الصيام فريضة فرضها الله على عباده لما فيها من الخير الكثير للإنسان، ولكنه أعطى رخصة للمريض بأن يفطر تبعا لتعليمات الطبيب ولفتوى دينية متى ما بدا بأن الصيام قد يضر بالمريض؛ غير أن الجديد الذي جاء به العلم الحديث هو أن للصيام فوائد كبيرة لمرضى السرطان، وهو ما يتماشى جليا مع مضمون الآية الكريمة من سورة البقرة في قول الله تعالى: "وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ." (البقرة : 184). أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية أن مرض السرطان أصبح مرتبطا بنمط الغذاء والبدانة، حيث ازدادت الحاجة إلى التدخل في النظام الغذائي للمساعدة في علاجه؛ ومنها تخفيض معدل السعرات الحرارية المستهلكة من طرف مرضى السرطان، والتي يقررها الطبيب أو استشاري التغذية، وذلك بالاعتماد على الصيام الطبي لعدد معين من الساعات. وبالتالي فالحميات الغذائية التي يجب أن تُقرر للمريض تستلزم أن تكون مدروسة ومختصة حسب حالة الشخص، وبناء على فحوصاته السريرية والمخبرية، لأن أي زيادة أو نقصان في العناصر الغذائية يكون لها تأثيرها الكبير على جملة التفاعلات الحيوية في الجسم. في هذا السياق، نجد العديد من الأطعمة والوجبات التي تحتوي على السكريات المكررة والمعروفة ليس فقط برفع مستويات الأنسولين، ولكن أيضاً بكونها الغذاء المفضل للخلايا السرطانية، حيث تعمل على تفعيل هضم الجلوكوز بأسرع الطرق ودون الحاجة إلى الأوكسجين، ومن ثم تعزيز نموها، وهي حقيقة معروفة قبل تسعين عام. وقد كان الألماني الحائز على جائزة نوبل في الطب، أوتو فاربورغ، أول من اكتشف أن كلّا من الأورام والسرطانات تستخدم السكريات لتتغذى عليها أو لتزيد من حجمها، والسؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف يكون الصيام مفيداً لمرضى السرطان؟ كشفت دراستان طبيتان أجريتا في اليابان والولايات المتحدةالأمريكية عن فوائد جديدة للصيام في الوقاية من الأمراض الخبيثة أبرزها السرطان، حيث يساعد الصيام الجسم في تقليل معدل تركيز الجلوكوز بالدم؛ وهو يقلل من مستقبلات الأنسولين في الخلية السرطانية، ويؤدي إلى موتها. وإلى الآن، هذه الدراسات المخبرية لها فوائدها، لكن قلة الدراسات السريرية لم تجعلها في مجال الاعتراف الطبي بشكل معلن، مما زاد من وتيرة نشر المغالطات الكبيرة في هذا المجال، ومن هنا خرج مفهوم تجويع الخلايا السرطانية بالصيام، حيث يرتكز ذلك على حميات غذائية منخفضة السعرات الحرارية أو من خلال الصيام المتقطع، حيث يتم القيام بالتقليل من وصول الجلوكوز إلى الخلايا السرطانية، وبالتالي موتها. كما أن مصاحبة العلاج الكيمائي للصيام يسهم في إحداث كسور في سلسلة الحمض النووي ADN للخلايا السرطانية، وهو ما يعزز تأثير العلاج الكيميائي ويزيد من فعاليته. عدة دراسات أجريت على الحيوانات المخبرية أثبتت عملياً كفاءة وفعالية التجويع في سرطان الثدي والبروستات والدماغ وكذلك سرطان المعدة، ولكن هذا لا يمكن تعميمه على كل مرضى السرطان، لأنه من المهم استشارة الطبيب، حيث إن مرضى السكري مثلا لا ينصح لهم بمثل هذه الحميات، وكذلك المبالغة في استخدام هذه الحميات قد يؤدي إلى ما يسمي بCachexia وهي فقدان الوزن بشكل كبير جدا مع ضعف الكتلة العضلية، وبالتالي يصبح المريض ضعيفا وغير قادر على مقاومة المرض بسبب الوهن. تداول العديد في وسائل التواصل الاجتماعي مفهوم الالتهام الذاتي، ولكن ماذا عنه؟ في عام 2016 حصل العالم الياباني في مجال علم الأحياء الخلوي يورشينوري أوسومي على جائزة نوبل في الطب، لاكتشافه آليات الالتهام الذاتي، حيث ذكر أن جوع الجسد يأكل نفسه أو يقوم بتنظيف نفسه بواسطة عملية فسيولوجية طبيعية تحدث في الجسم، تقوم بتدمير المكونات الخلوية غير الضرورية أو المعطوبة داخل الخلية. كما أنها تحافظ على الاستتباب أو العمل المنظم عن طريق تحلل البروتينات التي انتهت مدة صلاحيتها، وإعادة تدوير عضيات الخلايا المدمَرة لتكوين خلايا جديدة. كما نشرت مجلة Cell العلمية العالمية بحثاً يوثق ارتباط الصيام بآلية الالتهام الذاتي، وأكدت أن الصيام يعمل على زيادة فعالية عملية الالتهام الذاتي للخلية، حيث إن تراكم الفضلات والجذور الحرة يعطل عمل عدد من الأنزيمات . ما ذكرناه في هذا المقال حول أهمية الصيام من الناحية الصحية، خاصة فيما يخص مرض السرطان، لا يقتصر فقط على الأشخاص المصابين، وإنما أيضا يساعد من يتمتعون بصحة جيدة على الوقاية من الإصابة بهذا المرض الخبيث، حيث يستخدم الجسم نفس آلية الالتهام الذاتي للتخلص من جميع المواد التي تعمل على تحويل الخلايا السرطانية النائمة إلى خلايا نشطة في جسم الإنسان المتعافى. كما بينت نتائج دراسات أخرى، أجراها فريق بحث بمركز الأبحاث السرطانية بجامعة كاليفورنيا بأمريكا، أن صوم يومين في الأسبوع قادر على حماية جسم الإنسان من الإصابة بورم سرطاني. وهنا تتجلى حكمة السنة النبوية الشريفة بصيام يومين من كل أسبوع. قال الله عز وجل: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ." (التوبة: 128). وأختم مقالي بتهنئتكم بحلول شهر رمضان المبارك، وأتمنى للجميع صوما مقبولا وإفطارا شهيا.. وتقبل الله طاعتكم. *باحث بجامعة الكسندر ألمانيا