"الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34        البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل المقال في ما بين الفاسي الفهري و"العدالة اللغوية" من الإنفصال
نشر في هسبريس يوم 10 - 03 - 2019

غرضي من هذا المقال أن أنتقد الخطاب الذي تبناه السيد عبدالقادر الفاسي الفهري في مقال له حول موضوع "لغات تدريس العلم بالمغرب" عنوانه: "الفهري يكتب: "لغات العلوم" بين تحسين التحصيل والتمكين الكلي" نشر في منبر هسپريس يومه 5 مارس 2019. سأبين أن خطاب الفاسي الفهري في شأن لغات التدريس في مغرب اليوم جمع بين "التعتيم" المذموم، و"التغليط"، و"التضليل"، وهي أسوء الصفات التي قد يتصف بها خطاب لساني مثقف يسعى إلى المساهمة في تنوير الرأي العام حول موضوع حساس كموضوع اللغات.
1- تعتيم كثير
ينتقد الفاسي الفهري بنوع من السخرية كل هؤلاء "المفكرين والمثقفين والعلماء والخبراء والقياديين الكبار أو الوازنين الكثيرين" الذين تعج بهم وسائل الاعلام اليوم والذين يتجرّأون على الادلاء بآرائهم حول شؤون اللغة في المغرب، مُؤَسِّساً نقده على ملاحظتين اثنتين:
أولاهما- أن من هؤلاء من "يُلْبِسُ السياسة فضائل المعرفة والعدالة والديمقراطية والأخلاق" بينما هو في حقيقة أمره مجرد موظف أيديولوجي عند حزبه.
وثانيهما أن النظر في شؤون اللغات في بلد من البلدان يقتضي "الإلمام على الأقل ببعض أبجديات السياسة والتخطيط اللغويين، ومرتكزاتها كما هي معهودة في الدول المتقدمة أو الصاعدة، والنظر في النماذج التعددية للغات وآليات اعتمالها وانسجامها".
بهذا يكون الفاسي الفهري قد أقر بقاعدة "احترام التخصص" التي سبق لعبد ربه كاتب هذا المقال أن دافع عنها، من خلال مقال له نشر بهسپريس، في إطار نقده للتسيب المنهجي الذي أظهره السيد حميش في حديثه عن علاقة الدارجة المغربية بالعربية، مبينا أن الوزير السابق مثال واضح عن المثقف الذي يعطي الانطباع لقارئه بالالمام بقضايا اللغة وهو أبعد ما يكون عن ذلك، فهو لا يحترم مبدأ "التخصص" في إصدار الدعاوى.
إلا أن هناك أن هناك مشكلة أساسية تثيرها الطريقة التي صاغ بها الفاسي الفهري مبدأ "احترام التخصص" وهي مشكلة "االتعتيم“ المذموم.
من مظاهر التعتيم االمذموم في كلام الفاسي الفهري أنه يشير إلى "المفكرين" و"النشطاء" و"العلماء" و"الجامعيين"، و"رجال الأعمال" وغيرهم ممن ينتقدهم ضمنيا بعدم الأهلية للنظر في شؤون اللغات في المغرب، دون أن يشير إليهم بأسمائهم ودون أن يناقش أطروحاتهم واقتراحاتهم باستعمال مبضع التحليل اللساني وأدوات البحث اللساني التطبيقي. ففي هذا "خبط" قد يثير مظنة التدليس، و"خلط" لا يليق بالعلماء، و"غصب" لحق القارئ في الفهم والتبيُّن. كان على الفاسي الفهري أن يتحلى بشيء من شجاعة العلماء فيقول بأنه يقصد ب"المفكرين" محمد حميش وعبدالله العروي مثلا، وأنه يقصد ب"رجال الأعمال" نبيل عيوش مثلا، ويقصد بالمدافعين عن آراء أحزابهم العدالة والتنمية وقاصري الفهم من أهله مثلا، وهكذا. ولو فعل هذا، وانتقد هؤلاء القوم واحدا واحدا، كاشفا عن عوج آرائهم، ومواضع العلم الباطل في كلامهم، لكانت تأديته لواجبه التنويري كاملة لا نقص فيها ولا تلبُّس فيها بمظنّة التدليس على القارئ بايهامه بدفاع الكاتب عن أمر لا يدافع عنه أصلا. فمن حسنات تسمية الناقد لمنقوديه أنه يوضح للمتلقي موقف الكاتب من القضايا التي يتناولها ويجنّبه الغموض في بيان موقفه منها.
من مظاهر التعتيم المذموم في كلام الفاسي الفهري أيضا أنه لا يقدم أي دليل على كلامه، بل ويضع دعاويه في سياقات توحي بأن إثباته لها محسوم فيه ومُجمَع عليه وثابت عند أهل التخصص من لسانيين ولسانيين تطبيقيين. من ذلك مثلا ميله للمصادرة على مطلوباته كادعائه بأنه "حتى وإن كانت الأمازيغية غير مؤهلة تأهل العربية الآن ..."، فانظر كيف أن الرجل وضع حكمه (الخاطئ كما سأبين لاحقا) الخطير على اللغة الأمازيغية دون أن يورد بحثا أثبت ما يدعيه ودون أن يبين لنا ما معنى أن تكون لغة "مؤهلة" لتدريس العلوم. بل إنه باستعماله للفظ "حتى" يوحي أن كل قارئ من قرائه يعترف بهذه "الحقيقة" ويسلم بصحتها، رغم أنها مجرد كلام غير مؤسس على معرفة جيدة بالوضعية الأكاديمية للأمازيغية اليوم.
