لا شك في أن غالبية من حضر، الأربعاء الماضي بالقاعة الكبرى للمكتبة الوطنية للمملكة بالرباط، في لحظات تأبين عبد الرحمن عشور، مدير الإذاعة الوطنية الأسبق ومؤلف كتاب "رجل سلطة في الإذاعة"، سيسترجع "المعارك" المعلنة والمضمرة بين رجال الداخلية وبين محمد العربي المساري، وزير الاتصال في حكومة "التناوب التوافقي"، عام 1998 برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وليس سرا القول بأن من أولويات المساري، الذي كان نقيبا كاتب عام للصحافيين المغاربة، محاولته إعادة رجال السلطة الذين عينوا منذ 1986 على رأس المؤسستين العموميتين، الإذاعة والتلفزة، إلى إدارتهم الأصلية وزارة الداخلية "أم الوزارات" على عهد الوزير القوي إدريس البصري، ورغبته الجامحة، في تحقيق فك الارتباط بين سلطة الداخلية والإعلام (السلطة الرابعة)، باعتبارها علاقة "زواج غير شرعي". وإذا كان الراحل عشور قد استطاع، طيلة وجوده بالإذاعة الوطنية لأزيد من عقدين من الزمن، "التعايش" مع " سياسات" أربعة وزراء، واستمر يمارس عمله على رأس هذا المرفق العمومي ويوسع دائرة علاقاته بمكوناته وبمحيطه إلى ما بعد قرار فصل الإعلام عن الداخلية، فإنه أفرد في مذكراته للوزير الراحل محمد العربي المساري مساحات مهمة، على خلاف الحيز الذي خص به زملاءه الوزراء الآخرين الذين جاورهم خلال سنوات مروره بالإذاعة. عاب "رجل السلطة في الإذاعة"، في ظل حديثه عن مرحلة "زمن التناوب" الأولى، على وزير حزب الاستقلال عدم استطاعته "الانسلاخ عن جلباب النقابي؛ وهذا ما جعله يقع في مواقف حرجة"، خلال الفترة القصيرة التي قضاها على رأس الوزارة (من 1998 إلى 2000). ومع مرور "الزمن الوزاري للمساري" - يضيف عاشور- تشجنت العلاقة بين وزير حزب علال الفاسي وبين رجال السلطة بالإذاعة والتلفزة، خاصة بعدما شاع الطلب الذي وجهه إلى الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي القاضي بإبعادهم عن المؤسستين الإعلاميتين. وبعدما لم ينجح مسعى المساري، سفير المغرب الأسبق بالبرازيل، الذي عزاه عشور في مذكراته إلى "رفض اليوسفي، بدعوى أن الظرفية السياسية لا تسمح" بذلك، وأن رغبته لم تلق استجابة من صاحب القرار"، زادها "رفض التلفزة تقديم نبذة عن تقرير أصدرته الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، بادر إلى تقديم استقالته. فمن المفيد جدا، في هذا الصدد، التوقف عند مبادرة العربي المساري أياما قليلة على توليه وزارة الاتصال المتمثلة في عقده اجتماعا مع مسؤولي النشرات الإخبارية بالإذاعة والتلفزة المغربية (القناة الأولى)، وبالقناة التلفزية الثانية (دوزيم)، ل"فتح حوار معهم حول سبل تحسين المنتوج الإخباري، وحول ضرورة استحداث برامج النقاش". وعلى الرغم من أن كتاب "رجل سلطة في الإذاعة" قد "مر مرور الكرام" على هذا الاجتماع الذي احتضنه مقر المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، فإنه يشكل- في نظري- مناسبة مهمة، للوقوف على "النضال" المساري من أجل مهننة الإعلام السمعي البصري العمومي، وضمان استقلاليته التحريرية. وهكذا، نجد في وثيقة نادرة عن اجتماع 21 مارس 1998، الذي تحول إلى ندوة الداخلية، بعنوان "وقفة تأملية في أمر مهني.. يتعلق بكيفية تدبير نشرة الأخبار"، وهو اللقاء الذي استهله المساري الذي كان معروفا عليه بأنه يتولى تحرير خطاباته بمفرده، بأن ممارسة العمل الصحافي تتميز (في تلك المرحلة) ب"العرض الكبير في المشهد الإعلامي، مما أتاح للجمهور المتلقي أن يختار مما يفضله من عشرات الإذاعات والتلفزيونات، ويضرب عن القنوات التي لا تقدم له المادة المرغوب فيه"؛ فالحاجة التي