أزمات كثيرة أصبحت تؤرق ساكنة العاصمة الاقتصادية وتقض مضجع السلطات المحلية، على السواء، نتيجة تفاقم المشاكل التي تعتري المدينة في ظل غفلة المسؤولين في فترات سابقة، ما جعلها تتخبط في دوامة من الإشكالات المفتوحة. أزمات كبرى حولت حياة الساكنة إلى جحيم لا يطاق، تحاول الجهات المسؤولة حلّها عبر إطلاق العديد من المشاريع، غير أنه يبدو للعيان أنها أوراش لا تنتهي. في هذا المقال التحليلي، تحاول هسبريس كشف بعض جوانب الأزمة متعددة الجوانب، وإزاحة الستار عن الخروقات التي طبعت تسيير المدينة منذ بداية الاستقلال إلى حدود الساعة. أزمة النظافة بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، قال إن "النظافة إشكالية عويصة تعاني منها ساكنة الدارالبيضاء، ونحن نطالب المواطن بعدم تأدية ضريبة الأزبال لفائدة البلدية إلى حين التزامها بالعقد الثنائي، على اعتبار أن هناك عقدا مُبرما بشكل ضمني بين الجماعة والساكنة، لأن المواطنين يؤدون مبلغا ماليا يساوي شهرين من السومة الكرائية للبلدية كل سنة". وأضاف الخراطي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "الخدمة ليست مجانية، ومن ثمة يجب على المواطنين التطوع قصد مقاضاة مجلس المدينة، لكن للأسف لا نتوفر على هذا الحق كجمعيات المجتمع المدني، مما يدل على كون ثقافة التقاضي غير موجودة بالشكل المطلوب في المجتمع". وأوضح الفاعل المدني أن "المواطن ينبغي عليه أن يأتي بعون قضائي سوف يلاحظ تراكم الأزبال في الحي الذي يقطنه، إلى جانب تصوير وثيقة الضريبة التي يؤديها، ليرفق هذه الوثائق بالدعوى القضائية، بفعل الإخلال بالعقد"، مبرزا أن "الوجبات السريعة التي تنتشر في الأكشاك هي نتيجة دوافع سياسية على وجه الخصوص، لأن هذه الفئة تُستغل لربح الأصوات الانتخابية، على أساس أن أي كشك يستدعي الحصول على ترخيص إداري من طرف المجلس، ثم ترخيص ثانٍ من قبل مكتب السلامة الصحية للمنتجات الغذائية". وقال المهدي ليمينة، منسق الائتلاف الجمعوي من أجل البيئة، إن "استمرار أزمة النظافة هو بفعل غياب أجوبة حقيقية من طرف المجلس، لكن أدرجت اليوم هذه النقطة ضمن جدول الأعمال، حيث صوّت 83 عضوا لصالح الشركتين، بناء على تعاقدات كل عمالة، لأنها سوف تتوفر على دفتر تحملات خاص بها، حتى تكون قادرة على التجاوب مع حاجيات المدينة، دون إغفال غياب الوعي لدى المواطنين، وكذلك مسؤولية الشركات والمنتخبين، وذلك في إطار برنامج مندمج". غياب رؤية واضحة للنقل من جهته، قال مصطفى الكيحل، الكاتب العام الوطني للفدرالية الوطنية لمهنيي النقل، المنضوية تحت لواء الاتحاد الديمقراطي المغربي للشغل، إن "الطرامواي لا يمكن أن ينهي أزمة النقل بالدارالبيضاء، لأن المجلس الجماعي ينهج استراتيجية خاطئة لحل الأزمة، فمحاور النقل تستدعي دراسات معمقة من طرف كفاءات عالية، لكن المسؤولية بكاملها تقع على عاتق المجلس الحالي والمجالس السابقة". "إن من بين أبرز أسباب أزمة النقل بالعاصمة الاقتصادية، تركز جميع الإدارات في وسط المدينة، من قبيل المستشفيات ومصلحة الضرائب والولاية وغيرها، علما أن سكان المناطق النائية يستفيدون من هذه الإدارات أكثر، في الوقت الذي يوجد فيه وعاء عقاري كبير في مناطق زناتة والنواصر ومديونة، إلى جانب وجود شبكة طرقية موروثة من عهد الاستعمار، ثم المحطة الطرقية التي تعيش أزمة خانقة، والأمر نفسه ينطبق على مستشفى ابن رشد، ومرد ذلك إلى إسناد الاختصاصات لمجلس جماعي ليست لديه المعرفة اللازمة لتسيير شؤون المدينة، فضلا عن استمرار الأشغال العمومية في جميع الأمكنة"، يردف الكيحل. بدوره، تحدث المهدي ليمينة عن الموضوع قائلا: "يحتل النقل المرتبة الأولى في جملة الأزمات التي تتخبط فيها الدارالبيضاء، نتيجة توسع المدينة في السنوات الأخيرة، والحديث هنا عن الترحيل في إطار السكن اللائق، سواء نحو الأحياء الجانبية أو المدن الجديدة، من قبيل مديونة والرحمة والحي الحسني". وأكد ليمينة، في تصريح لهسبريس، أن "السكان يعانون بشكل يومي، ما يدفعهم إلى اللجوء إلى خدمات النقل العشوائي بمختلف أصنافه، إضافة إلى ارتفاع تكلفة التنقل، حيث خُصصت نسبة سبعين في المائة لقطاع النقل في إطار برنامج المدينة، لكن لا نلمس أي سياسة من قبل المجالس المنتخبة". وشدد المتحدث على "غياب