من الأمثلة على المصادرة على المطلوبات بدون دليل أيضا ادعاؤه أن "المغاربة في غالبيتهم متشبثون بأن تكون اللغة العربية لغة تدريس العلوم" رغم أنه سيعترف في نفس المقال أن المغاربة لم يستفتوا في رأيهم، ورغم ظهور وعي شعبي جديد بنفاق من يدعون لتدريس العلوم بالعربية بينما يدرسون أبناءهم في المدارس الخاصة والأجنبية إما بالفرنسية أو بالانجيلزية. فادعاء إجماع شعبي على استعمال العربية لتدريس العلوم هو تعتيم على آراء الناس الحقيقية التي لا تعطى مجالا للتعبير عن نفسها سوى في وسائل التفاعل الاجتماعي.
من الأمثلة على ممارسة الفاسي للتعتيم الذي يُضِر بفهم الانسان غير المتخصص في الشأن اللغوي ادعاؤه أن اللغة العربية من "أقوى اللغات في العالم"، موحيا أن اللغات تختلف عن بعضها البعض في "القوة والضعف"، وهو كلام لا يستقيم عند أهل النظر اللساني، ليعيد تحديد مقصوده بين قوسين معتبرا أن المقصود ب"القوة" سعة الانتشار، فيصرح بأنه يقصد أن اللغة العربية هي من بين 5 إلى 10 من اللغات الأوسع انتشارا في العالم، دون أن يوضح لقرائه أن "العربية" التي يعنيها علماء اللسانيات التطبيقية (عندما يتحدثون عن سعة الانتشار) ليست هي العربية التي ندرسها في المدارس (ما تسميه الأيديولوجية السائدة ب"العربية الفصحى")، بل الدارجات التي تستعمل في بعض المناطق في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. فيمعن في تعتيمه بأن يتجنب التدقيق في هذا الموضوع، كما ينبغي لكل لساني يسعى لتنوير شعبه، فلا يذكر مثلا بأن كثيرا من هذه الدوارج،كالدارجة المغربية ليست لغة "عربية" لاحنة، كما يعتقد العوام، بل هي لغة قائمة الذات نتجت عن "كريلة" العربية الهلالية والأندلسية والأمازيغية.
إن كلام الفاسي الفهري في الشأن اللغوي أيديولوجي، ومن علامات الأدلجة فيه نزوعه للتعتيم المقصود المذموم.
2- تغليط كثير
ومن مظاهر "التغليط" في كلام الفاسي الفهري أنه ساوى بشكل لا يقوم عليه الدليل بين دُعاة التعريب، وهم الموظفون الأيديولوجيون عند المخزن سابقا الذين كانوا يتسابقون لارضاء أصحاب الأيديولوجية اليعقوبية لمغرب ما بعد إكس ليبان، الرافضة لكل تعددية لغوية وثقافية، معظمهم من حزب الاستقلال أومرتبطون به أيديولوجيا ووجدانيا، أوموظفون أيديولوجيون عند الأنظمة الاستبدادية المشرقية، كنظام القذافي ونظام الأسد ونظام صدام حسين، أو موظفون أيديولوجيون عند حزب بنكيران يغنينا فساد أهله عن نقد فساد أيديولوجياته - ساوى بين كل هؤلاء ودعاة التمزيغ، وهم مناضلو الحركة الأمازيغية الذين لم يكونوا في يوم من الأيام "خداما" لأي جهة من الجهات، بل دفعوا من أجل مواقفهم عن البعد الأمازيغي ثمنا غاليا من حريتهم وحياتهم. فما يميز المطالب الأمازيغية عن مطالب التعريبيين والمفرنسين أنها مبنية على أساس أخلاقي متين (الحق في استرجاع المسلوب الهوياتي) هو أصل كل مرافعة حقوقية وكل نضال سياسي. فصاحب الحق وصاحب الأرض مستعد للنضال عن حقه وعن أرضه ولو اقتضى الحال التضحية بالحرية والحياة، أما مقاولو الهوية وسرّاقها، فهم في كل واد يهيمون، هويتهم هي هوية من يدفع لهم أكثر. لذلك فالمساواة بين المناضلين من أجل استرداد المسلوب ومقاولي الهوية انحراف خِطابي يزيدنا ارتيابا في مقاصد الفاسي الفهري وغاياته.
إلا من أخطر أشكال التغليط في كلام الفاسي الفهري أنه خان أحد مقتضيات قاعدة "احترام التخصص" التي ألزم بها نفسه واشترطها في كل من يتجرّأ على تناول شؤون اللغة في المغرب بأن خرق هذه القاعدة فكان لخرقه له مظهران اثنان. أولهما أنه استعمل مفهوما غير مؤسس نظريا وتطبيقيا في اللسانيات التي يمارسها وهو مفهوم "لغة التراب"، وثانيها أنه حرف مفهوما لسانيا مؤسسا نظريا وتطبيقيا، وهو "مفهوم العدالة اللغوية".
