لطالما شكل البحر منبعا لكل المخاطر والتهديدات للدول، وهو كذلك سر نجاحها وقوتها، فالإمبراطورية البريطانية ما كانت لتحكم العالم لقرون وتحافظ على نظامها والأنظمة الملكية تتهاوى في أوروبا والعالم إلا بفضل سيطرتها على البحر عسكريا وتجاريا طيلة تلك الفترة. واليوم، تحاول الدول إثبات قوتها ببسط أساطيلها عبر البحار من أجل إظهار قوتها على التدخل عسكريا في أماكن تتجاوز حدودها ومجالها الحيوي الإقليمي بل والقاري، لحماية مصالحها الحيوية والاستراتيجية وكذا الحفاظ على السلم والأمن العالميين. الدكتور جمال الدين البورقي، حاصل على دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانية أستاذ محاضر سابقا بالمدرسة الملكية البحرية المغربية باحث في التاريخ البحري المغربي، كان قد أكد في إحدى مقالاته بمجلة القوات المسلحة الملكية أن المغرب ما كان ليسقط تحت الاستعمار الأجنبي لولا إدارة الدولة وجهها للبحر. ففي عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، عرف المغرب أوج قوته الاقتصادية والسياسية بفضل الاستغلال الذكي للقدرات البحرية المغربية. فهذا السلطان الذي عرف عهده استقرارا كبيرا للسلطة بعد فترة من الاضطراب خلفها الجيش بعد موت السلطان المولى اسماعيل، استغل أساطيل القراصنة المغاربة لتنمية الموارد المالية للدولة. فهؤلاء الذين أصبحوا يعملون لصالح السلطان، كانوا يشكلون تهديدا حقيقيا للأساطيل التجارية الأوروبية المتجهة نحو أفريقيا والهند، وكانوا يضطرون لدفع نوع من الجزية للدولة المغربية من أجل سلامة أساطيلهم المارة بالمياه المغربية. لكن مجيء السلطان المولى سليمان، المتشبع بالفكر الإسلامي الشرقي، كان بداية مصائب المغرب لاحقا؛ فقد ألغى التعاملات التجارية والدبلوماسية مع الدول الأوروبية باعتبارها دولا غير إسلامية. وبذلك تم تدمير أساطيل المغرب التجارية والعسكرية، وما تبقى منها وهبه السلطان لولاة الجزائر وتونس كعربون محبة للخليفة بإسطنبول، وهو ما أدى لاحقا إلى تقهقر المغرب على مستويات عدة، وجعل من الدولة التي اخترعت السفينة الشيبيك (وهي سفينة شكلت ثورة كبيرة في صناعة السفن بالمتوسط وأوروبا، وكانت أسرع السفن آنذاك، استعملها القراصنة المغاربة في تهديد الملاحة البحرية في أوروبا والبحر المتوسط)، والتي كانت أول دولة في العالم تعترف بالولايات المتحدةالأمريكية بلدا مستقلا، تتهاوى لاحقا لتقع بيد الاستعمار. فبفضل التعاملات البحرية، كان المغاربة على اطلاع على التطورات التي تقع خارج بلادهم بفضل احتكاك التجار مع الساكنة. وبفضل السيطرة العسكرية على البحر، كان المغرب يفرض احترامه أمام الدول وكان له مقعد بين الدول العظمى في العالم آنذاك. ذهاب القدرات البحرية للمملكة الشريفة واهتمامها بالبحر، جعل المغرب يتخلف عما يقع في العالم من تطورات ويصبح رويدا رويدا مطمعا أوروبيا ثمينا، وما استعمار الجزائر في 1830 إلا خطوة أولية كان هدفها التحضير لاستعمار المغرب لاحقا. اليوم ونحن في متم العقد الثاني من هذا القرن، يحز في النفس رؤية غياب رؤية استراتيجية لتنمية القدرات البحرية المغربية في بلد تتجاوز حدوده البحرية 3500 كلم ويملك مجالا بحريا اقتصاديا خالصا يريد توسيعه داخل ردهات الأممالمتحدة ليصبح معادلا لمساحة مليون كيلومتر مربع، وهو مجال كبير يتجاوز مساحة المجالات البحرية الخالصة لدول عظمى في