زمن الأخطاء الكبرى: في كتاباتي السابقة عن الجزائر، والتي يضم أقدمها كتابي الرقمي "الجزائر بألوان متعددة: إنتاج الزمن المغاربي الضائع"، الكثير من الإرهاصات والتوقعات التي يصدقها الربيع الجزائري اليوم؛ ربيع الجمهورية الثانية التي ستنهض على أنقاض الجمهورية الأولى: جمهورية الراحل هواري بومدين، التي كادت تكبو وتسقط في رئاسة الراحل الشاذلي بنجديد (1979-1992)، لولا أن تداركها جنرالات الجيش الأقوياء، وقتها- خالد نزار، وزير الدفاع؛ محمد العماري، قائد الجيش البري؛ ومحمد تواتي، المستشار بوزارة الدفاع، منقلبين على نتائج الانتخابات البلدية، وعلى الرئيس نفسه، الذي آمن بالجزائر المدنية الديمقراطية، متعددة الأحزاب، والمنفتحة على محيطها المغاربي والعالمي. نعم تم إنقاذ جمهورية "جماعة وجدة" وقتها، لكن بثمن غال، توالى دفعه، دما، على مدى العشرية السوداء، التي لازالت إلى اليوم ورقة في يد الجيش، يرهب بها الشعب المنتفض على دولة الغلبة والفساد، العاضة على الرقاب. حينما دخل عبد العزيز بوتفليقة قصر المرادية، رئيسا(1999م)، كان عليه أن يحل معادلة بثلاثة مجاهيل: 1.مآلات جيش مستنْزَف، ولغ في دم المواطنين، وذبح النهج الديمقراطي للشاذلي. 2. مصير جماعة إسلامية مسلحة، أحرقت كل سفن العودة إلى الحياة المدنية. 3. ثم مستقبل الشعب الجزائري الجريح، الذي ارتهنه القتال بين فلول جمهورية بومدين، المنتهية الصلاحية منذ زمن، وجبهة شعبية لم تجد غير الدين رداء، لتسقط استبداد جبهة التحرير؛ كما دجنتها جماعة وجدة، بعد أن قضت –أو أبعدت - على من تبقى من قياداتها التاريخية، ومن سار على نهجهم. تتشكل القيادة التاريخية من: مصطفى بن بولعيد: اغتيل في 23 مارس 1956. العربي بن مهيدي: قتل سنة 1957. كريم بلقاسم: اغتيل بعد الاستقلال (18 أكتوبر 1970). رابح بيطاط: 1999. محمد بوضياف: اغتيل في يونيه 1992. ديدوش مراد: قتل سنة 1955. جلس بوتفليقة – أخيرا - على كرسي لم يكن يرى أحدا غيره أهلا له، بعد وفاة بومدين، كولونيل جيش الحدود؛ لكن ظروف الوفاة – تسميما حسب الراجح من الرواية الروسية– وعدم خلو ذمته السياسية والمالية؛ خصوصا وقد لعب دورا محوريا في الانقلاب على الرئيس الأول أحمد بنبلة (رغم انتمائه هو أيضا إلى جماعة وجدة) وتصفية بعض القيادات التاريخية، وطرد بعضها –بوضياف، آيت أحمد..كلها أمور حالت بينه وبين تحقيق طموحه؛ بل دفعته صوب المنفى في دولة الإمارات العربية. وفي رواية غير مؤكدة يرد أن بوتفليقة زار الراحل الحسن الثاني في إفران، وطلب منه مساندته، لكنه ووجه بالرفض..بدا، في استوائه على عرش الجزائر، وكأن الأقدار ادخرته ليُنعش جمهورية منهارة، ويعود بها إلى سالف "بومديينيتها"؛ وهذا ما فعله بالضبط: *بدل تحميل مسؤولية العشرية السوداء لقادة الجيش النافذين، وتخليص الدولة من استبدادهم، والعودة بهم، على الأقل -إن لم تتأت محاكمتهم- إلى الثكنات؛ كما حاول ذلك الشاذلي بنجديد، في ظروف أخرى (وهو الجنرال) مكن لهم بوتفليقة، وبسط أذرعهم الأخطبوطية، في كل مؤسسات الدولة السياسية، الإدارية والمالية. كان هذا وعدا قطعه على نفسه، منذ نزوله ضيفا بمنزل الجنرال العربي بلخير، عائدا من منفاه الخليجي.. إنه الثمن الذي فَرش له البساط الأحمر، المفضي إلى رعشة السلطة الكبرى؛ منتقما من السنين العجاف، التي كان عليه فيها أن يكابد –من بعيد- الفشل المتوالي ل"الرؤساء المتدربين" على حد تعبيره، في خطاب تسلم السلطة من الجنرال ليامين زروال، وهو المهندس الحقيقي للوئام المدني. وماذا عن أمراء الدم؟ بعد أن لمَّعت دولة عبد العزيز بوتفليقة أحذية القادة العسكريين، ولم تترك بها أثرا لتهشيم الجماجم على مدى سنوات الرصاص؛ كان عليه أن يسترضي متمردي الجبال، الذين سعوا منذ البداية إلى معاودة إذكاء جذوة الجبهة الثورية الشعبية التي انقلبت عليها جمهورية هواري بومدين؛ حينما نصَّبت صوريا أحمد بنبلة، وحينما انقلبت عليه. ومن المفارقات ألا يكون المهندس الحقيقي، في زمن الأخطاء هذا، غير وزير الخارجية الشاب عبد العزيز بوتفليقة. هاهو اليوم، وقد غدا سيد المرادية، وهاهم الثوار –وقد ارتدوا ثوب المرحلة، وهو ديني – في قمم الجبال، كما كان آباؤهم بالأمس. سيعمل الداهية بوتفليقة على استرضائهم بتنظيف أثوابهم مما علق بها من دم أسود؛ ودعوتهم إلى العودة إلى الحياة المدنية بملفات قضائية في منتهى النظافة. إنه الوئام المدني، الذي رحل به الرئيس – خطيبا مفوها- في كل الولاياتالجزائرية، محاولا استهلال "مُلك رئاسي"، لا ثأر فيه لأحد على أحد؛ ولو ضدا على روح القوانين ودولة المؤسسات. والختم بشراء الذمم: لكل شيء ثمن، ولا يغسل الدمَ إلا المال، يسيل بين يدي المواطنين، والشباب بصفة خاصة، ينسيهم الآلام، ويوجه أنظارهم إلى المستقبل، لا غير، مادام الماضي لم يكن غير زمن تفريخ معضلات الدولة الجزائرية. مهندس الانقلاب على نهج القيادات التاريخية، يصبح، مرة أخرى، مهندسا للانقلاب على العدالة، باعتبارها الدعامة الأساسية في صرح الدول. الفارق اليوم أن الكل أصبح متواطئا، بكيفية أو بأخرى، مادامت هناك سيولة ضخمة من عائدات المحروقات، وصلت، لأول مرة، حتى إلى أيادي الفقراء من عامة الشعب. طبعا مع الاستمرار في اعتبار الجزائر مغربية الهوى: وهذه من معضلات الجزائر الكبرى، لأن جماعة وجدة، ومن شدة ارتباطها بالمغرب، ومخالطة مواطنيه، خصوصا ساكنة وجدة، صارت مغربية شعبية؛ يتوزعها الولاء للنظام أحيانا، والمعارضة أحيانا أخرى، كسائر المواطنين؛ وهذا طبيعي جدا. ألم يقل هواري بومدين، وهو رئيس، للمرحوم الحسن الثاني: "أنا أعرف الطريق من وجدة إلى البيضاء أفضل منك"؟. ألم ينحن بوتفليقة، وهو رئيسٌ، إجلالا وخشوعا، أمام جثمان الراحل الحسن الثاني؛ ولعله تألم كثيرا لرحيل العاهل المغربي، قبل استقباله بصفته رئيسا للجزائر؛ وقد كان سعى من أجل تحقق هذا اللقاء التاريخي. بوتفليقة الشاب، وزير الخارجية، الذي منعه البروتوكول الملكي، ذات تاريخ بمدينة السعيدية (1965)، من حضور لقاء الحسن الثاني وهواري بومدين (رواية المرحوم عبد الهادي بوطالب) يستقبل في القصر الملكي، بصفته رئيسا. إنه لأمر شخصي وعائلي عظيم لآل بوتفليقة الوجديين. (كان جوابه للجنرال هاشم العلوي، وهو يغلق الباب في وجهه: أنت لا تعرف من يحكم في الجزائر). ماذا يفعل بوتفليقة الرئيس إزاء كل هذا الإرث من مفردات الحب والكراهية، الانقياد والتمرد..؟ طبعا لم يكن له الا أن يمضي في الوجهة التي مضت فيها جمهورية هواري بومدين، وجهة ارتهان جنرالات الجيش لمقدرات الشعب الجزائري، بمسمى الجار المغربي الذي يتحين الفرص للانقضاض. ولسائل أن يسأل: لماذا لم يوسع بوتفليقة سياسة الوئام المدني، لتشتغل مغاربيا أيضا؟ ألم تكن العشرية السوداء التي كبلت دولة بأكملها، وبثت الرعب في أوصالها، عشرية مغاربية سوداء أيضا؟..حينما أطيح بالرئيس الشاذلي بنجديد من طرف كبار الجنرالات، ألم تتم الإطاحة حتى بأركان الاتحاد المغاربي، الذي ساهم فيه الرجل بكل إخلاص وثقة؟.. طبعا بوتفليقة يعلم هذا، لكنه لا يمكن أن يشتغل إلا على ما فيه بصماته وليس بصمات غيره؛ وفي هذا تعصب مقيت لنفوذ العسكر الذي فرش له البساط الأمر. هل فوت المرحوم الحسن الثاني الفرصة المغاربية حينما تملص من لقاء بوتفليقة الرئيس؟ ربما، لأن جلوسه مع "ملكه" ندا لند، كان سيحل الكثير من عقده النفسية تجاه المملكة. وُفق في إيجاد مجاهيل المعادلة، لكن.. لم يوفق في بعث الجزائر التي حلم بها وأرساها القادة التاريخيون لجبهة التحرير، وكانوا بصدد حل هذه الجبهة (رأي محمد بوضياف) حتى تترسخ التعددية الحزبية، وبالتالي الديمقراطية؛ ولم يكن له أن يوفق، لأن نظرية العصبية والدولة، كما نظر لها ابن خلدون، تأبى عليه ذلك. "طاب جنان" الجمهورية الانقلابية الأولى –على حد عبارة بوتفليقة نفسه- واستنفدت أغراضها التي تأسست من أجلها: التمكين لدولة العسكر، وتقزيم الشعب المدني. أتخم العسكر دولة ونفوذا ومالا، دون أن يحقق شيئا يذكر للجزائريين: *فشلت الثورة الاشتراكية، بشقيها الفلاحي والصناعي. *بعد ازدهار فلاحي كولونيالي، غذى فرنساوالجزائر، أصبحت الجزائر تستورد حتى حاجياتها من البطاطس والبصل. *ترسيخ إرادة اللامَحيد عن تكريس المحروقات قطب الرحى في الاقتصاد. إنها سياسة الأسهل المتحكم فيه بدل الأفيد، المكرس للمواطنة الحقة. الفلاح أكثر تشبثا بالأرض وقيم البادية والوطن عموما. الثروة السائلة لا تترك أي شيء ثابتا صلدا لدى المواطنين. *تبخر العائدات الفلكية من العملة الصعبة، ولا سبيل إلى المحاسبة، مادام الاقتصاد معسكرا، وموجها غالبا لخدمة الآلة العسكرية، حيث تتداخل مصالح الدول الكبرى المصدرة مع الزبونية المحلية. *تكريس معضلة قيام العقيدة العسكرية للدولة على العدائية المفرطة للمملكة المغربية؛ وحتى لو أغلق ملف الصحراء فستكون هناك ملفات أخرى تفتح؛ لأنهم هناك مقتنعون بأن قلب الجزائر العسكرية لا طاقة تنعشه عدا طاقة العداء للمغرب. واختار المغرب ألا يتدخل في الشأن الجزائري: لا يتدخل ولا يعلق no comment: يكفي هذا، على المستوى الرسمي، وهو أفضل من الصمت الذي ساد إلى يوم أمس (الجمعة 16). تصريح وزير الخارجية، السيد ناصر بوريطة، غني بالدلالات، ذات الاشتغال المغربي والجزائري والمغاربي. بهذا التصريح تكون الجزائر الرسمية خسرت دعم جيرانها الرسميين، ليستتب أمنها. إنها الجزائر التي أحرقت كل السفن، ولم يبق لها إلا أن تواجه البحر سباحة..لقد حُرمت مما يمكن أن يفيدها في التأثير على الشارع المنتفض. لا موضوع جديدا للعداء والاستعداء. ورغم كل هذا أكرر دعوتي للتدخل في الشأن الجزائري، باعتماد إستراتيجية الدبلوماسية الموازية، لأن ربيع الجزائر لا يمكن أن يكون على المدى المتوسط والبعيد إلا ربيعا مغاربيا؛ يدفع صوب دولة مدنية ديمقراطية، تنحل فيها جميع المشاكل القائمة مع الجيران. هذا حتمي لأنها مشاكل اصطنعها العسكر، ويعتبرها من لوازم سيطرته السياسية والاقتصادية. إن قيام الجمهورية الجزائرية الثانية، على أنقاض جمهورية بومدين وبوتفليقة، شأن جزائري أولا، وشأن مغربي أولا، وشأن مغاربي أولا. لا دفن لزمن الأخطاء بغير هذا.