فلعلماء اللسانيات الاجتماعية واللسانيات التطبيقية العشرات من المفاهيم التي يعبرون بها عن علاقة الفرد والجماعة بلغاتهم ك"اللغة الأم"، و"اللغة الثانية" و"اللغة الثالثة"، إلخ، و"اللغة الرسمية"، و"اللغة المعيارية"، و"اللغة الدارجة"، إلخ، لا نجد من بينها ما يسميه الفاسي الفهري ب"لغة التراب". ولو دقق المرء في السياقات التي يستعمل فيها الرجل عبارة "لغة التراب" وعبارة "اللغة الوطنية"، لاستتنتج بدون عناء فكر بأن غرض الفاسي هو أن يتجنب حرج التحدث عن "اللغة الأم"، وهو المفهوم المقصود في السياق المعني. من ذلك مثلا قول الفاسي الفهري:
النص 1 "والعدالة اللغوية والثقافية تعني العناية بالحقوق اللغوية للمواطن، ومبتدؤها الحق في لغة التراب أولا (وهي العربية والمازيغية هنا)، والتعلم بها، الخ،"
النص 2 ”والتعليم بغير اللغة الوطنية يطرح مشاكل عديدة إلى اليوم معروفة، أبرزها أن الذي يغير لغته إلى لغة ثانية أجنبية لا يتمكن من الفهم والتحصيل الدقيق في حالات كثيرة.“
فإذا تأمل المرء في النص 1، سيلاحظ أن السيد الفاسي الفهري يمارس تحريفا نظريا لمفهوم "العدالة الاجتماعية" لا يليق بلساني همُّه أن ينهض بدور تنويري في المجتمع كما يوحي بذلك دائما في معرض حديثه عن اللغات في المغرب. فإذا عدنا إلى الأدبيات المتخصصة في شأن "العدالة اللغوية"، سنجد أن المرجع الأساسي لمفهوم "العدالة اللسانية" هو كتاب من 390 صفحة صدر عام 2009 عنوانه "العدالة الاجتماعية من خلال التربية المتعددة اللغات"، وهو كتاب متضمن لدراسات عديدة لمتخصصين لسانيين وسوسيولسانيين مرموقين مثل يوهانتي ويونجانڭ تامانڭ وغيرهما. والمرجع الأساسي الثاني لمفهوم "العدالة اللسانية" هو كتاب آخر عنوانه "العدالة اللغوية لأوروپا والعالم" من إصدار مطبوعات أكسفورد سنة 2011 ومن تأليف فيليپ ڤان پاريجس.
وبالعودة إلى هذه المصادر (وغيرها) نكتشف أن الفاسي لم يستعمل مفهوم "العدالة اللغوية" لما جُعل له في الأصل. فمنطوق كلام الفاسي الفهري في النص 1 أن "مبتدأ" الحديث عن "العدالة الاجتماعية" هو "الحق في لغات التراب". ووجه الخبط في كلام الفاسي أن سياق "العدالة اللغوية" التي يتحدث عنه الخبراء ليس هو هذا الكائن الهيامي الذي يسميه ب"لغة التراب" (فلا مضمون نظريا لهذه العبارة أصلا)، بل "اللغة الأم" Mother tongue المؤسس لها في علم اللسانيات النفسية، وعلم اللسانيات الاجتماعية أي تلك اللغة التي يكتسبها الطفل أثناء الفترة الحرجة Critical Period التي تمتد تقريبا ما بين 3 أشهر و5 سنوات، والتي ترتبط في حياة متكلمها أكثر من غيرها من اللغات التي تعلمها في المدرسة أو في فترة حياتية متأخرة بمشاعره وهويته وتلقائيته الاجتماعية وذكاءاته المحفزة أو غير المحفزة. فاللغة الأم للمغاربة، وهذا ما يتجنب الفاسي الفهري الحديث عنه، ليست هي العربية وليست هي الفرنسية بل هي الأمازيغية والدارجة المغربية. و"العدالة اللغوية" التي يقصدها مبدعو هذا المفهوم والمنظرون له هو بالضبط حماية "اللغة الأم" من هيمنة اللغات المتعلَّمَة المفروضة قسرا على جماعة من الجماعات لأسباب أيديولوجية أو غيرها.
فغرض منظري مفهوم "العدالة اللغوية" هو أن ينتقدوا ما يحدث في قلب المجتمع المتعدد لغويا من تفاوتات في فرص التحصيل العلمي بسبب استعمال المنظومة التربوية للغة غير لغة عامة الناس في سياق اجتماعي متعدد اللغات. وللتدليل على المقصود ب "العدالة اللغوية" عند أهل الاختصاص، أورد النص التالي الذي يعرف فيه يوهانتي بكل وضوح معنى "العدالة اللغوية" الذي حرفه السيد الفاسي الفهري لأسباب سأذكرها:
“In a true multilingual system, all languages can have their legitimate place: mother tongues, languages of regional, national and wider communication. English and all other world languages can play their role; they can be healer languages and not ‘killer languages'. In a politically uncontaminated society that would not permit evil entrepreneurs of identity to rob others of their linguistic capital and cultural rootedness, mother tongues and other languages can complement each other with beauty, the beauty of the ‘petals of the Indian lotus', as Pattanayak (1988) so elegantly puts it, beauty with diversity”
"العدالة اللغوية" إذن هي أن نمنع "اللصوص من مقاولي الهوية" كما يسميهم يوهانتي من حرمان الناس من استخدام لغاتهم الأم ومن سرقة مُقدّراتهم الثقافية واللغوية لصالح ثقافة وافدة ولغة مهيمنة. يبني صاحب كتاب العدالة اللغوية لأوروپا والعالم" أطروحته على نفس الزخم الحقوقي ليعالج مسألة هيمنة اللغة الإنجليزية على اللغات الأم وليحلل مظاهر عدم الإنصاف اللغوي التي تنتج عن هذه الهيمنة.
