منذ بدأ النقاش حول تدريس بعض المواد العلمية في المغرب باللغات الأجنبية انبرى السياسيون لدعم موقفهم الرافضة لهذا التوجه بخلفيات سياسية، بعيداً عن أي نقاش علمي وتربوي وبراغماتي يُراعي مصلحة المواطنين ويأخذ بعين الاعتبار التحول الذي يشهد العالم في هذا الاتجاه. ويركن حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية في زاوية الدفاع عن التدريس باللغة العربية ويدافعان بشراسة عنه، إلى درجة أن هذا الموقف جعل الدورة الاستثنائية للبرلمان تكاد تكون بيضاء، وبالتالي تأخر اعتماد القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين الذي يتحدث عن رؤية إستراتيجية ما بين سنتين 2015 و2030؛ ما يعني أن ربع هذه المدة انقضى دون اعتماد الرؤية. ويحتل الدفاع عن اللغة العربية مكانة كبيرة في إيديولوجية الحزبين المذكورين، فالأول سبق أن سيّر حكومات سابقة وكان صاحب فكرة التعريب منذ خروج الاستعمار كفكرة طرحها الاستقلاليون، أما الثاني فيعتبر الدفاع عن اللغة العربية من صميم مهامه وإيديولوجيته ويستعمل ذلك للحشد السياسي، إلى جانب الدين والخطاب الأخلاقي. مقابل هذا النقاش السياسوي الإيديولوجي، يقف خبراء اقتصاديون يحصون الزمن الضائع في المغرب في النقاش السياسوي للسياسيين، بسبب تأخر اعتماد اللغات الأجنبية في التدريس وتوفير مضمون ذي جودة عالمية مساير للعصر، ومن جهة أخرى توالي المخططات والبرامج والإصلاحات التي تطال قطاع التعليم دون جدوى. وإذا وضعنا الموضوع للنقاش من الزاوية الاقتصادية، لا يختلف اثنان على أن التمكن من اللغات الأجنبية، خصوصاً الفرنسية حاضراً والإنجليزية مستقبلاً، يتيح فرصاً أكبر للحصول على فرص شغل عكس من يضبط لغة واحدة وإلماماً سطحياً باللغات الأخرى؛ وهو واقع جلي في القطاع الخاص. وإذا كانت الدولة تستعمل العربية والفرنسية في إداراتها ولا تخضع مبارياتها كثيراً لشرط التمكن من الفرنسية إلا في حالات خاصة، فإن قطاع الأعمال والمقاولة في المملكة يسير باللغة الفرنسية، ومن لا يتقنها تكون سيرته الذاتية أضعف ولن يلج إلى مناصب الشغل ذات الأجر المتوسط والعالي. الإنجليزية لغة العالم استقت هسبريس آراء بعض الخُبراء الاقتصاديين، وكان رأيهم أن التدريس يجب أن يتوجه مستقبلاً نحو اعتماد اللغة الإنجليزية، فحتى فرنسا بدورها بدأت تتحسس الخطر القادم وراء سيطرة لغة شكسبير على عالم الاقتصاد والعلم والمبادلات؛ وهو المنحى نفسه سارت فيه الصين التي أدمجت الإنجليزية في مختلف جامعاتها، وتتعامل خارجياً بها. وفي رأي إدريس الفينا، أستاذ الاقتصاد بالمعهد العالي للإحصاء والاقتصاد التطبيقي في الرباط، فإن اللغة الإنجليزية يجب أن تكون لغة التدريس في المغرب؛ لأنها لغة الاقتصاد والقانون في العالم، وقال إن المملكة تضيع زمناً كبيراً في نقاشات سياسوية لن تجدي نفعاً. وأوضح الفينا، في حديث لجريدة هسبريس الإلكترونية، قائلاً: "حتى الصين، التي تتجه إلى احتلال المرتبة الأولى في التجارة والاقتصاد عالمياً في السنوات المقبلة، لجأت إلى إدماج التدريس بالإنجليزية في مختلف جامعاتها وبدون عقدة ولا نقاش حول اللغة الأجدر من اللغات الوطنية". ولفت الخبير الاقتصادي إلى أن اللغة الفرنسية بدأت في التراجع منذ سنوات؛ وهو ما دفع المسؤولين في فرنسا إلى استحضار هذا التغير وبدؤوا يتحدثون عن ضرورة التوجه إلى الإنجليزية لكي لا يتخلفوا على الركب الاقتصادي والعلمي في العالم. ويرى الفينا أن التدريس باللغة الإنجليزية سيجعل التلميذ والطالب المغربيين يتملكان لغة تؤهل للبحث العلمي في شتى المجالات، وهي الفكرة التي يدعمها بكون الدراسات والتقارير والأبحاث في مختلف العلوم كلها صادرة بالإنجليزية. في المقابل، يُشدد الفينا على ضرورة الاهتمام باللغات الوطنية، لأنها لغات التواصل اليومية؛ لكنه يؤكد أيضاً على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار التحول العالمي السائر نحو اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة علم واقتصاد وتواصل وتجارة. سياسيون يضيعون الوقت يرى إدريس الفينا، أستاذ الاقتصاد بالمعهد العالي للإحصاء والاقتصاد التطبيقي في الرباط، أن السياسيين يضيعون الوقت في