في ضوء اختناق مدننا وضيق ممراتها وأحيائها وازدحام شوارعها، أصبحت الحاجة ملحة أمام الساكنة إلى وجود متنفس إيكولوجي، كرئة طبيعية تهفو إلى الهواء النقي والماء العذب والمحيط الأخضر والهدوء البعيد عن الصخب وضجيج الحياة اليومية؛ إلا أن هذا المتنفس حاليا، وبفعل تداخل عوامل سوسيو اقتصادية وعمرانية عديدة، أصبح عزيز المنال أو بالأحرى مهددا بعناصر التلوث البشري والبيئي؛ إما بدواعي زحف العمران أو بصرف المياه العادمة، أو أحيانا كثيرة بنفايات المعامل والمصانع. وسنتناول في هذه الورقة "غابة عين الشقف" كمثال لتهديد السياحة الإيكولوجية في مدننا المغربية. غابة عين الشقف توجد على مساحة تقرب من 64 هكتارا، غرب مدينة فاس عند مدخل مقطع الطريق السيار المتوجه إلى تاوناتالحسيمة. وتضم هذه الغابة أشجار الكلبتوس والصنوبر.. يخترق حافتها الشرقية وادي عين الشقف، كما تتخللها ممرات ومسالك تعج بهوات رياضة المشي، لا سيما أيام العطل الأسبوعية، يقصدها للتنزه والترويح الزوار من داخل مدينة فاس والمناطق المجاورة. وتعتبر من المنظور الإيكولوجي الرئة الخضراء للمدينة أو خزانا من الأوكسجين.. وقد أعيدت في العشر سنوات الأخيرة أشغال صيانة مسالكها وتشجيرها وتأهيل فضائها، بعد أن ظلت لعقود خلت محل اللامبالاة ومرتعا لقطاع الطرق والعابثين. غابة الإسمنت أو التحدي الأكبر ! في الثلاث سنوات الأخيرة، لاحظت ساكنة فاس تعاظم الغطاء المعماري وتوغله إلى ضفاف الغابة وجنباتها والشروع في الترامي على بقع منها واتخاذها مرافق "سياحية" طمعا في الاستثمار العمراني السياحي، في غياب أية استشارة رسمية مع السلطات المحلية، كجماعة عين الشقف ومجلس الجهة، علما أن المندوبية السامية للمياه والغابات ومكافحة التصحر أخذت على عاتقها الحفاظ على هذا الفضاء الإيكولوجي وتدبيره بتخصيص ميزانية 500 ألف درهم، إلا أنه لوحظ شبه إهمال بدأ يطال هذا الموروث البيئي أولا من جانب الرقابة التشريعية وكذا من جانب السلوكيات العمومية المتهورة للزوار. ومن ثم، صرنا نعاين ونحن نذرع بعض طرقاتها وجود أياد خفية للتطاول على بعض جذوع أشجارها وأغصانها وتحويلها إلى حطب، فضلا عن وجود نفايات وفضلات لا يكاد يخلو منها أي جانب؛ بيد أن التحدي الأكبر الذي باتت تواجهه الغابة يتجسد في التوسع العمراني المجاور لها والذي أصبح يشكل خطرا محدقا بأمن وسلامة البيئة الطبيعية، ويتوقع في العشر سنوات المقبلة إذا استمر غض الطرف عن جشع وطمع المقاولات أو بالأحرى سرطانات العقار أن تمتد خراطيم هذه الأخيرة لتكتسح مزيدا من مناطقها الخضراء وتحولها إلى جدران إسمنتية ! منتزه اجْنان اسْبيل وغابة عين اشْقف يعتبر منتزه اجْنان اسْبيل معلمة من الذاكرة الإيكولوجية المغربية الفاسية؛ فما زال صداه يتردد في جملة من الأغاني والملحون المغربي، وقد طاله في فترة ما إهمال شديد؛ لكن بفضل مساع وعلى مستوى عال، أعيد إليه الاعتبار لموقعه في واجهة تراث معماري يعود إلى عهد السعديين، استعادت مدينة فاس توهجه كفضاء للتنزه... فلو أمكن لمجلس الجهة اتخاذ قرار جريء بتعهد عديد من الأطراف المعنية بما فيها جماعة عين الشقف وعضوية مديرية المياه والغابات.. للحفاظ وصيانة هذا الفضاء الغابوي وصد كل المحاولات لإعمار أو اختلاس أجزاء منها أو العبث بأغراسها ونباتها... لأمكن آنئذ استعادة بريقها وتنظيم ومراقبة فضائها مثلما هو عليه منتزه اجْنان اسْبيل. المساحات الخضراء وتراخيص التجزئات العمرانية لأهمية وحيوية المساحة الخضراء في وجود الإنسان القادم من حياة الألفية الثالثة؛ حياة الصخب والضوضاء والقلق... حرصت العديد من الدول على اشتراط وجود مساحة خضراء في كل تجزئة عمرانية كمتنفس إيكولوجي وترفيهي للساكنة، ولا يتم منح الترخيص بإحداث تجزئة عمرانية إلا إذا كانت تضم في مخططها مرفقا إيكولوجيا أخضر، بدلا من إغراق المدن بالإسمنت المسلح وخنق كل متنفس طبيعي، مثلما هو عليه الحال في جل المدن المغربية، وهذا ليس ببعيد المنال ما دام المشرع المغربي في قطاع العمران وحياة المدينة يستحضر أمن وسلامة الإنسان وبيئته.