خلاصة القول أن الفاسي الفهري تعمد تحريف مفهوم "العدالة اللغوية" بأن غض النظر عن كون العدالة اللغوية حماية للغة الأم، فعوض مفهوم "اللغة الأم" بعبارة "لغة التراب" التي لا معنى لها أصلا، وبأن أخرج مفهوم "العدالة اللغوية" من معنى حماية "اللغة الأم" من سعي "مقاولي الهوية" إلى سحقها إلى معنى "إتاحة اللغات الأجنبية للجميع.
وإذا عدنا إلى النص 2، نجد أن الفاسي الفهري يمارس نفس لعبة "التعويض المفهومي"، إذ يدعي بأن استعمال "اللغة الوطنية ييسر التعلم" بينما الثابت عند أهل التخصص أن ما ييسر التعلم هو اللغة الأم. فهو يستعمل عبارة "اللغة الوطنية"، وهو مفهوم أيديولوجي وليس علميا، ليعوض به مفهوم "اللغة الأم" المؤسس له في علوم اللسان. وجه "الضرورة" في تدريس المضامين باللغة الأم (كالأمازيغية والدارجة) حسب المتخصصين أن تدريسها بهذه اللغة يحقق منافع كثيرة للمتعلم ويجنبه مضار كثيرة تحصل له إذا ما درس هذه المضامين بلغة مُتَعَلَّمة (كالعربية والفرنسية). من مضارّ التدريس بلغة متعلمة بدل اللغة الأم أن استيعاب التلاميذ للمضامين يكون في هذه الحالة سطحيا، وقدرتهم على فهم المشاكل التطبيقية وحلها تكون محدودة، وقدرتهم على التعبير عن المواقف الجديدة تكون ضعيفة، مما يدفع المدرس شيئا فشيئا نحو أسلوب "تعليم الجوقة" Chorus learning . وهذا ما يعرفه المدرسون عن قرب.
المقصود ب"تعليم الجوقة" chorus learning تلك الأساليب التي تُستخدم في التلقين الذي يعتمد على لغة مُتعلمة عندما يعجز التلميذ عن استيعاب المضامين بطريقة تلقائية وطبيعية، فيضطر إلى حفظ المضامين معتمدا على ذاكرته، بدل أن يفهمها ويختبرها كما يفهم المعلومات ويطور الخبرات بشكل طبيعي في حياته الإجتماعية ومحيطه الطبيعي. من مظاهر هذه الآفة التعليمية التّعَلُّم بالحفظ الحرفي rote learning، والترديد repetition (ترديد التلاميذ لما يقوله الأستاذ بشكل ميكانيكي)، والنمطية في الإجابة typical responses (السعي لإيجاد أنماط جامدة للإجابة عن الأسئلة في الإمتحانات مثلا)، وتعامل المدرس مع تجاوب الجماعة أكثر من تعاملة مع الفردmass teaching (الإكثار من عبارة: "لِنُعد جَماعَةً ..." أو ماشابهها). ينتج عن هذه الأساليب من التعليم الناتجة عن استخدام لغة متعلّمة أن التلميذ يفقد القدرة على تعلّم التعلم learning to learn، ويعوضه تدريجيا باستعمال الأنماط التعبيرية الجاهزة، وأساليب التفكير الجامدة.
من مظاهر أسلوب "تعليم الجوقة" أيضا ضعف قدرة التلميذ على فهم المشاكل التطبيقية وحلها. فعندما نستعمل لغة مُتعلّمة (كالعربية أو الفرنسية) لتدريس الرياضيات مثلا، فإن التلاميذ قد يتعلمون الحساب والعمليات الحسابية والمعادلات الحسابية. لكنهم عادة ما يفشلون بشكل كبير في فهم "المسائل الرياضية" وإيجاد حل لها. مما يضطر أساتذتهم أو آباءهم في كثيرمن الأحيان لتفسير المسألة الرياضية باللغة الأم. فالنظام التربوي الذي يعوض اللغة الأم باللغة المتعلمة يكون دائما مضطرا لمضاعفة الجهد: يعطي التوجيهات باللغة المتعلمة ثم يضطر في كثير من الأحيان لتفسير التوجيهات باللغة المتعلمة.
فمن مظاهر "سطحية" تعلم المضامين بلغة متعلمة (كالعربية أو الفرنسية) أن التلاميذ يكونون في هذه الحالة عاجزين على إنتاج مشاريع تطبيقية projects وعندما يوجههم المدرس لإنتاج مشروع تطبيقي بناء على موضوع تمت دراسته، فمعظم التلاميذ يفضلون البحث عن مواضيع جاهزة (في الإنترنيت مثلا)، أو يطلبون من غيرهم مدهم بها (كما يفعلون عندما يتجهون إلى "مول السيبير" طالبين منه مدهم بنصوص يستعملونها في المشروع)، مما يدفع المدرس بالتدريج نحو تهميش أنشطة المشاريع التطبيقية بعد أن يتضح لهم أن التلاميذ لا يستفيدون منها أي شيء يذكر ماداموا لا يستعملون قدراتهم التعبيرية الخاصة لإنجازها. وهذا ما يفسر استحالة تطبيق بيداغوجية المشروع في السياقات التي لا تدرس فيها المضامين بلغة متعلمة. وهذه أمور يخبرها المدرسون ويعرفونها عن قرب رغم أنهم قد لا يفهمون أن من أسبابها الأساسية عدم استعمال اللغات الأم في التدريس (كالأمازيغية والدارجة).