نقاشات طويلة حول لغات التدريس، مشيراً إلى أن السياسيين الذين يدافعون عن التدريس باللغة العربية يدرسون أبناؤهم في بعثات تعتمد اللغة الإنجليزية وبذلك يضمنون مناصب لأبنائهم في المستقبل بكل سهولة. وأكد الفينا أن "سياسات الدولة، التي تحتل مكانة مهمة أكبر من البرامج الحكومية، يجب أن تكون ذات رؤية علمية واضحة على المديين المتوسط والبعيد وتأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تحدث دولياً لكي لا يتم التأخر عن ركب الدول". وأشار المتحدث إلى أن عدم استقرار توجهات سياسات الدولة يضيع زمناً كبيراً ويكون له تأثير على اقتصاد البلاد، وذلك جلي من خلال اعتماد أكثر من إستراتيجية وإصلاح في قطاع التعليم طيلة العقود الماضية؛ وهو ما يضيع، حسبه، زمناً كبيراً كان من الممكن انتهازه لتحقيق التقدم بجودة التعليم للدفع بالاقتصاد الوطني. ويشدد الفينا على أن "التدريس باللغات الإنجليزية يتيح فرصاً أكبر لولوج سوق الشغل"، وأكد على ضرورة أن توفر الدولة تعليماً عمومياً يستعمل اللغات الأجنبية لمختلف التلاميذ المغاربة من أجل منحهم نفس الفرص للبحث عن فرص شغل وتحقيق التكافؤ، خصوصاً مع ما يشهده قطاع التعليم الخاص من انفتاح على اللغات. مصلحة الوطن مهدي فقير، وهو خبير اقتصادي، يرى أن لغة عالم المقاولة وسوق الشغل في المغرب هي اللغة الفرنسية، وهو واقع يستوجب التأقلم معه؛ لكنه أشار إلى اقتصادنا المنفتح يستوجب استحضار اللغة الإنجليزية التي أصبحت ذات أهمية أكبر من الفرنسية وهو ما يعكسه التطور الدولي. ولفت فقير، في حديث لهسبريس، إلى أن المستثمرين العرب والصينيين والأجانب باتوا يستعملون اللغة الإنجليزية، كما أن إسبانيا هي الشريك الأول للمملكة فيما لم تعد فرنسا الشريك الأوحد للمملكة، وهو وضع يحتم أخذه بشكل شمولي في اعتماد رؤية للتعليم تراعي مختلف جوانب اقتصادنا في علاقته مع العالم. وأضاف قائلاً: "لغة الاقتصاد في العالم اليوم هي الإنجليزية، ولذلك أرى أنه يجب التوجه قدر الإمكان في اعتماد اللغة الإنجليزية مستقبلاً؛ لأن التطور الدولي يفرض التأقلم، ولا يجب أن تتم أدلجة نقاش من هذا القبيل، بل جعل المصلحة الوطنية العليا للوطن هي المحدد". ويذهب المتحدث إلى القول إن المغرب اليوم "في حاجة إلى تدبير تكنوقراطي"، ويدعم رأيه بكون "التدبير السياسوي يعود بالبلاد إلى الوراء كلما انعدم المنظور الواقعي البراغماتي المُستحضر لمصلحة الوطن"، وأكد أن "التكنوقراط كانوا أكثر وطنية من السياسيين في تاريخ المغرب الحديث، وهم من كانوا وراء مجمل الإصلاحات الكبرى على رأسهم كريم العمراني وآخرون". ويشدد الباحث الاقتصادي على أن "المغرب ليس في حاجة إلى أدلجة مواضيع بالغة الأهمية مثل مشروع القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين"، واعتبر أن هذا "الفعل بمثابة هدر للزمن، خصوصاً أن قطاع التعليم يهم المواطنين بالدرجة الأولى والمُحدد فيه يجب أن يكون مصلحتهم فوق كل اعتبار". طلبة يؤيدون الفرنسية في استقاء آراء أجرته هسبريس لدى الشباب وسط الرباط، قال طالب مغربي إن التعليم يجب أن يكون باللغة الفرنسية بدءًا من الابتدائي خصوصاً في المواد العلمية، وأكد أن التدريس بالعربية في المرحلة الثانوية ثم الفرنسية في الجامعة يجعل الطلبة أمام محرج وكابح للعزيمة. وأوضح أحد الطلبة قائلاً: "في النظام الحالي، يصل الطالب إلى الجامعة ويجد نفسه أمام رهان تعلم اللغة الفرنسية لمواكبة الدروس الجامعية، وهذا الأمر يتطلب مجهوداً إضافياً كان من الممكن اغتنامه لو تم توحيد الأمر في الابتدائي والثانوي والجامعي". فيما يقول آخر إن الوقت الراهن يستوجب على كل طالب إتقان اللغات الأجنبية لكي يضمن فرصاً إضافية للظفر بمنصب شغل"، أما طالب آخر فأشار إلى أن التمكن من ناصية اللغات الأجنبية مفيد في حالة ما هاجر أرض الوطن بحثاً عن تعليم عال أو فرصة عمل. ويبقى رأي أغلب هؤلاء الشباب الذي يميل إلى اعتماد اللغة الفرنسية محكوماً بنظرة على المدى القريب أو المدى المتوسط؛ لكن طلبة آخرين يرون أن مستقبل التعليم في المغرب يجب أن يسير بشكل متواز مع التوجه العالمي أي الاستعداد لتعميم اللغة الإنجليزية لمسايرة الدول المتقدمة.