ربما لم يكن يخطر ببال السعدية رضواي، بعدما دفعت بها الأقدار منتصف ثمانينات القرن الماضي من الدارالبيضاء إلى هلسنكي، أنها ستصبح إحدى أبرز وجوه العمل التطوعي في عاصمة فنلندا ويتم تكريمها بجائزة أفضل متطوعة ل"الكاوبونكي" (بلدية هلسنكي) سنة 2015؛ وهي السنة نفسها التي حصلت فيها على لقب "شخصية السنة" لجمعية صحفيي مدينة هلسنكي، نظير الخدمات التي تقدمها من أجل تأهيل المهاجرين للاندماج بفنلندا. وعلى الرغم من أن بلدان شمال أوروبا تكاد تفتقر لبصمات مغربية نسائية، مقارنة بأوروبا الغربية التي برزت فيها أسماء عدة نساء مغربيات على الساحة السياسية والجمعوية، إلا أن مسار السعدية رضواي في فنلندا شكل مصدر إعجاب في بلاد تحظى فيها جهود النساء في المجال الاجتماعي بتقدير خاص، ما جعل الكاتبة الفنلندية سونيا هيلمان توثق هذه التجربة في كتاب نشر سنة 2005 بعنوان "نايست إيلمان ماتا" (سيدة بدون موئل). لا تجد السعدية حرجا في سرد المعاناة التي كابدتها في بدايات قدومها إلى فنلندا في ظل عدم التمكن من اللغة وغياب سند اجتماعي أو مترجمين معتمدين آنذاك، مما دفعها إلى التوجه إلى مركز إقامة نسائي، بعد زيجة لم تكلل وقتذاك بالنجاح. "كنت أول امرأة عربية تتوجه إلى مثل هذه المراكز، وما واجهته في تلك الفترة تحديدا هو ما سيدفعني لاحقا إلى التفكير في تأسيس إطار جمعوي لمساعدة نساء وجدن أنفسهن في مثل ذلك الموقف، بعدما تطلب الأمر مني قرابة ست سنوات لتسوية جميع مشاكلي الإدارية"، تحكي السيدة رضواي في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء. وتضيف: "كان عليّ أن أتعلم اللغة الفنلندية وهو ما شرعت فيه بجهود ذاتية وتطلب الأمر مني سنة كاملة، وبعدها قدمت طلبا للالتحاق بجامعة هلسنكي، شعبة مقارنة الأديان. بعد التخرج، قمت بالتدريس سنتين في مؤسسات تربوية حكومية. لكن بموازاة ذلك حرصت على الاطلاع على القوانين الفنلندية وكل ما يتعلق بوضعية المرأة وحقوق الإنسان عموما". إلى جانب المسار الدراسي والمهني، اجتهدت السيدة السعدية في التقرب من منظمات فنلندية لاكتساب التجربة والخبرة، أبرزها منظمة "كاليولا" حيث تم تكليفها لاحقا بشؤون الأجانب فيها. بعد ذلك قامت خلال سنة 2006 بتأسيس جمعية أطلقت عليها اسم "البر"، مازالت تشرف إلى اليوم على رئاستها إلى جانب طاقم تسيير يضم أجانب وفنلنديين. تقول السيدة رضواي إنه لا يوجد نظام مواعيد للقدوم إلى الجمعية، "كل من يطرق باب الجمعية فهو مرحب به، ونقوم في المعدل باستقبال قرابة 100 شخص يوميا، ما بين حالات فردية أو أسر"، مشيرة إلى أن "هدف الإطار الجمعوي هو مساعدة النساء، العربيات والمهاجرات عموما، وأيضا الأطفال. ولكن منذ سنة 2013 وسعنا مجال الجمعية ليشمل أيضا الرجال الذين هم في حاجة للمساعدة". "نحاول توعية النساء بالحقوق والحريات التي يكفلها لهن هذا البلد في كل ما يتعلق بحرية الرأي والدراسة والتطبيب، رغم أننا نصطدم أحيانا بعقلية ذكورية ترفض فكرة أن نقوم