لخص متخصصان في اللسانيات التطبيقية (اسمهما Kolawole and Ogini درسا مسألة استعمال اللغة الأم في التدريس في سياق لغة اليوروبا، وبحثهما منشور في Gifted Child Quarterly العدد 49 من ص 111 إلى ص 138) - لخصا فهمهما ل"ضرورة" استعمال اللغة الأم في تدريس المضامين باللغة الأم المحلية في النقاط التالية:
1 تدريس المضامين باللغة الأم (كالأمازيغية والدارجة) يمكنه من تجاوز مشكلة عدم معرفته المسبقة بجزء كبير من اللغة المُتعلمة (كالعربية أو الفرنسية).
2 تدريس المضامين باللغة الأم (كالأمازيغية والدارجة) يجعل المفاهيم المتعلّمة ملموسة وقريبة وواضحة لأن التلميذ كان يستعملها أو كان يستعمل ما يشبهها في حياته العائلية والإجتماعية.
3 تدريس المضامين باللغة الأم (كالأمازيغية والدارجة) يجعل المضامين قابلة للتعلم بشكل كلي أو جزئي حتى عند الأميين الذين لم تتح لهم إمكانية الإلتحاق بالمدارس.
ولخص عالم متخصص آخر (اسمه Webb في كتاب له عنوانه searching for common ground نشر سنة 2010) فهمه ل"ضرورة" استعمال اللغة الأم في سياق الدول الإفريقية التي درست حالاتها بعناية بهذا الخصوص (وهي الدول الإفريقية الواقعة في جنوب الصحراء الإفريقية) لخص ذلك بقوله (الترجمة لكاتب المقال):
"تكشف لنا الدراسات التي تم إنجازها في دول متعددة من جنوب الصحراء أن استعمال لغة غير لغة المتعلم البيتية (learner‘s home language) يفرض على المربين استخدام مناهج في التدريس متمركزة على الأستاذ التي تتضمن (أسلوب) تعليم الجوقة chorus teaching، والترديد repetition، والحفظ memorization، والتذكر recall.
وعبرت الأستاذة الجامعية المتخصصة في بيداغوجيا تدريس الرياضيات Mathematic Education في كتاب لها عنوانه Teaching mathematics in multilingual classrooms نشر سنة 2002 عن الصعوبة التي يتعرض لها التلاميذ بلغة مُتعلمة غير لغتهم الأم بواسطة نظرية مفادها أن التدريس في هذا السياق يخلق ثلاث مآزق dilemma مترابطة، أولهما أن المدرس يكون مضطرا شاء ذلك أم أبى إلى استعمال اللغة الأم بين الفينة والأخرى، ولكنه لا يعرف متى ينبغي استعمالها ومتى ينبغي أن يحجم عن استعمالهاخصوصا وأنه لا يتلقى أي تكوين في هذا الصدد. وثانيهما أنه لا يعرف متى يتردد في السماح للمتمدرسين بالتعبير عن فهمهم للمضامين المُتعلَّمة لأن قدراتهم التعبيرية في اللغة المتعلَّمة، مهما نضُجت، تبقى محدودة جدا بالمقارنة مع قدراتهم التعبيرية في لغتهم، و هي عين القدرات التي يحتاج لها المتعلم لمناقشة المضامين التي يتعلمها. وثالثها أنه لا يعرف متى ينبغي استخدام لغة تقنية محض (كتلك التي نحتاج لاستعمالها في البرهنة الرياضية) ومتى يعبر عن نفس المضامين التقنية بأسلوب الحوار المتداول. فاكتساب المهارات العلمية يحتاج للإنتقال السلس من أسلوب إلى أسلوب بدون أن يغلب استخدام أحدهما على الآخر.
فعندما يدرس المعلم مضمونا من المضامين باللغة الأم فإنه يتخلص من المأزق الأول والثاني، فيبقى له أن يطور مهاراته البيداغوجية في التعامل مع المأزق الثالث فقط لأنه مأزق مرتبط بعلاقة العلم بحياة الناس اليومية وليس مرتبطا باللغة التي نستعملها في التدريس. بهذا المعنى، فإن المدرس الذي يدرس المضامين العلمية بلغة غير اللغة الأم للتلاميذ، فإنه يكون مضطرا للتعامل مع عدد أكبر من المآزق التربوية التي يحملها من يدرسها باللغة الأم.
خلاصة الكلام أن السيد الفاسي الفهري دلّس على قارئه تدليسا عندما ادعى بأن ما ييسر التعلم هو استعمال ما سماه ب"اللغة الوطنية" في التعليم. فالثابت عند أهل النظر في اللسانيات التطبيقية أن ما ييسر التعلم، خصوصا في المراحل الأولى للتتدريس، هو استعمال اللغة الأم. والفاسي الفهري يعلم هذا حق العلم، إنما تجنب استخدام مفهوم "اللغة الأم" معوضا إياه بعبارة لا أساس لها في العلم وهي عبارة "اللغة الوطنية" التي قد تعني "اللغة الأم" وقد تعني "لغة رسمية ليس هي اللغة الأم" وقد تعني غير ذلك إنما فعل ذلك لأن إدراك القارئ لمعنى "اللغة الأم" سيقوده إلى نتيجة حتمية، وهي أن اقتراحات الفاسي الفهري بخصوص لغات التعلم لا تنسجم مع رأي العلماء وذات نتائج مدمرة للمنظومة التعليم.
