وفاة الرئيس الجزائري السابق هوّاري بومدين في دجنبر 1978، دون نائب يخلُفه – وهو ما حرص عليه طوال حكمه- أشعل الصراع على خلافته بين رجال الحزب الحاكم بزعامة محمد صالح يحياوي وبين رجل الدبلوماسية الأول، عبدالعزيز بوتفليقة، ليتدخل الجيش بدوره في هذا الصراع بأن رشح واحدا من قدماء رجاله وهو الشاذلي بنجديد، وقد نص دستور 1976 على ضرورة اختيار رئيس الجمهورية من قِبل جبهة التحرير الوطني، حصرا. فما كان من الجيش إلا أن نصَّب الشاذلي بنجديد أمينا عاما لحزب جبهة التحرير الوطني، ما جعله المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية، لاسيما مع ثقله العسكري، الأمر الذي أسفر في نهاية المطاف عن تقلده لمنصب رئيس الجزائر في 9 فبراير 1979. طالب بنجديد بعدما استقرت جميع السلطات في يده بدعم من العسكر؛ بإعادة تقييم التجربة السياسية وضرورة إحداث تغيير سياسي واقتصادي في البلاد التي سارت على وتيرة واحدة غير تعددية منذ الاستقلال، لكن هذه المطالب واجهها رجال هواري بومدين؛ الذين كانوا أكثر نفوذا وعددا في الدولة، وفي مناصبها المفصلية. تزامنت حالة الصراع الداخلي بين مراكز القوى في الدولة مع انهيار سعر البترول بصورة حادة (من 30 دولارا للبرميل إلى 10 دولارات)؛ الأمر الذي كانت له آثار قاسية على واقع الجزائريين المعيشي، وتفاقمت معه أزمة السكن والبطالة في بلد كان يستورد معظم ما يأكل ويلبس، وزادت الأسعار بطريقة جنونية لم يستطع فقراء الجزائر مجاراتها، ليصل الحال باتجاه عجز الجزائر حينذاك، عن دفع فوائد ديونها للمؤسسات والبنوك الدولية. شعر الشاذلي بأنه ضعيف الجانب أمام كبار رجالات حزب جبهة التحرير ممن وقفوا عائقا أمام أي تغيير لميراث بومدين في مفاصل الدولة، وكانوا في الحقيقة أكبر المنتفعين من هذا الجمود السياسي والاقتصادي على المستوى الشخصي، وقد تكتلوا ضده على الدوام في اجتماعات اللجنة المركزية للحزب، ضد الانفتاح السياسي والاقتصادي في البلاد، وإزاء هذا الانسداد خرج الرجل في لقائه الشهير في شتنبر 1988 ليعلن عن ضرورة إجراء هذه الإصلاحات في جسد النظام، وكان هذا اللقاء بمنزلة الشرارة التي أشعلت فتيل الاحتجاجات. والحق أن العلاقة بين السلطة والمجتمع أثناء تلك الحقبة لم تكن تستند إلى عقلانية الحقوق والواجبات، كما يشير المراقبون والباحثون، أي إلى منطق التكافؤ، وإنما إلى القهر بمختلف أشكاله وأبشع صوره، فقد أدت الممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطويلة والجامدة إلى استنزاف جهاز الدولة، وإلى اهتزاز رمز هذه الدولة في المخيال الشعبي، كما يعود هذا الاهتزاز إلى عمق الفجوة بين المعايير الثورية التي كان يتبنّاها الخطاب السياسي وتعلنها الوثائق الرسمية، وبين آثارها التي لم يجد المواطن الجزائري لها على أرض الواقع أي تجسيد. اهتم الحزب الحاكم في الجزائر بعد الاستقلال لفترة طويلة بتسيير تناقضاته الداخلية، وتشديد قبضته على هياكل الدولة من أجل استمرار