تميّزت أشغال المناظرة الثالثة للجبايات، التي انعقدت بالرباط مؤخرا، بمواجهة كلامية بين الكاتب العام لوزارة الاقتصاد والمالية وبين رئيس فيدرالية المصحات الخاصة بالمغرب؛ وهي المواجهة التي تطورت إلى التهديد بمقاضاة هذا المسؤول، بدعوى أنه أساء إلى القطاع الطبي الخاص دون أن يدلي بأدلة تثبت تهرب هذا القطاع من أداء واجباته الضريبية وكذا تعامله بالنوار. ولعل هذه الواقعة، التي تبدو في ظاهرها عادية في دولة عصرية وديمقراطية، تكشف في العمق عن اختلال كبير في العلاقة التي أصبحت تجمع بين الدولة وبين القطاع الخاص، نتيجة لتراجع دورها في المجال الاجتماعي منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين. تراجع الدور الاجتماعي للدولة وتسليع جسد المريض من المعروف أن دخول الطب العصري إلى المغرب خضع في البداية لمنطق وعسكري سياسي بحت، حيث استخدمت السلطات الاستعمارية هذا القطاع كآلية من آليات التأثير في الأهالي من خلال إظهار الجانب الإنساني والحضاري للتوسع العسكري والسياسي الاستعماري؛ فقد كان الماريشال ليوطي يؤكد على أهمية ودور الطبيب العسكري في عملية التهدئة واستمالة عواطف الأهالي. وبالتالي، فقد كان بناء المستوصفات والمستشفيات يدخل ضمن التركيبة الإدارية الاستعمارية في تسيير المغرب كبلد للحماية. وبالتالي، فقد حرص الطاقم الطبي الاستعماري على تطهير الأهالي من عدة أمراض كانت تنخر الجسد المغربي من طاعون وجذري وجذام وسل وأمراض جلدية وبدنية أخرى، من خلال حملات طبية توزع فيها الأمصال والأدوية التي كانت تختلف عن العقاقير الطبيعية والأساليب الخاصة من حجامة وكي، التي كان يلجأ إليها المغاربة للحفاظ على صحتهم البدنية طيلة عدة قرون. وقد أدت هذه التحولات إلى خلق ازدواجية في المجال الطبي تضاهي كل الازدواجيات التي نجمت عن هذا التدخل الاستعماري (حكومة شريفة وحكومة عصرية، ترابية قواد وباشوات وضباط الشؤون الأهلية، صناعة عصرية مقابل صناعة تقليدية، لباس عصري ولباس تقليدي...). فبمقابل الطب المغربي الذي كان يقوم على نظرة خاصة للجسم تقوم على التداوي بالأعشاب والمراهم الطبيعية، اكتسح الطب العصري المجال الصحي المغربي بنظرة مغايرة للجسم البشري من خلال التعامل معه بأدوية المختبرات التي تقوم على المواد الكيمائية والأدوية المصنعة، رابطة بذلك البلاد بالسوق الرأسمال الطبي الذي يقوم على الاستثمار والربح. وقد ترسخ هذا المنظور بعد استقلال المغرب، وبالأخص بعد خوصصة القطاع الصحي واقتحام الرأسمال الخاص لهذا القطاع، حيث أصبح جسد المريض أداة للاستثمار بل والاتجار والتكالب على تحقيق أعلى الأرباح. وهكذا، أصبح يحدد سعر الفحوصات والعلاجات طبقا أرقام وتكاليف، ويميز فيه بين المرضى طبقا لإمكاناتهم المالية والمادية في مجتمع ما زالت فيه التغطية الصحية مقتصرة على فئات مستخدمي القطاع المنظم الذين يخضعون بدورهم لنظام الدفع المسبق والتعويض المؤجل. وقد أدى هذا الوضع إلى التراجع التدريجي للنظرة الإنسانية في تعامل الطاقم الطبي مع مرضاه، إذ أصبح ينظر إلى المريض بنظرة تجزيئية يتم يركز فيها الطبيب المعالج على الخلل العضوي والأعطاب البدنية مع إغفال الجانب الإنساني. فعادة ما يتناسى الطبيب المعالج الوضعية النفسية والاجتماعية لمريضه، ويركز على أسئلة تقنية تهم العضو المصاب، أو مصدر الآلام، أو طبيعة الأعراض، حيث ينعكس ذلك بالخصوص في المدة الزمنية المخصصة لفحص كل مريض والتي تطول أو تقصر حسب اكتظاظ عيادات الأطباء، وأجندة الأطباء، حيث تصبح المقولة الرأسمالية المتداولة لدى رجال الأعمال ( الوقت هو المال أو Time is money ) هي التي أصبحت تحدد تعامل الأطباء مع مرضاهم وتحدد المدخول المادي لكل طبيب. ولعل ما يؤكد هذا الوضع هو تدخل الدولة في تحديد سعر الفحص الطبي تبعا لنوعية التخصص الطبي؛ فهناك سعر لفحوصات الطب العام، وسعر آخر للأطباء المتخصصين وهكذا، كما أن هناك اختلافا في سعر العمليات الجراحية الذي يتحدد وفق طبيعة مرض كل عضو أو طبيعة أي ورم وهكذا. ولعل هذا المنطق الرأسمالي، الذي تقوى إلى درجة التغول والتوحش، قد تضاعف في المجال الصحي بعدما جرى تخريب القطاع الصحي العمومي بآليات سياسة التقويم الهيكلي. فعلى غرار الأساليب التي اتبعت لتخريب قطاع التعليم العمومي وتأزيمه من خلال نشر ثقافة الربح الفردي عبر الساعات الإضافية وتشجيع الاستثمار الجشع في قطاع التعليم الخصوصي، تم اللجوء إلى نفس الأساليب من خلال تشديد الولوج إلى كليات الطب العمومي، ومنافسة هذه الأخيرة بكليات طب تابعة للقطاع الخاص، وفسح المجال أمام أطباء القطاع العام للاشتغال في العيادات الخاصة، أو تحويل بعض مرضى المستشفيات العمومية التي يزاولون فيها على العيادات الخاصة مقابل عمولات محددة. وبالتالي، فقد أصبح جسد المريض ضمن هذا الوضع (المركنتيلي) سلعة لمراكمة الأرباح، وآلية من آليات تحسين الوضع الاجتماعي لشرائح الأطباء، حيث تحول المريض وفق هذا المنظور الرأسمالي المتوحش من مريض بالمفهوم الطبي الغربي بمسحته الإنسانية ( patient ) إلى زبون بالمفهوم السلعي بمسحة تجارية. ولعل واقعة القاضي، الذي قضى أمام باب عيادة خاصة رفضت استقباله قبل أن يدفع شيك ضمان مالي، لتجسد بشكل بشع تغول المنطق التجاري الذي أصبح يتحكم في القطاع الصحي بالمغرب منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. تقوي اللوبي الطبي والتهرب الضريبي يبدو أن تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي المتمثل في ضمان الصحة العمومية لكافة المواطنين والمواطنات الشيء الذي انعكس من خلال التسمية الرسمية التي أصبحت تلصق بوزارة الصحة بعدما تم التخلص من تسميتها السابقة (وزارة الصحة العمومية) لتعكس هذا التخلي التدريجي للدولة عن مجال حيوي للقطاع الخاص بدعوى محدودية الإمكانيات المالية. وهكذا، فسح المجال للقطاع الخاص للاستثمار ليس فقط في فتح العيادات؛ بل أيضا في بناء مصحات لمباشرة عمليات جراحية عادة ما يقوم بها أطباء من القطاع العام الذين يستغلون المشاكل اللوجستيكية والتدبيرية التي تعاني منها المستشفيات العمومية لتحويل العديد من المرضى الذين يتوفرون إما على تغطية صحية أو لهم بعض الإمكانات المالية الأخرى على مصحات يزاولون فيها عملياتهم الجراحية وفحوصاتهم الطبية مستغلين الساعات الإضافية التي رخص لهم بها القانون لكي ينغمروا في وتيرة عمل متكالبة غالبا ما تكون على حساب ساعات اشتغالهم بالقطاع العمومي، على غرار ما يتم في قطاع التعليم الخصوصي الذي يشتغل خاصة في طوريه الإعدادي والثانوي بأساتذة القطاع العام الذين أصبحوا بدورهم عبارة عن عدادات تعليمية تلهث وراء الدروس الخصوصية والساعات الإضافية التي يحدد سعرها بالمدة ونوعية المادة... وهكذا، تحول القطاع الطبي الخاص إلى لوبي يتقوى يوما بعد يوم، مستغلا وضعية المستشفيات العمومية المهترئة ليدافع عن مصالحه بشراسة منقطعة النظير، إذ كيف يعقل أن تهدد المصحات الخاصة بوقف التعامل بالتغطية الصحية فقط؛ لأن التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية (الكنوبس) عبرت عن استغرابها من تزايد اللجوء إلى العمليات القيصرية في الولادات التي تهم منخرطيها، مانحة وزارة الصحة مهلة شهرين لمراجعة التعريفة المرجعية المعتمدة من طرف هذه الوزارة. وفي هذا السياق، يمكن أن يفهم التطاول الذي تعرض إليه مسؤول كبير لوزارة محورية في الهرمية الحكومية للدولة من طرف رئيس جمعية المصحات الخاصة، فقط لأن هذا المسؤول أبدى استغرابه، خلال مناظرة رسمية منظمة من طرف إحدى المديريات التابعة للوزارة التي يشرف على تسييرها وحضرتها كل الفعاليات بما فيها القطاع الطبي الخاص، من مسألة مطالبة المصحات للمواطنين بضرورة أداء شيك قبل العلاج قائلا: "ماذا يعني أن تطلب المصحة من مواطن في حاجة إلى العلاج شيكا؟ وماذا يعني أن تربط العلاج بالأداء نقدا؟". وبالتالي، فقد كان إبداء هذا الاستغراب المشروع حول ممارسات طبية أصبحت معروفة لدى العموم ولا تحتاج إلى أدلة دامغة للوقوف عليها كافيا ليحرك هذا القطاع ترسانته الثقيلة لمهاجمة هذا المسؤول وتسفيه رأيه، إذ بعد الرد المتهكم من طرف رئيس المصحات الخاصة على رأي المسؤول خلال المناظرة، قررت الجمعية الوطنية لأرباب المصحات الخاصة بالمغرب اللجوء إلى القضاء ضد المسؤول المذكور وتسطير برنامج تصعيدي، يشمل إضرابا لأسبوع كامل، احتجاجا على ما اعتبرتها “الافتراءات” تسيء إلى المزاولين في هذا القطاع. وهكذا، صرح رضوان السملالي، رئيس الجمعية الوطنية للمصحات الخاصة، لأحد المواقع الإلكترونية، بأن "الكلام الصادر عن الكاتب العام لوزارة الاقتصاد والمالية مرفوض رفضا مطلقا، وأن هذا التصريح يأتي في الوقت الذي نقوم في إطار الشفافية مع إدارة الضرائب بالتوصل إلى حلول، حيث تم حل جميع المشاكل التي كانت عالقة.... فالمراجعة الضريبية التي تمت مع الإدارة التي يعد مسؤولا عنها لم تتجاوز واحدا في المائة، بينما يتحدث عن كون المصحات تختلس تسعين في المائة من المداخيل الضريبية". وبدورها، دخلت النقابة الوطنية لأطباء القطاع الحر على خط مواجهة هذا المسؤول، حيث صرح رئيسها لإحدى الصحف اليومية بأنه قد "تمت مباشرة الإجراءات القانونية لمقاضاة الكاتب العام للوزارة، ووضعت في حقه شكاية بتهمة السب والقذف وترويج معطيات مغلوطة الهدف منها التجريح في الجسم الطبي.... فبعدما كانت المناظرة احتفالية بمعنى الكلمة، ومحجا لمختلف الفاعلين والمعنيين، فوجئنا بمداخلة غريبة للكاتب العام لوزارة الاقتصاد والمالية، أقل ما يمكن القول عنها إنها “غير مسؤولة، وتحمل الكثير من التحقير والوصم لمهنة الطب ككل، لم تصدر سابقا على لسان مسؤول من هذا المستوى". ومختلف هذه التصريحات تظهر بشكل لافت تقوي هذا اللوبي الطبي وتمسكه بالدفاع عن مصالحه بشراسة ضارية لم تنجح أخلاقيات مهنة الطب الإنسانية التي نحتها قسم أبي قراط منذ عهود من لجمها والتحكم فيها؛ فالتهرب الضريبي لا يحتاج إلى التدليل عليه، فعيادات الأطباء التي لا يصرح إلا بقسم من أرقامها، والنوار الذي يشكل عملة رائجة في التعامل مع بعض المصحات؛ لكن من الصعب إن لم يكن من المستحيل معاينتها من طرف أجهزة مديرية الضرائب ما دام أن المرضى وأسرهم عادة ما يرفضون أو يتهيبون الكشف عن هذه الممارسات خوفا من أي إجراء ضدهم لا تسمح بها وضعيتهم الهشة وقوة اللوبي الطبي التي تهمين على هذا القطاع. ولعل الثراء الذي أصبح يرفل فيه العديد من كبار الأطباء وما يقتنونه من أراض وأملاك ليعكس إلى حد كبير هذا التحول الذي طرأ على جسم الأطباء والذي حول بعضهم إلى آلات مركنتيلية مصابة بسعار الربح والكسب المادي يتناقض بشكل كبير مع رسالة الطب كما حددها ورسمها أبوقراط وقسمه، وكما تزاول في العديد من الدول المتقدمة كفرنسا والدول الإسكندنافية التي تعتبر فيها صحة الإنسان وإسعافه ومداواته فوق كل اعتبار مادي أو مكسب مالي. وبالتالي، فإن العريضة التي أطلقت لمساندة هذا المسؤول في مواجهة غطرسة اللوبي الطبي وإرهابه التنظيمي والدعائي يشكل بلا شك مساندة معنوية لمسؤول جريء أكد في مناظرة رسمية أن النصوص والقوانين ليست هي التي يجب تغييرها بل العقليات والأشخاص، داعيا إلى "ضرورة تحرك الجميع لنعيش بحق مفهوم المواطنة".