(1) منذ بداية سنوات التسعينات من القرن الماضي وأنا أسمع باسمه يتردد بين الفينة والأخرى باعتباره أحد المهتمين بالفن، و"الفن الملتزم" على وجه الخصوص، ولكنه ظل مغمورا، لأنه بكل بساطة لم يُنتج، لا كتابا ولا مقطوعة، إلا مِن ما يمكن اعتباره "مشاركات" محتشمة. وحتى وإن فعل، فأين هي وسيلة الإعلام التي ستعمل - يومها - على التعريف به وتقديمه إلى الجمهور؟ أضف إلى ذلك ما اكتشفته لاحقا في شخصيته التي يغلب عليها التواضع والحياء "الزائدين"، واللذان يصعب على من يتصف بهما أن يجد له مكانا في عالم الأضواء والمظاهر والزَّوَاق. ولكن حياتي القصيرة علمتني أن الإنسان إذا ما تعلق قلبه بأمر، وسعى نحوه، فلا شك سيناله طال الزمن أو قصر. هل هذا ما يعرف ب"قانون الجذب" ؟ ربما، من يدري! ذلك أنني كنت حقيقة أتشوف للقائه، فقد أحببتُ وأنا ما زلتُ تلميذا بعدُ تلك القِلة من ألحانه، هكذا قيل لي. ذات ليلة من سنة 2017، وأظنها كانت تسع خلون من يوليو، سيتكرم عليَّ القدر بجلسة باذخة معه وكانت الأولى والأخيرة لحد الآن وكان حينها ملء سمع أبناء جماعة العدل والإحسان وبصرهم، أليس هو من نشر تَوّا الجزء الأول من كتاب حول سيرة مرشدهم عبد السلام ياسين باعتباره إماما ومجددا! لقد تقدّم بشجاعة إلى تدشين مشروع طالما فكر فيه الكثير من تلامذة المرشد ومحبيه فنال بذلك شرف الريادة والسبق، فاستحق منهم التكريم والاحتفاء... والمحبة والدعاء أيضا. طال المجلس بيننا لساعات، ابتدأ قبيل المغرب وكنا في أجواء رمضانية رقيقة ولم نفترق إلا حين اقترب الفجر. وقد فهمت حينها كما سبق الذكر لِم لا يُسمع له حسّا ولا ركزا، إنه الخجل والتواضع، وإنَّ حُمرة حيائه لتظهر على وجهه رغم سمرة بشرته! فتيقنت تماما أنه مادام بهذه الصفات، التي بدأ يُنظر إليها للأسف بشكل سلبي، فلن يجد له موقع قدم في عالم تخصصه. كثيرة هي القضايا التي تجاذَبنا فيها أطراف الحديث، إلى حد الجدل أحيانا، تذاكرنا خاصة فيما يعرف عند أبناء الحركة الإسلامية ب"الأنشودة" وكذا السماع الصوفي. فمن أبي دجانة وأبي راتب والترميذي إلى مجموعة "الإحسان" ومجموعة "ابن عربي" مرورا بمجموعة "المشاريع الخيرية" وما لست متذكره الآن من أسماء الرواد. ولكن الذي استأثر بجل الوقت طبعا هو كتابه السابق الذكر، ومن أجل ذلك جاء. (2) كنا في تلك الليلة نحتفي - في الحقيقة - برجلين، الأول، هو إمام وعالم ومرب ومفكر وفيلسوف كان هدفه الكبير تجديد الدين والإيمان في قلوب الناس وحياتهم، إنه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله. أما الثاني فأحد التلامذة الذين تعرّفوا مبكرين على الجماعة، وانشغلوا بعد ذلك بالتأسيس لرسالة الفن ومعناه في عالم يكاد تغيب فيه الرسالة والمعنى. ونقصد الأستاذ محمد العربي أبا الحزم الذي أخذ على عاتقه إصدار سيرة مرشده في جزأين أو أكثر ،كما وعد. أما الجزء الأول، فيتكون من 500 صفحة، ويغطي حياة الأستاذ من سنة 1928، وهي سنة ميلاده، إلى سنة 1978.