رؤية واضحة للنقل، نتيجة غياب ممرات خاصة لسيارات الأجرة الصغيرة والحافلات، في آن واحد، وكذلك علامات التشوير، إلى جانب الاكتظاظ في السير في جميع الأوقات، ثم عدم كفاية الممرات تحت أرضية وعدم إطلاقها في أحياء أخرى". مأساة دور الصفيح والمباني المتهالكة مازالت المباني الآيلة للسقوط تؤرق ساكنة العاصمة الاقتصادية، مما يؤدي إلى إزهاق أرواح العشرات كل سنة، بفعل بطء الإجراءات الإدارية التي تتخذها الوزارة الوصية على القطاع، ومعها السلطات المحلية، بحيث ظهرت العديد من النزاعات التي عمرت طويلا بخصوص الاستفادة من الشقق السكنية، لا سيما ما يتعلق بالمبالغ المالية التي ينبغي تأديتها من قبل الأسر. لا شك أن ملف البنايات الآيلة للسقوط ليس وليد اليوم، وإنما توارثته مختلف الحكومات المتعاقبة، حيث لم تنجح مختلف التدابير الوزارية التي اعتمدت في حل المعضلة، بدءا من البرنامج الوطني الذي أقره إدريس جطو سنة 2004، ثم مخطط علال الفاسي سنة 2010، خاصة داخل أسوار الدارالبيضاء التي مازالت فيها آلاف الأسر تنام تحت سقف الموت إلى حدود اليوم. ولم تنجح السلطات المحلية في محاربة ظاهرة السكن العشوائي نتيجة "تفريخ" دور الصفيح بشكل مطرد، منذ زمن بعيد، في ظل غفلة المصالح الأمنية، لتقود حاليا مجموعة من الحملات الهادفة إلى هدم كل ما تم بناؤه بطريقة غير قانونية، لكنها تبقى غير كافية، إثر غياب حلول بديلة من شأنها القضاء على الظاهرة بطريقة نهائية. وتحول حلم جعل منطقة "الهراويين" مدينة نموذجية إلى كابوس يؤرق المواطنين، بعدما شهدت اكتظاظا سكنيا مهولا في السنوات الأخيرة، لتظهر بذلك بعض بؤر الجريمة الناجمة عن انتشار السكن العشوائي، مقابل غياب البنيات التحتية، من قبيل الحدائق والفضاءات العمومية. الدارالبيضاء بين الماضي والحاضر تحولات جذرية عرفتها العاصمة الاقتصادية منذ حصول المغرب على الاستقلال. فقد مثلت المدينة في خمسينات القرن الماضي عاصمة للمقاومة المسلحة، بعدما سجلت نسبة مهمة من نشاط المقاومة السرية. ويتحدث المؤرخ التونسي عميرة علية الصغير، في دراسة معنونة ب "المقاومة السرية في مدينتي تونسوالدارالبيضاء في الخمسينات-مقاربة قرانية"، نشرت ضمن كتاب "الدارالبيضاء في مائة سنة (1907-2007)"، عن احتضان البيضاء لأزيد من عشرين تنظيما مسلحا، من بينها: اليد السوداء، الهلال الأسود، سيف النجاة، شبان الفداء، وغيرها. وتؤكد الدراسة، ضمن الكتاب الذي نشرته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، أن "الدارالبيضاء عرفت ما قدره 2054 عملية، ما بين 1953 و1956، موزعة بين الاغتيالات والتفجيرات والحرائق وغيرها". ويشير الكتاب إلى كون النزوح بالعاصمة الاقتصادية جاء نتيجة الاستعمار الزراعي ونزع الأراضي والأزمات والمجاعات التي عرفتها منطقة الشاوية، لتنشأ بذلك أحياء قصديرية في الهوامش. لكن الفرق بين دور صفيح ما بعد الاستقلال وفترة الألفية الثالثة، يكمن في كون الأولى احتضنت المقاومة المسلحة، بينما تحولت الثانية إلى مرتع للجريمة، بالرغم من تلاقي الشروط الاجتماعية والاقتصادية نفسها. إن طرح مدينة الدارالبيضاء في سياقها التاريخي بإمكانه أن يساهم في فهم مجموعة من المسائل الاجتماعية الجديدة خلال الظرفية الحالية، وذلك بغرض فهم طبيعة الأزمات التي باتت تعانيها المدينة، من قبيل النقل والاكتظاظ السكني وغيرها. والأهم من ذلك، يتجلى في الطابع القروي الذي لبسه "الغول الاقتصادي"، بالرغم من كون أغلب سكانه فقراء. وسيتفاجأ الكثيرون بأن "بدْونة" البيضاء ليست وليدة اللحظة، بحيث يشير الباحث الجامعي عبد الحميد احساين، في دراسة عنونها ب "السلطة والتدبير الحضري بالدارالبيضاء بين سنتي 1856 و1914"، منشورة بالكتاب عينه، إلى أنه "كثيرا ما تردد في القرن التاسع عشر بأن الدارالبيضاء مدينة قروية، أو بدون حضريين، وأنها لم تكن تضاهي المدن الحضرية، مثل فاس والرباط، من حيث تطورها أو ارتقاؤها الحضري والحضاري". ويوضح الأستاذ الجامعي أن الدارالبيضاء احتلت المركز الأول بين الموانئ المغربية في مجال التجارة الخارجية، لكن الكتابات الأجنبية تحدثت عن "سوء التدبير والخلل في الضبط والتنظيم" الذي لازم المدينة في ظل السلطة المخزنية، لتعرف تحولات جديدة نتيجة تدخّل الجالية الأوروبية في تدبير شؤونها.