بتوعية النساء بحقوقهن بزعم أننا نقوم بتحريضهن. بعضهم دفعه الحنق إلى التهجم علينا في مقر الجمعية"، تقول السيدة رضواي التي تعتبر أن "الجمعية ساهمت في تبسيط عدد من المساطر والإجراءات في ما يتعلق خصوصا بالأحوال الشخصية، رغم بعض الصعوبات التي تعيق تطوير عمل الجمعية، لا سيما الشق المادي، في ظل عدم انتظام الدعم الحكومي". تحرص "جمعية البر" أيضا، وفق السيدة السعدية على تقديم المساعدة للأشخاص الذين تعرضوا لمواقف فيها تمييز أو عنصرية، "فخلال تعامل تمييزي مثلا في أحد المرافق نقوم بمراسلة المؤسسة ومتابعة الملف"، إضافة إلى "تقديم المساعدة للمرضى، خصوصا النساء الحوامل اللواتي يجدن صعوبة في التواصل بالفنلندية مع طاقم التمريض، ونحرص في أغلب الحالات على القدوم إلى المستشفى لأن الحضور يعتبر أيضا بمثابة دعم معنوي ونفسي، زيادة على تقديم العون الإداري اللازم". ولا تنحصر جهود "أفضل متطوعة لسنة 2015" داخل مقر الجمعية، بل تمتد إلى عمل ميداني يتمثل في تقديم العون لمن يحتاج إلى إتمام إجراءات إدارية تتعلق بالبحث عن العمل مثلا أو تقديم وثائق إلى دائرة الهجرة أو مكتب الشؤون الاجتماعية أو دفع فواتير. "ليس من النادر أن يتوصل طاقم الجمعية باتصالات هاتفية في منتصف الليل من امرأة تعرضت لمشكل أسري مثلا أو لطارئ صحي يتعذر معه التواصل باللغة الفنلندية أو عدم الإلمام بمساطر إدارية أو كيفية ملء بيانات معينة"، تقول، مضيفة أنه "لهذا السبب تحرص الجمعية على تلقين المستفيدات بالخصوص تقنيات التواصل اليومية والأمور الأساسية في الحياة باعتماد مؤطرين عرب يعملون على تبسيط المناهج والكورسات النظامية للمتلقيات". هذا الانشغال المكثف بمساعدة الآخر، الذي يتطلب إنفاق الكثير من الجهد والوقت طيلة اليوم وخلال جزء من الليل، إلى جانب الالتزامات الأسرية، هو ما دفعت به السيدة السعدية للرد على تساؤلنا بخصوص عدم اقتحام المجال السياسي في بلد يشجع المشاركة النسائية وتبوء أرفع المناصب السياسية فيها، رغم أنها كشفت أنها بالفعل التحقت خلال سنة 2007 بصفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الفنلندي ونشطت في صفوفه قرابة السنة، إلا أنها آثرت في الأخير تركيز الجهد في المجال الجمعوي. ورغم قدومها إلى البلد الشمالي منذ أزيد من ثلاثة عقود، تؤكد السيدة رضواي أنها تحرص على الارتباط بالوطن الأم المغرب. "أقوم بزيارات متكررة خصوصا في العطل، كما أحرص على التقاليد المغربية بتفاصيلها في بيتي، وأبنائي يتكلمون الدارجة المغربية. ما أزال أحافظ على عاداتي المغربية رغم أن الفنلنديين يعتبرون أني تشربت الكثير من طباعهم". وتعتبر السيدة السعدية رضواي أنها حققت الكثير من الأهداف التي سطرتها، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى نشاطها الجمعوي، كما أنها لم تخف حنينها إلى الوطن الأم الذي تمنت العودة إليه بصفة نهائية، غير أن الالتزامات الأسرية والجمعوية تحول دون ترجمة هذه الأمنية إلى الواقع. *و.م.ع