سلسلة المنافع، ليترتب وفق ذلك اهتراء مزدوج؛ لأنه شمل في الوقت نفسه النخب السياسية والمثقفة، ودواليب جهاز الحكم، الأمر الذي أثّر سلبا على مشروعية “الدولة الوطنية”، فضلا عن تقبّل الجماهير لمشاريعها التحديثية، هذه العناصر مجتمعة ساعدت على قيام حالة الانفجار الشعبي يومي 5 و6 أكتوبر 1988، وعودة الصراع بين الدولة والمجتمع المدني في الجزائر، وقد كان هذا الانفجار المدوّي علامة أكيدة على حجم الكبت المتراكم. لذلك؛ مثّلت انتفاضة أكتوبر 1988 ثورة الشباب، الذي لم يعد قادرا على العيش في كنف الحزب الواحد الذي استولى على السلطة واستأثر بها، فكانت “ربيعا جزائريا” مبكرا أدرك مجيئه الشاذلي بنجديد قبل حدوثه، وألقى بظلاله على حزب جبهة التحرير التي أُجبرت على الإصلاحات السياسية، وعلى رأسها تغيير الدستور الذي سمح في مادته الأربعين بالتعددية السياسية والحزبية في الجزائر لأول مرة منذ استقلال البلاد عن المحتل الفرنسي. ثورة أكتوبر 88 بدأت الإرهاصات الأولى ل”الانتفاضة الشعبية”، كما تسميها الصحف الجزائرية؛ يوم 25 شتنبر 1988 عندما نددت نقابة شركة “سوناكوم” (الشركة الوطنية للسيارات الصناعية)، في لقاء عقدته، بالفساد. وفي الرابع من أكتوبر 1988 ظهرت مناوشات بأحياء عدة بالعاصمة الجزائرية، لتنفجر الأحداث في الخامس من الشهر نفسه، حيث اعترضت مجموعة من الشباب وسط حي باب الواد الشعبي حافلة وأنزلوا كل ركابها وأضرموا فيها النار. وتوسعت المظاهرات في اليوم التالي، وامتدت إلى بقية أحياء العاصمة مثل الحراش، الأبيار، حيدرة وبلكور. كما امتدت، أيضا، إلى باقي الولاياتالجزائرية؛ أبرزها وهران، عنابة، تيزي وزو وبجاية. وحسب جريدة “الشروق” الجزائرية؛ فقد امتدت المظاهرات لقرابة 70% من التراب الجزائري. واستهدف المحتجون، خصوصا، كل ما يرمز للدولة الجزائرية، مثل المقرات الحكومية والأمنية. وفي السابع من أكتوبر 1988 أعلن الرئيس الشاذلي فرض حظر التجول ليلا في العاصمة وضواحيها، وكلف الجنرال خالد نزار بالملف، كما انتشرت قوات الجيش في كامل أحياء العاصمة الجزائرية، وقدرت مصادر عددها بعشرة آلاف جندي. وفي العاشر من أكتوبر ظهر الرئيس الشاذلي على شاشة التلفزيون الرسمي، داعيا المواطنين إلى التعقل ووعدهم بإصلاحات في جميع المجالات السياسية والاقتصادية. وأسفرت الأحداث التي شاركت فيها مختلف شرائح المجتمع، من طلبة وعاطلين عن العمل وعمال، عن مقتل 120 شخصا، حسب الإحصائيات الرسمية، ونحو 500، حسب نشطاء، كما تم توقيف 15 ألف شخص. وقد اختلفت قراءة الجزائريين لأحداث أكتوبر 1988، فقد أعطت السلطة الجزائرية وقتها العديد من الصفات للأحداث من مثل “شغب أطفال” و”المؤامرة الخارجية”، لكن هذه السلطة اعترفت عقدين بعد ذلك؛ في عهد الرئيس”عبدالعزيز بوتفليقة بأن ما حدث كان “ثورة شعبية”. أما المعارض “علي بنفليس، الذي كان يومها وزيرا للعدل، فقال في حديث لموقع “لجزيرة” نت في أكتوبر 2014، إن تلك الأحداث «غيرت النظام تغييرا