ولنساهم كذلك في تدعيم العمل الدبلوماسي لرجال مكتب تحرير المغرب العربي. وفي هذا الاجتماع، ناقشنا الفكرة والخطة التي ستقوم بها، وحددنا المستودعات والمحطات المستهدفة التي سنهجم عليها، فكانت أكثر من 10 محطات. وحددنا الخلايا والجماعات التي ستتولى التنفيذ، وتركنا لقادتها مهمة اختيار الأفراد. وهكذا، فجر الفدائيون المستودع الرئيس لشركة شال في روش نوار، وقد سبب انفجاره خسائر هائلة تقدر بالملايين، وأحرقوا عدة محطات للتوزيع، محطة في طريق الرباط، ومحطة في طريق الحي المحمدي، ومحطة في طريق مديونة مجاورة لمعمل الكارتون، ومحطة بالقرب من سوق الجملة الخاص ببيع الخضر في شارع يوسف بن تاشفين، ومحطة قريبة من حديقة الحيوانات في عين السبع، ومحطة أخرى في درب بنجدية بشارع المقاومة حاليا... وباقي العمليات لم يكتب لها النجاح، ولم تستعمل فيها الأسلحة، ولم تكن هناك خسائر في الأرواح، بل خسائر مادية فقط، على الرغم من أن البعض يريد أن يضخم الأشياء. أصدرت الجرائد، على صفحاتها الأولى، خبر الهجمات الفدائية مع صور للمحطات التي شبت فيها النيران، وحققت هذه العمليات الفدائية أهدافها، ووصلت الرسالة إلى إخواننا في المنطقة الشمالية وإلى رجال الحركة الوطنية بمكتب تحرير المغرب العربي، وتأكد أشقاؤنا في مصر أن المقاومة مستمرة في المغرب. "اقتحام منازل حي بوشنتوف" بعد هذه العمليات، جرى إلقاء القبض على أغلبية رموز المقاومة. وعلى الرغم من هذه الاعتقالات، تضاعف عدد العمليات الفدائية؛ وهو ما أربك الفرنسيين ودفعهم إلى تكثيف المراقبة بإقامة الحواجز وتفتيش المواطنين في الشوارع أثناء ذهابهم ورجوعهم من أعمالهم، مع تغيير ساعات التفتيش. وقد اكتشف البوليس الفرنسي بعد عملية مولاي زيدان الجزار، وبعد اعتقال مجموعة من الفدائيين أن أغلبهم من "درب السلطان" وبالأخص من "حي بوشنتوف" ومن "المدينة القديمة" فقرروا مداهمة "حي بوشنتوف". وانطلقت الحملة عند منتصف الليل، وقاموا بمحاصرة الحي سالف الذكر من شارع "بني مكليد" إلى شارع السويس "الفداء حاليا"، ومن نفس الشارع إلى محطة القطار، بواسطة قوات الجيش المتكونة من الفرنسيين والسنغاليين. وكان أفراد البوليس الفرنسي يقتحمون المنازل شاهرين مسدساتهم؛ وكان يسكن معي في منزلي محمد بولحية إيفقيرن وزوجته وولده، الذي قدم بهم محمد الزرقطوني بعد اكتشاف عرصة لارميطاج ليسكنوا معي، وكان معجبا ببطولته وشجاعته. وقد ساهم محمد بولحية في إعداد قنبلة السوق المركزي والعديد من العمليات الأخرى، وكان الشهيد محمد الزرقطوني يوصيني به كثيرا، كما كنت أخبئ بعض المفرقعات وحروف الرصاص لطبع المناشير. كان محمد الزرقطوني قد سلمّني حقيبة توصل بها من المنطقة الشمالية تضم حروفا باللغتين العربية والفرنسية تخص المطابع، وهذه الحروف هي التي صفف بها سليمان العرائشي في منزلي المنشور الثاني الذي سيطبع في مطبعة الأطلس. وقد أبدى محمد إيفقيرن تخوفه؛ لأنه لا يملك بطاقة التعريف، فقلت له: "اطمأن أنت ولا تحمل هما، وسأتكلف أنا بكم". خرجت من شقتي، ونزلت السلالم، وفتحت باب المنزل، ووقفت أنتظر قدومهم، وعندما وصلوا رحبت بهم باللغة الفرنسية على الرغم من أن الثلاثة كانوا شاهرين رشاشاتهم ومسدساتهم، وسبقتهم في صعود السلالم وأدخلتهم الشقة التي كان نورها مضاء، وذهبت بهم مباشرة إلى غرفتي، حيث توجد المفرقعات وحروف الرصاص مخبأة تحت الرفوف السفلية لخزانة الملابس، وتعمدت أن أفتح لهم الخزانة وأفرغتها من جميع الملابس، تم رفعت لهم أغطية الغرفة وما تحت السرير، وذهبت بهم إلى الغرفة التي يوجد بها محمد إيفقيرن فلم يهتموا به، لأنني مباشرة شرعت في كشف كل أثاث الغرفة بمجرد ما دخلت، حتى لا يثير حضور "بولحية" انتباههم. بعدها، أرشدت أفراد البوليس الفرنسي إلى المطبخ والمرحاض، وأفرغت لهم حتى السطل الذي نجمع فيه قمامة الأزبال، والظاهر أنهم اطمأنوا لتصرفاتي، فانصرفوا وهم يشكرونني بقولهم "ميرسي ميرسي". وقد استغرقت عملية المحاصرة وتفتيش المنازل ما يقرب من سبع ساعات، وغادروا المنطقة بعدما اعتقلوا ما يزيد عن 700 مواطن وحجزوهم قرب المدرسة المشهورة بمدرسة زروق بحي بوشنتوف. وحوالي الساعة السابعة صباحا، حملوهم على متن الشاحنات إلى مركز الشرطة، وعلى الرغم من أنهم عثروا على بعض الأسلحة فإنهم لم يكتشفوا فدائيا واحدا. بعد ذهاب أفراد البوليس الفرنسي بما يقرب من ساعة، طرق باب المنزل محمد الزرقطوني وطلب مني أن أصحبه إلى حديقة بوشنتوف لأحكي له عما حدث، وليطمئن علي وعلى محمد إيفقيرن وعلى أمر المفرقعات وحروف الرصاص، فحكيت له كل شيء بالتفصيل وبأنهم لم يشكوا في محمد إيفقيرن؛ ولكن محمد الزرقطوني أوضح لي أنّ هدفه من استفساراته هو أنه يريد أن يعرف الأسلوب المتبع في التفتيش من لدن أفراد البوليس الفرنسي، والأماكن التي يركزون عليها في بحثهم، حتى يكون على حذر وينبه بقية الفدائيين. *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]