وهي سنة خروجه من محنة "رسالة الإسلام أو الطوفان" سالما معافا. الكتاب مقسم إلى أربعة أبواب: الأول وسمه ب"النشأة والمسار الدراسي (1928 1948)، والثاني عنونه ب "بناء الشخصية المتكاملة (1948 1964)، أما الثالث فسماه " الميلاد الجديد (1964 1972)، في حين جاء الرابع تحت شعار "التوجه الفكري الجديد ( 1972 1974). وكما هو واضح من هذا التقسيم فإن الباحث اعتمد المنهج التاريخي الاستقصائي في أبسط بنياته، واحترم النسق الكرونولوجي الطبيعي. والذي قرأ الكتاب سيكتشف أن قضاياه كثيرة جدا ومركبة، ومن ثم صعب علينا ليلتها أن نحيطها بالمناقشة والدرس والتحليل والنقد، ولكني عملت معه على مناوشة الكتاب والاشتباك معه في بعض خطوطه، وخاصة ما ارتبط بمصادره، وكان الهدف الكبير هو التعريف بالكتاب أولا، ثم تشجيع من حضر جلستنا وكانوا كثرا على قراءة الكتاب جملة وتفصيلا. (3) في البداية حدثَنا عن شعوره وهو يرى اسمه يقترن بسيرة رجل من طينة الأستاذ ياسين، واعتبر ذلك شرفا ما بعد شرف، ثم توقف عند اللحظة التي واتته فيها فكرة كتابة هذه السيرة، وكيف سبق إليها، لأن الكثير من تلامذة الإمام كانوا يفكرون فيها بجد. بعدها سألته عن الإضافة النوعية التي منحها له هذا البحث فيما يخص شخصية الرجل، خاصة وأنه التحق بجماعته قديما، أي سنة 1981، ثم قيّم حكمي الذي واجهته به، من كون هذا الكتاب هو بمثابة "وثيقة رسمية" للجماعة، لأني متأكد تماما بأنه لو كتبه بعيدا عن مؤسسات الجماعة ومسؤوليها لقال أمورا كثيرة أخرى، وبطريقة مختلفة، ولَشابَه كتب التراجم والمناقب، لأن هذا ما يحصل عادة عندما يكتب "مريد" سيرة "شيخه". ثم توقفتُ معه مطولا عند مصادره، لأن الكتاب يتميز باعتماده على مصادر كثيرة جدا ومتنوعة، فنجد انسجاما تاما بين الوثيقة المكتوبة والشهادة الشفهية، وقد كان موفقا إلى حد بعيد في تلك الحوارات واللقاءات المباشرة مع أصدقاء الإمام وتلامذته الذين ملأوا فراغات كثيرة كانت لدى المتابعين والمهتمين، وكذا لدى الجيل الجديد من أبناء الجماعة. لقد وصف لنا باستفاضة مخطوطين اتكآ عليهما في بحثه، الأول للأستاذ علي سقراط رحمه الله والموسوم ب"مذكرات"، والثاني للأستاذ محمد السعيدي الرجراجي والمعنون ب"هداة أناروا طريقي"، وقد وقف بشكل أطول مع الشخصية الثانية لأن الحضور بما فيهم أنا لا يعرفون عنه شيئا. ثم عطف على التعريف بشخصيتين اعتمد على شهادتهما الشفوية بشكل كبير، وهما السيدان محمد مومن وعبد العزيز توفيق. ومن مصادره التي فككناها كتابين اثنين: الأول عبارة عن سيرة ذاتية للكاتب المغربي عبد الغني أبي العزم، وعنوانها "الضريح الآخر"، ورواية "الطيبون" للأديب المغربي مبارك ربيع، وكلا العملين فاز بجوائز أدبية. وقد عمل جهده على حل عويصة في كتابه: كيف استطاع أن يميز في العمل الأدبي الأخير بين ما هو تاريخي واقعي حقيق وبين ما هو روائي؟ ثم سألته قائلا: عندما قرأتُ رواية "الطيبون" لأول مرة أثارني كثيرا ذلك السؤال الذي طرحه أحد شخوص الرواية (مبارك ربيع نفسه) على الشيخ النوري، وهو هنا يمثل الأستاذ ياسين، قال له فيما معناه: "هل تختار هذه الطريق لأبنائك؟"، إلا أن الشيخ النوري ترك السؤال معلقا دون جواب. حدث ذلك في الوقت الذي كان الشيخ النوري يحاول استقطاب تلك الشخصية للدخول في حضرة الزاوية البوتشيشية. تهرُّبُ الشيخ شجع المدعوَ على إعادة التفكير في علاقته بالنوري، فأرجع له ما أعاره من كتب التصوف، وخاصة كتاب "الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز"، ومن ثم الابتعاد عن الزاوية واختياراتها التربوية والفكرية، ولكنني عندما قرأت كتابك وجدت فيه تخريجة جيدة لهذا الموقف الذي عُدّ في حينها إحراج كبير للشيخ النوري. لقد كانت توضيحات الأستاذ "أبو حزم" في هذا الشأن كافية ومقنعة. الغائب الأكبر في الكتاب هو شهادة زوجة الإمام السيدة خديجة، فحضورها في الحقيقة كان ينبغي أن يكون مركزيا، خاصة فيما تعلق بما هو شخصي في حياته. وسؤالي كان حول هذا الشح المزدوج: حضور السيدة خديجة وحضور ما هو شخصي. ترى هل ضاعت شهادتها، أم مازلت مؤسسات الجماعة تحتفظ بها لوقت لاحق؟ الجواب كان بإحالة السؤال لمن يهمهم الأمر! وتحدثنا مطولا عن ذلك الغياب المبرر هذه المرة لشهادة أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي صاحب الإمام لأكثر من ثلاثين سنة باعترافه في البرلمان في معرض إجابته الشفوية على سؤال ماكر حول تقديمه العزاء في رجل ميت كان دائما ضد الثوابت الوطنية ! وقد واتته فرص كثيرة ليفعل ذلك. وكذا شهادة صديقه الأستاذ محمد شفيق بسبب تلك الخصومة التي ترتبت كما يبدو بعد صدور كتاب "حوار مع صديق أمازيغي". وسألته: كنت أنتظر بصبر شهادة المفكر والفيلسوف طه عبد الرحمن، ولكن الظن خاب، خاصة وأنا أعلم أنه هو ووالده كانت تربطهما علاقة وطيدة بالإمام، فلم هذا الغياب؟ وهناك أيضا ما تعلق بشهادة الأديب واللغوي والناقد المغربي أحمد إقبال الشرقاوي، صاحب الكتب المفيدة والتحقيقات العميقة، مثل: "شاعر الحمراء في الغربال" و" معجم المعاجم" و"محاضرات" اليوسي. فلم يصدر عنه أي تصريح، وإن كان بسيطا، يدافع فيه عن صديقه القديم، أو يتعاطف معه أيام المحن الكثيرة التي ألمّت به. فكيف تفسر ذلك؟ (4) انتقلنا بعدها سريعا إلى الحديث حول ما سجله في بداية كتابه من كون الأستاذ ياسين كان يحمل "ميراثا من الظلم"، حيث كانت أسرته الإدريسية في خصام وعداوة مع الأسرة العلوية الحاكمة بسبب قتلهم لأحد أجداده بتهمة "محاولة تأسيس دويلة إدريسية في جنوب المغرب". وهذا ما يعطي الانطباع بأن الأستاذ كان يحمل في نفسه حقدا دفينا وإرادة دائمة للثأر من العلويين، وجعله يؤسس جماعة العدل والإحسان، ويعمل جاهدا على نقض وتقويض أسس الشرعية لديهم. سرعتنا ستبطئ إلى حدودها الدنيا عندما ذُكر العالم محمد المختار السوسي، لمعرفتنا بتلك المحبة العميقة التي كان يكنها الأستاذ ياسين للأديب الأمازيغي، فقد ألح في العديد من كتاباته وتصريحاته على الانتساب لمدرسته التربوية والعلمية، وكثيرا ما نحس به من طرف خفي يتأسف على كونه لم تتح له الفرصة ليتتلمذ على يديه بشكل مباشر. لقد كان متعلقا به ويكن له حبا كبيرا، إلى درجة أن المطلع على أسلوب الأستاذ في الكتابة لا تخطئ عينه ذلك التأثر الشديد به. وهنا تدخل الأستاذ إبراهيم أكورار ليحكي لنا عن واقعة حدثت له شخصيا مع الإمام في بداية الثمانينات، وذلك عندما أعطاه كتابين كي يقرأهما، الأول هو "إذا هبت ريح الإيمان" للسيد أبي الحسن الندوي، وفيه يؤرخ لسيرة السيد المجاهد أحمد ابن عرفان، وكتاب "الترياق المداوي في أخبار الشيخ سيدي علي السوسي" الذي أرخ فيه لوالده باعتباره شيخا لطريقة صوفية درقاوية. وبعد ذلك نبهه بشكل تعليمي تربوي للفرق الدقيق بين المُؤرَّخ لهما. (5) وتحت عنوان "الغائب" أشار الأستاذ أبو حزم إلى كون الإمام كان في شبابه "مستقيلا" بشكل تام من الشأن العام السياسي، ولم يُعرف عنه انخراطا في حزب أو ما شابه، ولم ينتم لتيار من تيارات الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار. كان يقرأ القرآن، ولكنه بعيد كل البعد عن السياسة. كان كل اهتمامه وهمه منصبا فقط على تعلم اللغات، والتعمق في اللغة العربية، أما الوعي فإنه - وكما صرح بنفسه - فقد أتى لاحقا. فسألته عن السبب الذي جعل الأستاذ يغيب بشكل كلي عن السياسة إلى درجة