لا يعشق الحرف إلا من احترق به، وأنا واحد من هؤلاء، عشقت الحرف وتكوثرت بلظاه. لمعنى الاحتراق شيء لا يهمس به لغير من لا يؤمن بالتخاطر، والتناظر الحدسي، ومفاضلة القول الحسن. فالاحتراق غرق وموت وقيامة وانبعاث جديد، وترف أزلي غامر. الموت حياة في النعيم والجحيم، في الدربة على القادم.. تمجيد البصر وتطويع البصيرة. لا يفتر الحسن حيضرة من الإصغاء إلى روح الحرف وهي تخفق من التوهج والوجد، كأنها في الحالات الكلامية تنشب كتلا من الرموز والعلامات السابحة في ذرى العبارة، بين سكون وصمت، سديم وضياء، رواء وعطش، غيم وشموس محدقة. وحقيق بهذه التقاطعات أن تولد الفرادة الحلاجية القائلة: سكوت ثم صمت ثم خرس ** وعلم ثم وجد ثم رمس وطين ثم نار ثم نور ** وبرد ثم ظل ثم شمس ولينظر الناس متى شاؤوا، هل يصلون هذا الموئل المعلوم، ينتبدوه بين فسائل الاصطبار والانتقالات الزمنية؟. كأني بهم يرددون مع الشاعر: سر السرائر مطوي بإثبات ** في جانب الأفق من نور بطيات فكيف والكيف معروف بظاهره ** فالغيب باطنه للذات بالذات ولا ينفك هذا السر أن يخرم ثباته الغامر بوحدة النفس وعزلتها، فترتفع كمائن السطوة واشتعالها على براق من التحليق والتحلق. إن سر احتدام نزعة المحو في بياض الورق من خلال أعمال الشاعر والتشكيلي الكاليغرافي الحسن حيضرة، ذلك الانقياد المستتر لماهية الحب المكتوم، المحذور بشأفة العري، المقضوم بنقش الحجر.. لا أجد له حائطا ينكتب على مفازاته سوى قول الحلاج: الحب ما دام مكتوبا على خطر ** وغاية الأمن أن تدنو من الحذر وأطيب الحب ما نم الحديث به ** كالنار لا تأت نفعا وهي في الحجر وحيضرة ينكتم في جبة الحب، محفوفا متلبسا، لا يدنو منه إلا خوفا من الوقوع بين قيوده؛ كما أنه لا يأسر الغوائل إلا محدقا مهرقا بين طيوبه وتواشيحه. جزء من تجارب الحرف الشعري الصوفي لدى حيضرة، القريب من روح الطوبيا، يلامس هذا الأفق العذب من نعرات الحب وعبراته. نساء يستلقين على وسائد الحرف كأنهن يتحفزن لاستكناه نسائم الريح المسافرة بين جنائن المسك وعطور السواقي، يزيد الورود عطشا والماء اشتياقا: يا نسيم الريح قولي للرشا ** لم يزدني الورد إلا عطشا أفيوثر حيضرة شرب الماء على مفرق الكاس، وهو مأخوذ بخيالات الظلال من كاسات المحبة؟! إنه لا يأل جهدا من التجسد بينهما، متساويا بالعناق أحيانا، وأخرى بالإصغاء العميق لنايات الوجود وهي تشحذ عيونها الطلية بقلوب العاشقين.. إنها ترى ما لا تراه عيون الناظرين ولا تدركه حواسها المنفلتة: قلوب العاشقين لها عيون ** ترى ما لا يراه الناظرون وألسنة بأسرار تناجي ** تغيب عن الكرام الكاتبين وأجنحة تطير بغير ريش ** إلى ملكوت رب العالمين إني لا أقرأ أعمال الشاعر والفنان الحسن حيضرة بعيون الشاعر أو قلب الناظر العاشق، بل أقرأها كتابا مغلولا بالتجلي والتخاطر والاستدلال؛ فأما التجلي ففي كمونه وكبحه وإخفائه وتمثله، وأما التخاطر ففي إحساسه وتوسطه وتراهنه وتوارده، وأما الاستدلال ففي انتقاله وتفسيره وإثباته. أفلا يكون حيضرة الصوفي المراكشي الحكيم فريد عصره ونور زمنه وعبقري حرفه، يشيح اللثام عن إنيته المتوثبة العائدة إلى فتنتها القديمة العتيقة المتذللة، تدنو من كشف الحقائق كأنها تبحث عن ملاذات مغايرة من أجل التخفي والإضمار؟! ورب قائل، والختم لا مفر للحلاج: أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني وغبت في الوجد حتى أفنيتني بك عني يا نعمتي في حياتي وراحتي بعد دفني مالي بغيرك أنس إذا كنت خوفي وأمني يا من رياض معانيه قد حوت كل فن وإن تمنيت شيئا فأنت كل التمني هوامش : * ديوان الحلاج يليه كتاب الطواسين: ترجمة وتحقيق كامل مصطفى الشيبي وبولص نويا اليسوعي– منشورات الجمل / ط 3 / 2007 * ديوان "أنا أكتب إذن أنا أمحو" مولاي الحسن حيضرة – المطبعة الوطنية ط1 2017 .