3 تضليل كثير
من أشكال التضليل الذي يمارسه الفاسي الفهري في كلامه أنه يستعمل مفاهيم متداولة بغير معانيها المؤسسة في علوم اللسانيات واللسانيات التطبيقية، كما فعل بمفهوم "العدالة اللغوية"، وهذا في جوهره تعتيم بينت بعض أوجهه في الفقرة السابقة، وأنه يعوض مفهوما مؤسسا علميا بعبارة غير مؤسسة علميا ليدلس على قارئه، وهذا أيضا في جوهره تعتيم بينت أوجهه، وأنه يُنكر أن لمفهوم معنى معلوما حتى يقلل من أهميته رغم أنه مفهوم متداول بين أهل النظر اللساني التطبيقي، وهذا تضليل لصانع القرار قد تكون له نتائج خطيرة إذا ما أخذه بجدية.
من الأمثلة على التضليل الذي مارسه الفاسي الفهري أنه ادعى بأن مفهوم "التناوب اللغوي" الذي اعتبره "مفهوم غير ملائم وغامض بالفعل ولا محل له كذلك". فكيف يكون مفهوم "التناوب اللغوي" مفهوما "غير ملائم" و"غامضا" و "لا محل له" وقد نشر المتخصصون أبحاثا عديدة حوله من بينها العمل الرائد لهابرلاند (2013) الذي جمع فيه 11 بحثا علميا موثقا حول تجارب "التناوب اللغوي" خصوصا عند مزدوجي اللغة من متكلمي الانجليزية واليابانية؟ أو ليس عنوان الكتاب نفسه هو "التناوب اللغوي واختيار اللغة"؟ ألم يدرس علماء تحليل الخطاب إمكانية "التناوب اللغوي" حتى داخل الفصل الواحد (فهو أمر مشروع) كما فعل فيليپي وماركي في كتابهما الموسوم "تحليل الخطاب والتناوب اللغوي"(2018)؟ فكيف يتجرأ لساني يدعي رغبته في تنوير صانع القرار بنفي "ملاءمة" مفهوم فقط لأن العمل به قد يؤدي إلى تبني سياسات لا ترضى عنها أيديولوجيته. فحقيقة محاولة الفاسي الفهري لتضليل صانع القرار هو أن يوهمه باستحالة التناوب بين "اللغة الأجنبية" وما يسميه ب"اللغة الوطنية" في تدريس العلوم، وهو أمر مقبول بل ضروري، واستحالة تدريس المضامين بالأمازيغية والعربية كليهما خصوصا إذا كان تناوبا بين الأمازيغية والدارجة المغربية، ففي ذلك تناوب لغوي محمود. فلا محل في أيديولوجيته القومية الموريسكية سوى للغة واحدة هي العربية، لا ضير من "توشية" محيطها بلغات يعتبرها ثانوية كالأمازيغية والفرنسية والانجليزية.
من مظاهر التضليل في خطاب الفاسي الفهري أيضا أنه بذل جهدا غير قليل في إعطاء انطباع للقارئ على أنه 'يغار" على اللغة "المازيغية"، كما يسميها، ويريد لها أن تُثمّن بصفتها "لغة وطنية" و"رسمية" ولغة من "لغات التراب". لذلك تجده متحمسا لما سماه ب"الحق في لغة التراب أولا (وهي العربية والمازيغية هنا)، والتعلم بها"، بل إنك تجد الرجل يغضب غضبة الغيور على الأمازيغية فيصرخ صرخة المُحبّ الذي جُرح قلبه بفعل ما حصل لمحبوبته (وهي الأمازيغية) من أذىً، فينكر على من يرفض قطع الصلة مع هذه اللغة من "المفكرين" فيقول: "فكيف لهؤلاء "المفكرين" الكبار أن يبخسوا لسانهم العربي ولسانهم المازيغي معا، ويقطعوا بأن لا مكان للعربية في تدريس العلوم، ولا مجال للمازيغية بنفس المناسبة؟"
إلا أننا بمجرد أن ندقق النظر في تفاصيل كلام الفاسي الفهري، سنكتشف، وللأسف، أن الرجل لا يرضى للأمازيغية غير المكانة الذي أرادته لها الأيديولوجية السياسية المفروضة، مكانة لغة تدرس في الابتدائي، ولا تدرس بها أية مضامين، لا قيمة لها سوى بصفتها لغة "تواصل". فتأمل ما يقول بخصوصالأمازيغية:
"وأما المازيغية، فحتى وإن كانت غير مؤهلة تأهل العربية الآن، إلا أنها لا يمكن أن تحرم على مستوى المبدأ من القيام بالوظائف التي توكل لها عبر التخطيط اللغوي التدريجي، في ظروف قد تؤدي إلى توافقات سياسية مرحلية تضع لها أولويات وظيفية."
وبهذا الكلام يصادر الفاسي الفهري على ثلاث مسلمات لا دليل عليها، بل هناك أدلة كثيرة ضدها:
أولها أن الأمازيغية "غير مؤهلة تأهل العربية الآن"، وهذا كلام مردود عليه من أوجه منه أن الأمازيغية اليوم تتوفر على قواميس في منتهى الغنى والعمق، كالمعجم العربي الأمازيغي الذي ضمنه مؤلفه الأستاذ محمد شفيق مواد معجمية أمازيغية غزيرة تجمع بين العام وما يتصل بحقول دلالية يحتاج إليها في العلوم، كالمفردات الدالة على الحيوانات والنباتات والمعادن والتشكلات الجيولوجية وغير ذلك كثير كثير. من ذلك أيضا المعاجم الأمازيغية المتخصصة كقاموس المصطلحات الإعلامية، والجغرافية، والرياضية، واللسانية، مما أصبح مشاعا بين الناس بفضل مجهودات المتخصصين المغاربة وغيرهم، سواء ممن يشتغل في إطار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أو من يشتغل خارجه. هذا بالإضافة إلى انطلاق عملية ترجمة الأدبيات العالمية في الآداب (كترجمة “رباعيات الخيام” وكتاب البؤساء” للغة الأمازيغية) و العلوم (من ذلك العمل المتميز لأستاذ الرياضيات السيد محمد بلغازي الذي ترجم الجزء الأول من مسلمات أوقليدس إلى اللغة الأمازيغية).
من أوجه افتراض الفاسي الفهري أن الأمازيغية غير مؤهلة لتدريس العلوم أنه لو صح كلامه ومقارناته لما تحولت اللغة الفرنسية إلى لغة علم في القرن السادس عشر أمام اللغة اللاتينية التي كانت لا تدرس العلوم إلا بها أمام اللغة اليونانية الهيلينية التي كانت لغة التراكم المعرفي ذي التاريخ الطويل. ولو كان التراكم المعرفي شرطا لتأهيل لغة لتصبح لغة علم لما قفزت اللغة الكورية، أمام الصينية واليابانية، من لغة ينخرها المعجم الصيني الكلاسيكي لا يستعملها إلا الفلاحون والعبيد إلى لغة دولة كوريا الجنوبية التي هي الدولة صاحبة الرتبة الأولى في مؤشر الإبتكار التكنولوجي اليوم. لذلك أستأذن القارئ الكريم أن يسمح لي بتسليط بعض الضوء على حالة تأهيل اللغة الكورية الذي لم يتم إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فأنتج لغة (هي اللغة الكورية) تنافس اللغات العالمية في مجالات العلوم والتقنيات.
فقد كانت وضعية اللغة الكورية في حال أسوء من وضعية اللغة الأمازيغية. فانطلاقا من القرن الرابع للميلاد، اخترقت الصينية الكلاسيكية ونظامها الكتابي المعروف ب”الهانجا” المجتمع الكوري، مما أدى إلى تهميش شبه كامل للغة الأم للشعب الكوري. واستمرت هذه الوضعية غير المريحة من القرن الرابع حتى القرن العاشر للميلاد حيث بدأت محاولة لاستعادة الحق الهوياتي المسلوب للشعب الكوري، وذلك بتعويض خط الهانجا الصيني بخط الهانڭول الكوري. إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل لأن المعجم الكوري كان قد اختلط بالمعجم الصيني وقواعده بطريقة أصبح معها تعلم الكورية أمرا في منتهى الصعوبة. فاستمرت هذه الوضعية غير المريحة للغة الكورية حتى بداية القرن العشرين حيث قام مصلح كوري اسمه كو هيون بايي بتخطيط لغوي حرر اللغة الكورية من تأثير الصينية وما نتج عن هذا التأثير من تعقيد مذموم في صيغتها المعيارية ونظامها الكتابي. فبعد أن استسلمت اليابان في الحرب العالمية الثانية، شغل كو هيون منصب رئيس مكتب التربية الوطنية لتأليف المناهج الدراسية، مما وضعه في موقع مكنه من تقديم إصلاحات لغوية أثبتت فعاليتها فيما بعد. ومما اقترحه ضرورة تحرير اللغة الكورية من تأثير المعجم الصيني حتى يكون تعليم الكورية سهلا على الناشئة، وحتى لا تكون اللغة الكورية مجرد تابع صغير للغة الصينية (مع العلم أن مؤرخي اللغات أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك اليوم أن اللغة الكورية لا تنتمي إلى عائلة الاتاي التي تنتمي إليها الصينية). كما اقترح توحيد الخط الكوري باستعمال الخط الوطني الهانڭول والتخلي بشكل نهائي عن الهانجا. مما ساهم في المزيد من التيسير لمهمة تعلم اللغة الكورية.
والدرس الذي نتعلمه من حالة اللغة الكورية أن تأهيل لغة للإستعمال في مجال العلم ليس متعلقا بالتراكم المعرفي التاريخي (فقد كانت الصينية الكلاسيكية هي لغة التراكم المعرفي في كوريا) وليس رهينا بإنتاج المعرفة (فالكوريون لم يكونوا ينتجون المعرفة في بداية نهضتهم) بل بالتخطيط اللغوي الذي يسعى إلى ييسر اللغة ويعمم استعمالها. والتخطيط اللغوي مرتبط، في نهاية التحليل، بالارادة السياسية لصانع القرار .. فمشكلة الأمازيغية اليوم ليس هو "تأهيلها" لتأدية وظيفتها بصفتها لغة رسمية، بل الارادة السياسية لصانع القرار، الدولة أو الحكومة أو كلاهما، في إنزال الطابع الرسمية للغة الأمازيغية إنزالا منصفا وحاسما ومنسجمعا مع تطلعات إمازيغن.
واضح إذن أن الفاسي الفهري يؤمن بأن الأمازيغية غير مؤهلة لتدريس العلم، لذلك يدعو إلى تهميشها بصفتها لغة ثانوية لا تدرس إلا في الإبتدائي والاعدادي، في أحسن الأحول، ولا تدرس بها أية مادة من المواد. هي إذن قسمة ضيزى و"غيرة" زائفة.
من أخطر مظاهر التضليل في كلام الفاسي الفهري أنه يدعو إلى "استفتاء" المغاربة في شأن لغات البلد ووظائفها، وهو بذلك يعتبر الدستور المغربي الذي يقر بلغتين رسميتين، ويعتبر الأمازيغية "أيضا" لغة رسمية، مجرد وثيقة مفروضة لم تأت باستفتاء شعبي وإجماع وطني. فلو أن الفاسي الفهري صرح بهذا الموقف ورافع من أجله، كما يفعل كل من يعتبر الدستور المغربي دستورا "ممنوحا" يحتاج لمراجعة، لاحترمنا رأيه وناقشناه فيه، أما أن يطالب ب"استفتاء" وطني حول وظائف اللغتين الرسميتين، فهذا ضرب من الكلام قد يسائل الموقف السياسي الحقيقي للرجل من الدستور، وقد يسائل فهمه لمعنى "اللغة الرسمية"، وقد يسائل تقديره ل"مدى رسمية اللغة الأمازيغية" بالنسبة له. فإخفاء الفاسي الفهري لموقفه من هذه الأمور تضليل خطير.
ومن أوجه تناقض الفاسي الفهري في الكلام أنه يفترض أن التخطيط للتوزيع الوظيفي للغات الوطنية يحتاج لاستفتاء، ولكنه يقترح مخططات مبنية على تصورات لم يدعمها أي. فجملة ما يريده لوطنه أن يكون تدريس كل المضامين بلغة واحدة هي العربية، على أن تدرس الفرنسية والانجليزية لمساعدة المغاربة على تحصيل العلم، وتترك الأمازيغية في الوضعية التي أراده لها التقرير الاستراتيجي الصادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وهي وضعية "لغة" لا تدرس، في أحسن الأحوال، سوى في الابتدائي والاعدادي. فهل استفتى الرجل المغاربة في هذا الرأي فأفتووا عليه به؟ ثم ألا يحتاج المُستفتى للتنوير والتوضيح؟ ألا يحتاج عامة الناس إلى فتح أعينهم على مفاهيم "اللغة الأم" التي عتّم عليهم الرجل فيها؟ ألا يحتاجون إلى فهم طبيعة اللغة وخصائصها التصميمية الثلاثة عشر، كما صاغها هوكيت مثلا؟ ألا يحتاجون فهم المضار التي تحصل لأبنائهم عندما يدرسون الرياضيات والعلوم الطبيعية في السنوات الخمسة الأولى بغير لغاتهم الأم؟ أليس هذا هو دور الفاسي الفهري وغيره من اللسانيين الذين يسعوون لأن يقوموا بدور تنويري؟ هل يريد الرجل أن يستفتي شعبا نصب عليه مقاولو الهوية لقرون؟ إنما مثل الفاسي الفهري كمثل رجل وضع لصاحبه الكثير من الجوز الهندي (الڭوزة) لصاحبه في الطعام، فلما دوّخت الڭوزة رأسه وبلغت في "التدويخة" مبلغا عظيما، طفق يدعوه إلى التوقيع على عقود التسليم ببيعه ل"مدوِّخه". فهكذا هم مقاولو الهوية دائما: يعتمون عليك، ثم يغلطونك، ثم يضللونك، فيدفعونك بعد كل هذا إلى "الاستفتاء". فأنعم به من استفتاء!
ولو كان للفاسي الفهري اتصال بالواقع يؤهله إلى معرفة دوافع الحركات الاحتجاجية بمغرب اليوم لما احتاج إلى الدعوة إلى استفتاء أصلا. فمعظم الاحتجاجات اليوم تجد أصلها في الحركة الأمازيغية ولا تحمل في مظاهراتها سوى الأعلام الأمازيغية حتى صارت هذه الأعلام رمزا للنضال والالتزام السياسي عند جميع التوجهات السياسية. أليس الحراك الريفي في جوهر حراكا أمازيغيا (وهذا سر استعداء البعض له)؟ ألم يكن الزفزافي مناضلا أمازيغيا لا يغيب عن مسيرات تاوادا وغيرها؟ أليس حراك "أكال" الذي يناضل ويرافع من أجل الحق في الأرض حراكا أمازيغيا؟ أليست الحركة النقابية السياسية الأغلب والأكثر تمكنا وانتشارا في جامعات المغرب اليوم، هي الحركة الثقافية الأمازيغية؟ ألا يكفي كل ذلك "استفتاء"؟
إن دعوة الفاسي الفهري ل"استفتاء" في شأن وظائف اللغات في المغرب هي دعوة مضللة لأنها تفترض أن الأمر غير محسوم وواقع الحال أنه محسوم بالدستور وبما تشير إليه الحراكات السياسية في مغرب اليوم.
خلاصة
تلكم بعض مظاهر التعتيم المذموم، والتغليط، والتضليل، التي مارسها الفاسي الفهري في خطابه حول الشأن اللغوي في مغرب اليوم. فكان الأحرى أن ينوّر لا أن يعتم، وأن يصحّح المفاهيم الخاطئة لا أن يغلِّط، وأن يستشرف آفاقا أرحب وأكثر تثبيتا للتنوع الثقافي واللغوي الجميل لمغرب اليوم، لا أن يضلل صناع القرار ويحرضهم على إعادة إنتاج الأيديولوجية اليعقوبية العنصرية التي أدخلها مقاولو الهوية وسُرّاق التواريخ والجغرافيات خُلسة والناس نيام بُعَيْدَ إكس ليبان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.