العالم. وضعية اللواء المغربي اليوم بعد تفعيل سياسة البحر المفتوح سنة 2007، تلقت شركات النقل البحري المغربية ضربة قوية أدت إلى انهيار اللواء المغربي وإفلاس مجمل الشركات المغربية العاملة في النقل البحري، مخلفة مأساة لم تهتم بها الدولة ولا بخطورتها، حتى أصبح نقل البضائع والسلع والأشخاص حكرا على الشركات الأجنبية بنسبة فاقت 85 بالمئة، وتراجع عدد السفن الحاملة للواء المغربي من 70 سفينة في بداية الثمانينات إلى أقل من 10 سفن اليوم؛ حتى إذا ما تعرض المغرب إلى أزمة حصار دولي، فهو لا يملك سفنا لتصريف سلعه أو جلب سلع أساسية لسوقه المحلي. ويعد اللواء المغربي أحد أكبر الألوية البحرية كلفة لأسباب عدة؛ منها غلاء اليد العاملة المغربية (يضاعف أدناها المتوسط العالمي)، وكلفة التأمين والصيانة التي تتضاعف سنويا بتراجع السفن الحاملة للواء المغربي، وغياب ورش للصيانة في المملكة، وغياب دعم حقيقي للدولة في هذا المجال، خاصة فيما يتعلق بالضريبة. الصناعة البحرية بالمغرب لم تهتم الحكومات المتعاقبة على المغرب بتأهيل النسيج الصناعي بالمغرب في كل سياساتها للإقلاع الاقتصادي بالمملكة؛ فحتى أوراش إصلاح وبناء سفن الصيد لا تتلقى دعما حقيقا من طرف الوزارة الوصية، وكل إنجازاتها هي نتاج مجهود خاص لبعض المستثمرين الغيورين على هذا القطاع، خاصة بمدينتي أكادير وطانطان. فالأوراش البحرية بأكادير فونتي استثمار خاص تمكن من بناء نواة صناعة بحرية تمكنت من تصدير منتجها إلى دول في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، بل إمضاء شراكات مع بعض الدول لمواكبة سياساتها في الصيد البحري، في غياب دعم أو تشجيع للدولة المغربية. أما بخصوص السفن التي تتجاوز ازاحتها 1000 طن، فباستثناء أوراش الدارالبيضاء (CAM)، لا يوجد أي ورش مغربي قادر على القيام بعمليات الصيانة والإصلاح لها. فهذه الأوراش هي الوحيدة التي تتوفر على حوض بناء وإصلاح جاف يمكنه استيعاب سفن توازي ازاحتها 10 آلاف طن. لكن إمكانياته لا تسمح بالتكفل بعدد مهم من السفن، ما يدفع الشركات المغربية أو الأجنبية العاملة بموانئ المغرب إلى التوجه إلى أوراش أخرى بالكناري أو إسبانيا أو البرتغال لكسب الوقت، ما يشكل عبئا أكبر من ناحية الكلفة. اليوم والمغرب بصدد الانتهاء من بناء الأوراش الجديدة لميناء الدارالبيضاء، وجب التفكير في منح تسييرها لتجمع شركات أجنبية ومغربية حتى يتسنى للنسيج الصناعي المغربي امتلاك خبرة أهم وأعلى في هذا الميدان تمكنه من استثمارها لتطوير الصناعات البحرية بباقي المناطق بالمملكة. كما أن الدولة المغربية يجب أن تواكب ذلك عبر تأسيس مراكز تكوين مهني في الميدان، إضافة إلى تحفيزات ضريبية وجبائية لتعزيز تنافسية المقاولات العاملة بالميدان أمام الأوراش البحرية الإقليمية. من جهة أخرى، يجب وضع استراتيجية واضحة المعالم تروم ليس فقط تطوير نسيج صناعي بحري يختص في إصلاح السفن، بل الانتقال إلى تصنيعها، سواء للحاجيات المحلية أو الإقليمية، مدنية كانت أو عسكرية، عبر خلق أقطاب لهذا الشأن في المدن الساحلية التي لم تستفد من برامج التأهيل الاقتصادي والتي يعيش سكانها على المهن البحرية، حتى تكون بداية لإقلاع اقتصادي في اتجاه تخصصات صناعية جهوية. البحرية الملكية تشكل البحرية الملكية الدرع الدفاعي الواقي للمياه الوطنية وإحدى آليات ممارسة الدولة لسيادتها على