أعرب عنها الجمهور دائما هي إعلام ديناميكي، يتجاوب مع متطلباته في الأخبار والتثقيف والترفيه، وأنه إذا لم يتم الانتقال إلى المستوى المهني المطلوب، فإنه سيأتي وقت يكون المذيع يخاطب أهل بيته وهم ينتظرون عودته إلى المنزل –يوضح المساري- الذي شدد على أنه "ولا شك في أن نشرة الأخبار في الإذاعة والتلفزيون العموميتين في حاجة إلى مراجعة جذرية. ومن أجل هذا، نحن مجتمعون اليوم". وفي تقديره للتغيير المنشود، اعتبر الراحل المساري أنه هو ذاك الذي لا يتأتى بقرارات فوقية وبقرارات إدارية. إن التغيير يجب أن يحدث عبر مناهج بيداغوجية، وأن يتم بواسطة الإقناع. وأكثر من ذلك أن التغيير- مخاطبا الحاضرين في الاجتماع - يجب أن تقوموا به أنتم أنفسكم. أولا، لأنكم قادرون على التطور. ثانيا، لأني جئت ليس لتغيير الأشخاص ولكن لتغيير السياسة، يؤكد وزير اتصال النسخة الأولى لحكومة التناوب (1989- 2000). الأهداف التي يجب أن تحققها السلطة الرابعة تتلخص - حسب الكاتب العام لنقابة الصحافة خلال الفترة المتراوحة ما بين 1993 و1998 في أن قطاع الإعلام يجب أن يكون في نسق واحد مع التطور الحاصل في البلاد، موضحا أن الشعار الذي يلخص السياسة التي يقوم عليها برنامج الحكومة (التناوب)، في القطاع الذي ننتمي إليه "إعلام الحقيقة". وفي جرأة واضحة ونادرة من وزير الإعلام المغربي، قال في هذا الصدد إن "إعلام الحقيقة" هو ذاك الذي نكف فيه عن التنويم والتعتيم، ولسان الخشب، أي أن التلفزيون للنشاط الحكومي؟. وهذا ما يجعل أن أول ما يطرح على الإعلاميين، "كحراس بوابة" التأمل في مفهوم المادة الخبرية، التي هي كل معطى يساعد الجمهور على التفاعل بكيفية واعية مع محيطه ويطرح التمييز بين حدين: كيف لا نقع في طمس الواقع؟، وكيف نتجنب التهويل". ولم يكتف المساري بذلك؛ بل زاد موضحا بأن "الطمس هو أن لا نتحدث عن مشكل جرادة في حين هو موضوع تقارير ضخمة، تعقد بشأنه اجتماعات على أعلى المستويات، والتهويل هو أن تأخذ الأمور أكثر من شأنها عن طريق الشائعة، أو أن يكون الغرض هو الاستغلال السياسي بمعناه الفئوي الضيق". وهذا ما يتطلب من الصحافيين بالسمعي البصري العمومي التسلح "بالحرفية أي بدقة وإتقان" خلال القيام بمهامهم، وامتلاك ناصية المهنة، ليتعرضوا بكفاءة للموضوعات التي يتصدون لها؛ وهو ما يقتضى اعتماد نظام التخصص والاحتكاك بالدوائر القريبة من مصدر المعلومات، وعقد الصحفي لجلسات مع المصادر المعنية، ليزداد الماما بمواضيع تخصصه. وبخصوص أسلوب العمل، يرى الوزير صاحب مقولة "أنا لن أغير الأشخاص، وإنما أحاول تغيير العقلية" في حوار خص به جريدة "الشرق الأوسط"، بعيد تعيينه عضوا بالحكومة، أنه يجب أن إشراك المحررين في اجتماع هيئة التحرير، لكي يسهم الجميع بالأفكار والمقترحات، ولكي يشعر الكل بإنه يشارك بالرأي وبالعمل، ولا تبقى الخلايا جزرا معزولة بعضها عن بعض، إضافة إلى ذلك لا بد أن تتدعم الثقة بالنفس لدى المحرر لكي تتحرر طاقته الإبداعية، وأن نشرة الأخبار لا ينبغي أن تظل مجرد ترديد صدى تحركات أنشطة الوزراء؛ بل يجب أن تترجم انشغالات المواطن، وتوسع قدرته على التفاعل، بما يعتمل بمحيطه. ألا يصلح هذا التصور حول الإعلام للتدريس في معاهد ومؤسسات الصحافة والإعلام في الزمن الراهن والاقتداء بها من لدن المنابر الإعلامية؟ إنها مجرد أسئلة مفتوحة ومطروحة على مشهدنا الإعلامي، زمن تلفزة "كيف كنتي كيف وليتي" وبرامج "الشو" ها.. واعتماد لغة ساقطة وحاطة في بعض الأحيان من الكرامة الإنسانية، في خرق سافر لمقتضيات دستور 2011 واللائحة طويلة والقصص معروفة في هذا المجال. لقد ظل المسؤولون عن إدارة الإعلام العمومي السمعي البصري- في زمن المساري- بحكم انتمائهم إلى وزارة الداخلية "خارج دينامية التغيير"، كما جاء في أطروحة دكتوراه بعنوان "علاقة الدولة بالإعلام.. دينامية الصراع والتحول" للإعلامي عبد الجبار الراشيدي، الذي كان مقربا من المساري سواء في نقابة الصحافة أو بوزارة الاتصال وحزب الاستقلال أيضا. لقد اصطدمت إستراتيجية الإصلاح في قطاع الإعلام بواقع آخر مضاد، وحلبة للصراع حول من له صلاحية اتخاذ القرار في السمعي البصري. في شتنبر سنة 2000، سيترجل المساري من سفينة "حكومة التناوب"، حينما استعصى عليه الإصلاح والتغيير، وبعد أن قضى بها سنتين، طرح فيها كثيرا من الأسئلة، وطرح فيها أيضا كثيرا من الحلول، ظلت إلى حد الآن حبيسة رفوف خاصة دفتر تحيين توصيات المناظرة الأولى للإعلام والاتصال سنة 1993؛ منها تحرير السمعي البصري من القبضة الحديدية والقوة الناعمة. وكانت مناسبة التعديل الحكومي سنة 2000 فرصة سانحة أمام المسارى "لفرض استقالته فرضا على اليوسفي والتخلص من عبء منصب ووزارة، أيقن أنها مستعصية على الإصلاح" وفق ما جاء من كتاب "التناوب المجهض" للصحفي محمد الطائع، وفي هذا التعديل - يضيف المصدر ذاته- " رضخ اليوسفي لطلب المساري الذي لم تكن له أية سلطة تذكر على قطاع الاتصال، لذا رفض أن يتحول إلى وزير بلا وزارة، مسؤول بلا سلطة". ليس المساري وحده الذي استعصى عليه "تحقيق حلم التغيير في السمعى البصري، في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب، بل حكومة التناوب برمتها "فشلت في الإعلام" بوسائله المتعددة، "فشلا ذريعا"، خاصة على مستوى تسويق منجزاتها وعملها الإصلاحي، "فكلما كان اليوسفي إلى جانب المساري يبديان مقاومة وإصرار في المربع الضيق للسلطة، متمسكا بتحرير الإعلام العمومي"، كان بالمقابل "يجلد" في الصحافة، بمناسبة وبدونها" حسب الطائع دائما. وبصفة عامة، من الملاحظ أن الإعلام العمومي المغربي بأصنافه "سار دائما وأبدا على إيقاع تقلبات الوضع السياسي، محكوما بعدم الاحتكام إلى المنطق والقوانين والمفاهيم التي تسير هذا المرفق" العمومي، وهي الخلاصة التي استنتجها الراحل محمد العربي المساري بعد تجربته في الوزارة والتي خطها بنفسه في تقديمه لكتاب"رحلتي مع الميكرفون" للإعلامي المخضرم محمد بن ددوش. ويجدر التساؤل: هل تغيرت أمور ووضعية إعلامنا العمومي السمعي البصري، منذ "إبعاد رجال السلطة" من التلفزيون والإذاعة؟، وهل تمكن تحرير الفضاء السمعي البصري ودستور 2011 من إحداث التغيير المنشود بالإعلام العمومي؟، وأيضا هل تحققت مصالحة المواطنات والمواطنين مع إعلامهم الوطني؟ أسئلة كثيرة مؤجلة، من بمقدوره فك طلاسمها؟، هل رافق تغيير الأشخاص تغيير العقليات والسياسة في "قطبنا المتجمد"، كما كان حلم المسارى زمن التناوب؟ العلم في حكم الغيب !!. إن واقع إعلامنا في القرن الحادي والعشرين، قرن مجتمع الإعلام والمعرفة، لا يسر أحدا؛ وهو ما جعل الإعلاميين المخضرمين في شهاداتهم، بمناسبة تأبين "رجل سلطة في الإذاعة"، بحضور رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، "يتأسفون" على ما وصفوه ب"الزمن الجميل خلال مرحلة رجل السلطة في الإذاعة"، والذي تمكن بتوافقاته والملائمة بين انتمائه المهني إلى أم الوزارات (الداخلية) وخصوصية الإعلام أن يظل "صامدا" في منصبه إلى ما بعد زمن التناوب، ومغادرته "الطوعية" إلى إدارته الأصلية، ويظل في البداية والنهاية، السمعي البصري، متحكما في مساره، على الرغم من قرار تحريره، ومع ذلك فإن سؤالا مؤجلا إلى حين ما زال عند جمهور المشاهدين والمستمعين الحالمين،!! إلى متى..؟ *باحث في الإعلام والاتصال