أنه وصف نفسه في إحدى حواراته مع قناة الحوار بأنه كان حينها "خبزيا". وعندما انتقلنا للحديث عن الحياة المهنية للأستاذ في وزارة التربية والتعليم، توقفنا عند سردية طويلة جدا، حيث سيجد المُطّلِع نفسه أمام رجل صاحب تجربة ورؤية وطموح وإرادة للتغيير، وكان الهدف - حينها - إمدادنا بخلاصة مُعتّقة حول هذه التجربة التي كثيرا ما تحدث عنها مَن شاركه إياها: إداريا كان أو أستاذ أو تلميذا باعتزاز وافتخار. في هذه الأثناء كان زملاؤه يصفونه ب"الجلتلمان"، لأن ذوقه كان راقيا في الملبس والمأكل والمسكن والمطالعة والموسيقى، بل وحتى في اختياره لأصدقائه. هذا الجلتلمان ستأتي عليه لحظة يحس فيها بلا جدوى الحياة التي يعيشها، حيث نبتت في قلبه وروحه - شيئا فشيئا - تلك الأسئلة الوجودية الحارقة، وسيلتجئ - حينها - إلى التجربة طلبا للشفاء من أزمته الروحية، وسيَمتحن - تقريبا - كل الأجوبة التي كانت متاحة أمامه، وفي نفس الوقت كانت عينه على "الإشارات"، إلى أن أشّرَت ذات يوم في مسجد، وكانت عبارة عن داع ينادي "أن شيخ التربية موجود هنا والآن"، في نفس الوقت الذي كان يستعد فيه للسفر إلى الشرق بحثا عن "ولي لله" يدله على الطريق. وكان سؤالي مركزا حول اللحظة التي التقى فيها "الجلتلمان" ب"العارف"..! بعدها توقفت معه عند تلك الشواهد والقرائن التي ساقها لإثبات أن النشاط والتوسع والحركة التي عرفتها الزاوية البوتشيشية في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته تعود أساسا - بعد فضل الله تعالى - لهذا "المريد" الجديد، الذي أحيى معالم "الطريقة"، بعد أن كانت منكفئة على نفسها وخاملة، أو كالخاملة. وقد دقّقتُ معه في هذه الأطروحة، لأن غيره، وخاصة الأستاذ عكاشة برحاب في كتابه "الزاوية البوتشيشية" حار في إيجاد جواب مقنع لهذا السؤال. وفي الختام تقريبا ناقشنا تلك الفكرة المتداولة والتي تشير إلى أن الزاوية بعد وفاة الشيخ العباس رحمه الله عرفت مجموعة من الظواهر السلبية التي جعلت الأستاذ ياسين لا يرضى عنها، ويرفع صوته عاليا: ناقدا وناصحا وموجها، وعندما فشل في مسعاه قرر الخروج منها. وكان المطلوب من الأستاذ أبي حزم أن يصف لنا إحساس وشعور الأستاذ وهو يتخذ قرار مغادر مدرسة وُلد في أحضانها "الولادة الثانية". ثم طلبتُ منه أن يزيدنا شرحا حول فكرة تحتاج إلى مزيد دراسة وتحقيق والتي تؤكد أن الأستاذ كان ينوي أن يتخذ من بنية الزاوية مدخلا لتأسيس مشروع تنظيمي لحمل أفكاره الجديدة، والتي بثها في كتابيه"الإسلام بين الدعوة والدولة" و"الإسلام غدا"، وعندما لم يجد القَبول غادر. (6) افترقنا على أمل أن نلتقي في السنة المقبلة عندما يصدر الجزء الثاني من كتابه، وقد صدر، ولكن القدر لم يأذن بعد لحد الآن بجلسة ثانية قد تكون أكثر بذخا من سابقتها، خاصة وأن أمورا كثيرة استجدت وظهرت تتعلق بسيرة الإمام. سؤال واحد لم يتسع الوقت لطرحه، يتعلق برسائل الأستاذ الكثيرة التي كان يبعث بها إلى تلامذته ومحبيه في شخصهم، أو باعتبار مسؤولياتهم داخل الجماعة، هذه الرسائل لم نجد لها أي صدا في الكتاب. رغم قيمتها التربوية والتعليمية الكبيرة التي نعلمها. ربما لم يأت الوقت بعد للكشف عنه، وأنا والله في شوق كبير لها. ما إن وصلتُ إلى البيت، والفجر على الأبواب، حتى رن هاتفي تباعا يهنئني بحرارة المحب على النجاح الفائق الذي عرفته تلك الجلسة الحميمية اللطيفة... فهنيئا لك أخي محمد العربي على هذا القَبول.