البحر. غير أنها تظل الفرع الأضعف في مكونات المنظومة الدفاعية المغربية، وهو اختلال لا يمكن تفهمه لبلد يمتلك مجالا بحريا غنيا ومهما مثل المغرب. وقد قامت القيادة العسكرية بإيلاء أهمية كبيرة لتطوير قدرات الأسطول العسكري المغربي، من عتاد وبنيات تحتية، لمواجهة التحديات التي يفرضها تطور الأخطار التي قد تهدد المغرب من البحر وكذا التحديات الأمنية لحماية الملاحة البحرية في السواحل المغربية ومضيق جبل طارق، أحد أهم المضائق في العالم. لكن ذلك يبقى أقل بكثير مما يجب أن تكون عليه القدرات البحرية لبلد مثل المغرب، فالجارة الشرقية مثلا، وبمجال بحري لا يتعدى ثلث المجال البحري المغربي، تمتلك أسطولا عسكريا يناهز ضعف الأسطول المغربي من ناحية الازاحة الاجمالية وعدد الوحدات. وترجع هذه الوضعية إلى غياب إرادة حقيقية لدى القيادة في فرض المغرب لوجوده بالمنطقة بحريا كفاعل أساسي وكقوة ثالثة في المضيق بجانب إسبانيا والمملكة المتحدة، حتى إنه عندما تكون هناك رغبة في تحكيم النفقات العسكرية، فإن أو المتضرر الأول هي البحرية الملكية التي ينظر إليها كقوة لحراسة السواحل وليس قوة للدفاع عن المجال البحري الخالص لبلادنا ولما قد يختزنه من ثروات باطنية. اليوم، وجب إيلاء القوة العسكرية البحرية المغربية المكانة التي تستحق لتكون قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية التي ستواجهها بعد توسيع المجال الاقتصادي البحري الخالص لبلادنا وما يستلزمه ذلك من ضرورة التوفر على أسطول للخفر في أعالي البحار، أو ما يسمى ب"البحار الزرقاء"، وكذلك حماية المنشئات البحرية المستقبلية إذا ما تأكد وجود ثروات بترولية هناك. وهنا يجب مواكبة ذلك بإجراءات موازية على مستويات عدة؛ منها التكوين. فالمعاهد البحرية المغربية ذات إمكانات محدودة لتكوين ما يلزم من الضباط وضباط الصف والبحارة الذين سيستلزمهم مثل هذا التطور، لذلك فتأسيس أكاديمية ملكية بحرية بإمكانات عددية تضاعف تلك التي لدى المدرسة البحرية سيكون أمرا ضروريا، وكذا تأسيس مدارس جهوية أخرى لتكوين ضباط الصف والبحارة. من جهة أخرى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يجب تطوير برامج التصنيع البحري، خاصة وأن البحرية الملكية هي صاحبة أكبر أسطول بحري حامل للعلم الشريف وتشكل كلفة الصيانة بالأوراش الأوروبية عبئا كبيرا على ميزانيتها. وهنا تجب الإشارة إلى أن مفتشية البحرية الملكية تواكب بشكل مستمر تطور أشغال بناء الأوراش البحرية للدار البيضاء التي يعول عليها لتحتضن مجمل أعمال الإصلاح والصيانة للأسطول الشريف مستقبلا. لكن يجب أن تحتضن هذه الأوراش نواة مشروع بناء سفن للخفر لصالح البحرية الملكية بالنظر إلى الخصاص الذي تعرفه في هذا المجال، وارتفاع أثمنة هذا النوع من السفن عند الموردين الأجانب. التاريخ مليء بالعبر بالنسبة للمملكة، فازدهارها وقوتها كانا فقط عندما تهتم بالبحر والغرب عموما لبناء قوتها التجارية والعسكرية، وانحطاطها يأتي عندما تصبح سياستها تابعة ومرتبطة بالشرق. اليوم، وجب إيلاء أهمية أكبر للبحر كعامل لتحقيق قفزة اقتصادية مهمة وتقوية دور المغرب كفاعل إقليمي أساسي والانتهاء من تكريس النظرة الإعلامية لمشاكل البحر التي أصبحت تنحصر في مشاكل الصيد البحري والاتفاقيات الدولية في هذا الشأن. *باحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية