يعود استخدام كلمة "نخبة " أو "صفوة" (Elite) إلى القرن السابع عشر، وكانت هذه الكلمة تطلق كوصف لنوع من السلع ذات الجودة الممتازة، وسرعان ما انتقل هذا الوصف إلى الطبقات الاجتماعية، خاصة تلك المتواجدة في أعلى الهرم الاجتماعي. وقد بدأت سيرورة تداول مصطلح "النخبة" بشكل أكبر خلال أواخر القرن التاسع عشر وفي ثلاثينات القرن العشرين في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص، حيث تضمنته بعض الكتابات في النظريات السوسيولوجية لكل من "Pareto" و"Mosca". والجدير بالذكر أن الصيرورة التاريخية للفكر السياسي، وما نجم عن ذلك من إنتاج فكري ومفاهيمي حول تجديد آليات ونواظم تدبير المجتمعات في الدول الغربية، قد ساهمت في خلق نقاش بل وصراع بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وعلى وجه الخصوص في صفوف المتنورة والمكفرة منها. ذلك أن منطلقات وأهداف وغايات كل طبقة تختلف عن الأخرى. فثمة طبقة تسعى إلى تمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه في سياق ما يسمى بالتمثيلية السياسية (الديمقراطية)، وهو ما أفرز ما يسمى ب"النخبة السياسية"، في بداياتها الأولى، وكانت هذه المرحلة تتسم بالصراع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية (الكنيسة). وفي المقابل، تتموقع نخبة تهدف إلى الحفاظ على مصالح فئة قليلة "الفئة الحاكمة" وهي نخبة "مدار الحكم"، ويكمن دور هذه النخبة في تبرير وشرعنة ممارسات الحاكم، مؤسسة بذلك لمنطق المشروعية "الولائية أو التبريرية". وفي سياق التحولات التاريخية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثم الثقافية، واعتبارا لتداعيات العولمة كوافد جديد يتجاوز مفهوم الدولة التقليدية، فقد انتقل دور النخبة "التبريرية" من وظيفة إضفاء المشروعية على طقوس وممارسات الحاكم، خاصة في بلدان العالم الثالث، إلى وظيفة تدليل الصعوبات التي قد تعترض الشركات العابرة للحدود، وأصحاب الرأسمال المتوحش، داخل هذه البلدان العالم ثالثية، سواء فيما يتعلق بإرساء مشاريعها أو بترويج منتوجاتها أو خدماتها. ومما لا شك فيه أن استقراء واقع العديد من حكومات دول العالم الثالث، في ظل العولمة، كفيل باستجلاء ومعاينة الأدوار والوظائف الجديدة التي تقوم بها "النخبة التبريرية"، حيث غادرت مدار الحكم متقمصة أدوارا جديدة تتماشى وحاجيات "فقه واقع العولمة"، حيث أصبح لهذه الصفوة دور "نخب السوق"، باسم الشعب لكن للأسف لفائدة الشركات العالمية العابرة للحدود وللرأسمال الليبرالي المتوحش. لقد أصبحت موجة الاستثمارات الأجنبية، على اختلاف مجالاتها وأهدافها بل ونتائجها، تغزو اقتصادات دول العالم الثالث، مما شكل أرضية خصبة لانتعاش وتطور "نخب السوق"، لاسيما المحسوبة منها على القطاع العام، على اعتبار أن القطاع الخاص مؤطر بمبدأ "حرية العمل والابتكار والمنافسة"، عكس القطاع الأول المقيد بضوابط والتزامات مستمدة في جزء كبير منها من إرادة الشعب. وتجدر الإشارة إلى أن منطق اشتغال "نخب السوق" أخطر بكثير من منطق اشتغال العولمة، فإذا كانت هذه الأخيرة لا تعترف بالحدود ولا بالسيادة كمحددين لكيان الدولة، فإن "نخب السوق" لا تعترف بالشعب كمكون أساسي للدولة، مما يعني أن ثالوث هذا الكيان، (الحدود، السيادة، الشعب)، تتعرض للتحطيم والاجتثاث من طرف قوى خارجية غير مرئية (العولمة) من جهة، وبمباركة القوى الداخلية المنتخبة، من حكومة وسلطة تشريعية (نخب السوق)، من جهة ثانية. وحتى يتضح المقصود بالوظائف الجديدة لنخب السوق، نستحضر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، بعضا من تداعيات مجموعة من الإجراءات والخطوات ذات الطابع التنظيمي والتدبيري التي تهدف إلى إحداث تغييرات مجحفة على العديد من الحقوق المكتسبة للشعب المغربي (تمهيدا لإدخال الشركات متعددة الجنسيات، والرأسمال الليبرالي المتوحش)، والتي تعود في اكتسابها إلى فترة سيادة الدولة في مفهومها التقليدي (الدولة المنقذة)، قبل أن يتم الشروع في التخلي عنها، وذلك استجابة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويتعلق الأمر بالرفع من سن التقاعد، واعتماد التوظيف بالعقدة في مجالات تتسم بالديمومة، على اعتبار أن مرسوم التوظيف بالعقدة جاء حصريا بخصوص الوظائف العرضية، أضف إلى ذلك تدمير صندوق المقاصة تحت مبررات واهية، في الوقت الذي تحفظت الحكومة في "صيغتيها" الأولى والثانية عن تحريك ملفات الموظفين الأشباح (90 ألف)، وملفات المأذونيات... وهلم جرا. ولقد عرف المجتمع المغربي سلسة من الانتكاسات والتراجعات الخطيرة على جميع المستويات والأصعدة، خصوصا بعد دستور 2011، حيث سمحت تباشير "الربيع العربي" بدخول فواعل "غرباء" عن العمل والممارسة السياسية، مما ترتب عنه صدمة لهؤلاء الغرباء بحكم سرعة ارتقائهم وانتقالهم من اعتياد الجلوس على قارعة الطريق وتناول "البيصارة" في المقاهي الشعبية، إلى الاستكانة على الأرائك ونسيان "البيصارة"، مما نجم عنه انسداد "البصائر وغياب التبصر"، عن ترجمة مضمون دستور 2011 المسطور إلى المنجز المنشور. ويجدر القول إن الحكومة المنبثقة عن الحزب "الإسلاموي"، التي تولت تدبير الشأن العام لولايتين (في انتظار اكتمال الثانية)، لعبت بجدارة واستحقاق دور "نخب السوق"، من خلال تعبيد الطريق لكل إملاءات وتوجيهات "كريستين لا غارد"، وذلك في تجاهل تام لإرادة الشعب ولمصالحه، مما يعكس مرة أخرى أن كل ما يفعله "الغرباء الجدد" في الممارسة السياسية من أجل الشعب، وبدون إشراكه، فإنما يفعلونه ضدا عن إرادة هذا الأخير. ويكفي في هذا المقام أن نستحضر مخطط استهداف تدمير المدرسة العمومية بتحويل خدماتها أو على الأقل بتهيئتها وإعدادها في أحسن حلة قصد تسليمها على طبق من ذهب إلى الرأسمال الليبرالي المتوحش، وأصحاب الشركات العابرة للحدود. ولعل تأكيد ممثل صندوق النقد الدولي على كون "نخبة السوق" المغربية سائرة في الطريق الصحيح، فيما يخص تعبيد الطريق لدخول الشركات السالف ذكرها، لدليل قاطع وساطع في الآن نفسه على كون الوطن تحت رحمة نخب السوق التي يدفع المنطق إلى التشكيك في صدقية وطنيتها ومدى مشروعيتها، لاسيما في اصطفافها ضد مصالح الشعب. وقد تعكس الاحتجاجات التي تعرفها جميع القطاعات في المغرب، خاصة القطاعات العمومية وذات الصلة المباشرة بمصالح الشعب، مدى الصراع القائم على أشده بين رغبتين وإرادتين متناقضتين ومتنافرتين؛ رغبة "نخبة السوق" التي تمثلها الحكومة على الأقل في صيغتيها الأولى والثانية (الحزب الإسلاموي) من جهة، ورغبة "تيار الممانعة الشعبية" كمكون أساسي وأصلي لكيان الدولة من جهة أخرى، الذي يعيش تحت رحمة العولمة الجارفة (خارجيا) بمباركة نخب السوق (داخليا).