فاصلا، بين نظام سياسي كان قائما، وبين نظام سياسي آخر بعد 5 أكتوبر». كما أن المؤرخ والأكاديمي محند أرزقي فراد، أكد في حديث لموقع “الجزيرة نت” في أكتوبر 2015، أن «انتفاضة أكتوبر كانت بمثابة الربيع الجزائري الذي جاء متقدما بعقود على الربيع العربي، ومتزامنا مع ربيع أوروبا الشرقية، وخاصة بولونيا».. سنوات من الديمقراطية؛ أوقفها تدخل الجيش رفع المتظاهرون الجزائريون، الذين خرجوا إلى الشارع في الخامس من أكتوبر1988، العديد من المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فقد طالبوا بتحسين الظروف المعيشية وبالعدالة الاجتماعية والانفتاح والحرية والديمقراطية. وقد أجبرت تلك الأحداث الرئيس الشاذلي على الاستجابة لتلك المطالب، حيث تعهد بتنفيذ إصلاحات سياسية، توجت بدستور 23 فبراير 1989، مما سمح بإنشاء أكثر من 60 حزبا سياسيا وإنهاء حكم الحزب الواحد. كما ظهرت في البلاد تعددية إعلامية، وتأسست صحف مستقلة ناطقة باللغتين العربية والفرنسية. أفرزت تلك الحرية التي أقرها دستور 1989 في الجزائر ظهور التعددية السياسية، وأصبح في الجزائر لأول مرة 60 حزبا، كان الأكثر بروزا وانتصارا في كل ذلك، ظهور التيار الإسلامي على سطح الحياة السياسية، متمثلا في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” التي أُنشئت في مارس 1989 وتمت الموافقة رسميا عليها من قِبل الدولة الجزائرية في شتنبر من العام نفسه، بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج، وهذا الأخير كان صاحب جماهيرية عريضة وحضور كاريزمي أسهم في رفع شعبية الجبهة في كامل الولاياتالجزائرية. كان من اللافت أن الرئيس الشاذلي بنجديد استقبل زعماء هذه الحركة بُعيد انتفاضة 1988، رغبة منه في امتصاص الغضب المكتوم، وسمح الشاذلي، احتراما منه لإفرازات الديمقراطية، بالحرية الكاملة والتامة للتيار الإسلامي، وعلى رأسه “الجبهة الإسلامية”، في التمدد والانتشار في البلاد، حتى إنه اتُّهم من قِبل الاشتراكيين والعسكر وغيرهم من منافسي الإسلاميين التقليديين بالجهل والتغاضي عن خطورة الجبهة وسعيها إلى السلطة. لم يأبه الشاذلي لكل هذه الأصوات، والتزم بالديمقراطية ومواعيد الانتخابات بعد إنهاء الإضراب من قِبل الجبهة وانسحاب الجيش بسبب خلافات وتعنت بين الطرفين. وفي 12 يونيو 1990، أُجريت الانتخابات البلدية المحلية في عموم البلاد، ليحقق التيار الإسلامي فيها حضورا وفوزا كبيرا. تزامن ذلك مع تصاعد وتيرة العنف التي قادتها قوات الأمن ضد الإسلاميين، الأمر الذي اضطر هذا التيار، وعلى رأسه “جبهة الإنقاذ”، إلى القيام بمظاهرات واحتجاجات عارمة في طول البلاد، فضلا عن رفضهم التقسيم الإداري الجديد الذي رأوا فيه محاولات لعرقلة النفوذ والتضييق؛ لتدعو الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى إضراب عام في ماي من العام التالي 1991. وفي الخامس من يونيو، أعلن الشاذلي بنجديد الأحكام العُرفية في البلاد، ليُعتقل معها عباسي