في مثل هذه الأيام من شهر مارس 2011 انبثقت صيحات الثورة السورية من محافظة درعا .. الهدف المطلق: تكسير صنمية النظام السوري، الذي لا يخدم سوى أهداف حفنة أوليغارشية محظوظة، والولوج إلى العصر الحديث، بالقطع مع منظومة عبادة الأصنام، وكذا باقي مومياء النظام الرسمي العربي المحنط، حدّ التحلُّل، ثم تدشين مرحلة إقامة الدولة الوطنية الحديثة، المؤسساتية. جسدت تضحيات السوريين، منذ ثماني سنوات، إحدى أبشع التراجيديات المعاصرة. كميات هائلة من الآلام والمعاناة، غير القابلة للتصور. تغير التاريخ، أم بقي خارج تاريخه؟ وحده مسار التاريخ، الذي تكتبه الشعوب، بجلودها وأرواحها، سيؤكد ذلك، عاجلا أم آجلا، وليس سيل تبريرات غوغائية وديماغوجية دهاقنة الدجالين والمنافقين والكذابين والمخادعين والانتهازيين والأفَّاقين والأصوليين والوصوليين، والرجعيين والمتأسلمين والمرتزقة واللصوص والمنبطحين حسب بوصلة غازات بطونهم والمتربصين بلعق فتات موائد الأسياد، والمتنمِّرين بناء على وجهات الغنيمة، والمخنثين والمخادعين والقوادين والمتملقين والمتزلفين، وضعاف النفوس والسيكوباتيين والمنتفعين والانتهازيين والتافهين والمنحطين، والحمقى والمغفلين والعُصَابيين والنرجسيين والساديين والمستعْبَدين والزئبقيين، والأنذال والأغبياء والسفلة والجبناء والأوغاد والكانباليين الراقصين صباحا مساء على أطباق موائد الجيف ولحم أجنة الأطفال... وفق حتمية سيرورة تاريخ انقلابي من هذا القبيل، وجد الشاعر والمفكر أدونيس نفسه فجأة ضمن حدي موقف حرج للغاية، حقيقة، لا يتمناه مبدئيا أي مثقف ولو كان نكرة، فما بالك بشخص مميز جدا، ينتمي إلى صفوة نخبة النخبة، وأشهر من نار على علم، منذ السبعينيات تقريبا، بآرائه الطليعية الثورية، مشهرا سلاح قلمه الفياض، وعقله الثاقب، مترافعا، على نحو دائم، بكيفية جذرية وأصيلة، ضد المنظومة العربية القروسطية، بكل موجهاتها السياسية والمعرفية والاجتماعية والإيتيقية، ثم خلفها، هذا الكائن، الكافكاوي، المتخلف، المشوه، المنبثق من رحم روافدها الميتافيزيقية الغيبية، الموغلة في التنميط والمعيارية الجوفاء. هكذا استمر أدونيس يراكم دون كلل كتابات مشروعه الرؤيوي العميق: شعرا، فلسفة، نقدا، تنظيرا، ترجمة، وترحالا دائما، نحو لبنات أركيولوجيا الحس الإنساني الأنواري الخلاق، أينما تجلت ملامحه، سواء بين ثنايا التراث العربي الإسلامي أو الكوني عموما. تواصلت حلقات مشروع أدونيس، كميا ونوعيا، ثم من خلال كل إضافة، تكبر حدة لهجة النقد لدى الشاعر، ويزداد تدفق غضب الرجل، حد مستوى اللاعودة، وإحراق ما تبقى من المراكب، نتيجة يأسه وقنوطه من هذا الوقع العربي الجنائزي، المحنط، المنحط، العاجز تمام العجز عن تقديم أدنى شيء لبذور الحياة، مثلما تنمو لدى الأمم المتحضرة، بالتالي يذهب صراخه عبثا، على امتداد مقابر الأموات؛ لذلك يحق له نفض يديه ومد رجليه. بغتة، وقع أمر جلل، لم يكن متوقعا بتاتا حتى لدى عتاة المتفائلين، ثم بدأت سيناريوهات انقلاب الربيع العربي، بحيث مثلت سوريا، موطن أدونيس، المشهد الجدير بالتوثيق والفهم والتأويل والاعتبار. إذن، ما كان يتطلع صوبه أدونيس، مفهوميا وتأمليا، طيلة عقود، بكيفية أو ثانية، أضحى في نهاية المطاف واقعيا جسدا ولحما، الآن وهنا. ما العمل؟ طبعا ليس الأمر بالهين، لأن الإنسان/الموقف يبقى الاختبار الفعلي والحقيقي. ويزداد الوضع حساسية عندما يتعلق الأمر بمثقف من وزن أدونيس، ثم يأخذ أقصى درجات دقته حينما تجد نفسك في مواجهة نظام بدائي، متوحش، ومتخلف، لا يفهم أي لغة ثانية سوى عجن الرؤوس الساخنة ودعكها وسحقها تحت أقدام الأحذية العسكرية. إنها اللغة الوحيدة التي يتقنها النظام الرسمي العربي، ولا يعرف لغيرها سبيلا. وأحدث إنجازات هذه اللغة، الرائدة في منطقتنا المنكوبة، تروي إبادة الصحافي جمال خاشقي، جملة وتفصيلا، فأضحى أثرا بعد عين، تيمنا بأسلوب المغول والتتار، وربما أكثر وحشية من صنيع تلك الأقوام الهمجية. قد يعرفون دوغول، لكن ربما جذبتهم فقط قامته الطويلة، بالزي العسكري؛ في حين تستفزهم لا محالة كليا حكاية تدخله لإطلاق سراح جان بول سارتر، لأن الأخير كان محرضا على تظاهرات الطلبة، بل قائدا لهم خلال انتفاضة ماي سنة 1968، فانطلقت عبارة دوغول الشهيرة: "كيف يمكنكم اعتقال فرنسا؟"، وفي رواية أخرى: ''أتعتقلون عقل فرنسا؟''. عموما، لم يكن موقف أدونيس بالفعالية المطلوبة، لدعم قضية شعبه المصيرية، كما الشأن خاصة بالنسبة إلى برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، الذي ترأس فعليا المجلس الوطني السوري، فترة نسخته الأولى، أو صادق جلال العظم. مثقفان لا تقل أهميتهما، المعرفية والرمزية، عن مكانة صاحب كتاب الثابت والمتحول. بدا أدونيس، المرشح الدائم لجائزة نوبل في الآداب، متذبذبا، مترددا، تائها، غير واضحة وجهته، يخطو خطوة ويتراجع، متلعثما على حد تعبير جلال العظم، حينما دقت حقا لحظة الحرية بالنسبة للسوريين، ومعهم باقي الشعب العربي؛ فاتخذت آراؤه بهذا الصدد، المناحي الآتية: *موقف الإعجاب بداية نحو ثورتي تونس ومصر. *التحول إلى الجهة الأخرى المضادة، بسبب صعود الإسلاميين، حسب تبرير أدونيس نفسه. *توجيه رسالة مفتوحة إلى بشار الأسد، معتبرا إياه رئيسا منتخبا!. * ثم الشروع في انتقاد الثورة السورية، وكذا اندفاع الشعب وجهة إزاحة النظام السياسي، نظرا للمعطيات التالية: 1- يلزم أولا تغيير مؤسسات المجتمع، إداريا وثقافيا واجتماعيا، وليس الذهاب مباشرة إلى أعلى الهرم، 2- ضرورة الانطلاق من المرجعية العلمانية، والتأسيس علمانيا للديمقراطية ومدنية الدولة، لأن الثورات لا تخرج من المساجد. 3 – اعتباره الثورة السورية أكثر سوءا من النظام، لأن الكتل الحقيقية المتواجدة في المدن، وكذا القوى الاقتصادية والفكرية، لم تشترك في الثورة. 4-إرساء التعددية وتوطيد حقوق الإنسان. 5 –تحرير المرأة…. حتما، يمثل ذلك برنامجا أساسيا لا غنى عنه، بيد أن السؤال الجوهري، الذي يسقطنا وفق منطق أدونيس، مباشرة وسط دوامة سوفسطائية الأولانية الأنطولوجية للدجاجة أم البيضة؟ يكمن في: إذا كانت رحابة صدر النظام تتسع لهذا البرنامج، قبل تلاشي هذا الأعلى من تلقاء نفسه، جراء الإصلاحات القاعدية، فلماذا التفكير أصلا في النضال ضده، مادام يعتبر نظاما ديمقراطيا، يحتضن الجميع. الإشكال ذاته، الذي طرح على أدونيس، من طرف صحافة ألمانية: "كيف ينبغي إذن إصلاح سوريا، إذا لم يتحقق ذلك عن طريق إسقاط الأسد"، فكان جوابه: "لا بد من انتخابات نزيهة ترعاها الأممالمتحدة، الشعب يقرر من يحكمه وليس الفلاسفة...". يعلم أدونيس تمام العلم، أكثر من غيره، وهو العارف بامتياز أن تخلف المنظومة العربية، وفشل دول المنطقة، مرده إلى طبيعة هذه الأنظمة القائمة، الرافضة رفضا تاما لأبسط برنامج إصلاحي أولي، يصب في مصلحة شعوبها، حتى دون الانتقال صوب الإستراتجيات الكبرى التي ستؤدي حتما إلى تفكيك مرتكزاتها، ثم سقوطها النهائي.