أغرب انقلاب في التاريخ: تؤكد الأحداث الأخيرة في الجزائر أن "رهين المحبسين": كرسي الرئاسة والكرسي المتحرك، عبد العزيز بوتفليقة، بأمس الحاجة إلى جبهة تحرير شعبية ثانية تنتفض في وجه جلاديه المستبدين بشخصه "الموميائي" إلى آخر رمق تشبث العنكبوت بفريستها تمتصها وتتلمظ إلى آخر قطرة حياة فيها. جبهة تستعيد، بأي وسيلة ناجعة تأتت لها، دولة الجزائر التي حلم بها، وخطط لها، وأرسى أسسها، القادة التاريخيون لجبهة التحرير، مسنودين من كل قادة التحرير، والنخب، والشعوب المغاربية. جبهة شعبية تطيح بأغرب انقلاب في التاريخ العالمي: الانقلاب على الرئيس بتثبيته على كرسي الرئاسة، ذي العجلات الموجهة لتتحرك خارج كل دواليب الدولة، وكأن عدوى نهم الرجل للحكم، منذ شبابه، انتقلت إلى رجاله في قصر المرادية – حينما أدركه، في ظروف الحرج التي نعرف-ليتحولوا إلى أقنعة رئاسية تمارس الحضور السلطوي المستبد وراء كرسي الغياب المزمن. في أي عصر يحصل هذا، وفي أي بلد؟ لقد ولى زمن الأسرار البلاطية حيث قيضت، أحيانا، مهازل التاريخ، في سائر أرجاء المعمور، لبعض الجواري والمحظيات، الجلوس على العروش وحكم الرعايا باسم الملوك والخلفاء. إن الأمر أعظم من أن يكون شأنا جزائريا داخليا، لا يحق للجهات الخارجية التدخل فيه. ومهما تكن مصالح الدول، فإن الوقوف في وجه "الانقلابيين"، بدعم الشعب الجزائري ليقرر مصيره ويستعيد دولته، بكيفية ديمقراطية، أفضل من التمكين لأقنعة الاستبداد التي تسير في اتجاه المزيد من التدمير للبنية المغاربية كلها، والمزيد من تخريب الحزام الأمني الاستراتيجي، الذي يحيط بخاصرة الأبيض المتوسط الجنوبية. إن أحزمة الإرهاب القاعدي، جنوب الصحراء-وهي وثيقة الصلة بقادة الانفصاليين الصحراويين في مخيمات تندوف-أصبحت تتحول تدريجيا إلى أحزمة داعشية، ولن يمضي وقت طويل حتى تعلن قيام "خلافة الصحراء" على أنقاض "خلافة بغداد". خلافة في منطقة فقيرة لا تغري أقوياء العالم بالتدخل، منذورة لتعفن لا شفاء منه. خلافة يمكن أن تمتد من شمال مالي إلى صحراء سيناء. لقد تمكنت من تأسيس قواعدها–وهي قتالية إرهابية وتهريبية-أمام أعين الجيش الشعبي الجزائري، وعلى مرمى قذائف منه، فكيف بها حينما تجهز الأقنعة المستبدة، بسرايا المرادية، على كل آمال الشعب الجزائري، لتسلمه لعشريات سوداء لا نهاية لها؟ إن غدا لناظره قريب، ولَأن يتدخل المجتمع الدولي في الشأن الجزائري السريالي، اليوم، أفضل من أن يتدخل حينما لا يُسمع له صوت، ولا يجد حتى الجهة التي تحاوره (المثال الليبي). هل من يقظة مغربية؟ أطرح هذا السؤال لأنني أعتبر أن ما يحصل في الجزائر اليوم–كما الأمر منذ استقلال هذا البلد-يحضر فيه المغرب، راضيا أو كارها. لقد سبق لي أن تساءلت في موضوع سابق عن "الجزائر المغربية"-حاليا-متى تنهض بها الجزائر الجزائرية. طبعا يكمن التاريخ وراء هذا السؤال، كما الجغرافية والاستعمار. وقد توصلت إلى أن هذه الجزائر الجزائرية، لا يمكن أن تنهض إلا خارج حكم العسكر. جزائر مدنية يتنافس فيها على الحكم مدنيون، ويركن فيها الجنرالات إلى عسكريتهم بعيدا عن السياسة. اليوم حينما تصر الأقنعة – وأغلبها عسكري-على مواصلة لعبة الكرسي المتحرك، وحينما يشعر الشعب الجزائري بالإهانة ويتحرك ليفضحها أمام العالم، تصل دولة الجزائر إلى مفترق الطرق: إما بزوغ فجر الدولة المدنية الحلم، أو تكريس حكم الاستبداد المقنَّع، كمدخل للسفور العسكري التام. وما دامت رجاحة العقل الدولتي غائبة عن قادة العسكر الكبار، خصوصا وهم يعرفون أن مصير أغلبهم في الدولة المدنية إلى القضاء والسجون، لإيغالهم وولغهم في الفساد والريع، فمن المستبعد أن يرضخوا لمطالب الشارع الجزائري بتراجع تاريخي عن ترشيح وتزكية وتثبيت أقنعتهم الرئاسية. من هنا يعاود المغرب حضوره، ورقة ضاغطة في جيب الجنرالات، إلى جانب الورقة السورية التي يهدَّدُ بها المنتفضون ضد الإهانة والحكرة. وهل تُتصور دولة مدنية ديمقراطية في الجزائر تواصل نهب ثروات الشعب بمسمى الشعب الصحراوي وتقرير المصير؟ وهل ستسكت هذه الدولة على تسعمائة مليار دولار نهبت بالمسمى نفسه والحال أنها كانت كافية –لو صدقوا-لإسكان الانفصاليين في قصور بدل وضعهم الكارثي الحالي؟ وعليه فالمغرب في قلب معادلة الرئاسيات الحالية. وللمسألة شق أمني شديد الخطورة، حينما ينتهي التراشق بالورود، وحتى الرش بخراطيم المياه، إلى مواجهات دامية بدأ الجيش يستعد لها. ستُنكأ جراح لم تندمل بعد، خصوصا وقد فُرض الوئام المدني فرضا على عائلات ضحايا العشرية السوداء. وماذا بعدُ غير توقع سوريا مغاربية طاردة لأبنائها خارج الخريطة. وهل من هجرة إلى غير المغرب–وقد سدت أوروبا أبوابها-على خطى مهاجري زمن حرب التحرير؟ صورة مأساوية مرعبة لا نتمناها للشعب الجزائري الشقيق، وما كنت لأرسمها هنا لولا التهديد بها من طرف الأقنعة الرئاسية. إما نحن أو طرق أبواب وجدة كآبائكم وأجدادكم. وماذا عن الإرهاب المتربص في جنوب الصحراء؟ ألا تفتح له الأبواب والنوافذ في فوضى الدولة الجزائرية ليتسرب إلى حيث يثأر من البلاء الممتاز للأجهزة الأمنية المغربية؟ ألا تهمه الخاصرة الجنوبية للاتحاد الأوروبي بل السيقان التي راقصته حد الموت في العراقوسوريا وغيرهما؟ كل هذا يدعو الدولة المغربية إلى اليقظة وتتبع ما يجري لدى الجيران. وحتى لا يقع الأسوأ على المغرب أن يعمل من أجل الأصلح: دعم الشعب الجزائري لتقرير مصير رئاسياته، واستعادة دولته المدنية التي انقلب عليها، ذات زمن، جيش الحدود بزعامة الراحل بومدين. إن جبهة تحرير الرئيس الغائب عن وعيه تستعيد لحظة اندلاع شرارة ثورة التحرير. وكما حضر المغرب في الأولى عليه أن يحضر في الثانية.