مدني وعلي بلحاج. ووفق قراءات تاريخية، يبدو أن قرار الشاذلي بنجديد كان بإيعاز وضغط من الجيش، الذي كان يعارض صعود الإسلاميين بصورة علنية في أوقات كثيرة قبل الانتخابات التشريعية، معاداة تجسّدت ذروتها حين أعلن المدير العام لوزارة الدفاع الجنرال، مصطفى شلوفي، في بداية فبراير 1990 اتهامه لجبهة الإنقاذ، صراحة، بمحاولاتها الاستفادة من الديمقراطية لفرض نفسها، وذكر بأن الجيش حارس الدستور والحريات العامة، كما رفض الخلط بين الديمقراطية والفوضى، لترد الجبهة عبر مجلة “المنقذ”، ذراعها الإعلامي آنذاك، داعية الشعب إلى الحذر من التهديدات العسكرية، ليرد الجيش عبر وسائله بأن الدستور أعطاه حق التدخل لحماية الحريات العامة، كما أصدرت قيادة الجيش في أبريل 1990 أمرا يقضي بمنع اللحية والحجاب في المستشفى العسكري بالعاصمة، ولتهدد الجبهة من ناحيتها بالتصعيد إلا أن التراشق الكلامي لم تصحبه مواجهة مباشرة، لتهدأ الأوضاع وتجري الانتخابات البلدية أخيرا، والتي أفضت إلى فوز الجبهة الإسلامية، وهو ما اعتُبر بداية طريقها الممهّد نحو السلطة. وبالرغم من تأجيل الاستحقاق الانتخابي الأهم، ممثلا في الانتخابات التشريعية لستة أشهر، وفرض الأحكام العرفية، واعتقال بلحاج ومدني، فقد أجريت أخيرا الجولة الأولى في 26 دجنبر 1991، وكانت تلك الانتخابات بشهادة المعاصرين أول انتخابات حرة نزيهة في تاريخ الجزائر، والتي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية ب 188 مقعدا في المجلس التشريعي، فيما لم تفز جبهة التحرير سوى ب 16 مقعدا، لتُشكِّل هذه النتيجة ضربة صاعقة ضد الرئيس بنجديد، وحزب الجبهة، فضلا عن الجيش والمؤسسات الأمنية؛ التي كانت على رأس الرافضين لهذا التيار منذ بدايات صعوده، فيما عُرف حينها بزمن “الصحوة” منذ أوائل الثمانينيات. لكن اختلاف رجالات السلطة وانقساماتهم الداخلية، والأزمات الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد، أعادت ترتيب أولوياتهم بالتزامن مع صعود الإسلاميين، الذين كانوا يتوغلون في بنى المجتمع المدني في جامعاته وجمعياته ومدارسه… شهدت الجزائر في يونيو من سنة 1990، أول انتخابات شارك فيها أكثر من حزب لأول مرة منذ إنهاء حكم الحزب الواحد، لكن تم إلغاء نتائج الانتخابات التي جرت يوم 26 دجنبر 1991، بعدما فازت فيهاالجبهة الإسلامية للإنقاذ ب 188 مقعدا، من أصل 228 في المرحلة الأولى. لكن البلاد دخلت نفقا غامضا إثر إيقاف الجيش للعملية الديمقراطية، حيث اندلعت أعمال عنف دموية خلفت مئات الآلاف من القتلى والمصابين والمفقودين، ودمارا هائلا في الاقتصاد، وعرفت هذه الحقبة بالعُشرية السوداء. وقد ارتبطت في أذهان الجزائريين “بالنزاع المسلح بين الجماعات الإسلامية وقوات الأمن من شرطة ومخابرات وجيش. وبدأ الأمن يستتب تدريجيا منذ مجيء الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم عام 1999، وإصداره قانون “الوئام المدني”، ثم ميثاق السلم والمصالحة الوطنية.