نظّم جمهورٌ كثيرٌ من أفراد الشعب مسيرة احتجاجية بالرباط يوم 17 فبراير 2019، تستحق من كل المفكرين والكتّاب والباحثين والصحافة أن يركزوا عليها اهتمامهم، ويعطوها القيمة التي تستحقها، وعلى المشاركين والمنظمين لها من النساء والرجال أن يتكلموا مع الشعب، ويوضحوا كتابة وبالصوت والصورة مواقفهم لكي يطمئن الشعب على مصالحه ومستقبل أولاده وبناته مما سيحدث نتيجة هذه المسيرات. وتدخل هذه المقالة في هذا الإطار، ونبدأ باقتراح بعض خصائص وصفات هذه المسيرة وفوائدها كما يلي: أولا: هي مسيرة ثانية وليست الأولى، وأعني أنها تدخل ضمن مسلسل بدأ بمسيرة 25 نونبر 2018 التي وقعت بمدينة الدارالبيضاء، وسبق لي أن نشرت عنها مقالا خاصا بها، وأيضا تدخل ضمن مسلسل الاحتجاجات الأخرى مثل التي جرت تحت اسم حراك الريف سنة 2016، وحراك جرادة سنة 2018، وحراك إيميضر الذي استمر قبل ذلك لعدة سنوات.. ونقصد بهذه الخاصية الأولى أن نستخلص أنها مسيرة لها سوابق وجذور تاريخية، لا بد من أخذها بعين الاعتبار، وعلى كل من يدرك تاريخ هذا النوع من النضال أن يسهم في تدوينه. ثانيا: إنها مسيرة من نوع جديد لم يعرفه تاريخ الحكم المخزني خلال فترة 1956-2016، لأنها مسيرة تجري حول الأرض، وما فوقها من الأشجار والنبات والحيوان والإنسان، والبيئة، وما تحتها من الثروات المعدنية والمائية، وبذلك يمكن وصفها كنتيجة بأنها مسيرة واقعية، وليست إيديولوجية، ولا دينية، ولا شرقية، بل هي من صميم سكان البلد المنحدرين من البوادي والغابات والمدن والقبائل والطبقات الاجتماعية التي لا تمثلها مؤسسات الدولة المخزنية من الأحزاب، ولا الحكومة ولا البرلمان، ولا تعبر عنها الانتخابات الماضية التي جرت بالبلد وخرجت من تحت ضغوط التهميش والمنع من الحقوق السياسية والاقتصادية .... ثالثا: إنها مسيرة حرة لم تنظمها الأحزاب المخزنية، ولا النقابات العمالية أو المهنية، ولم تنظمها السلطات الحاكمة، بل هي من تنظيم نخبة من الشباب والشيوخ، والنساء والرجال الذين تربوا في صفوف النضال الأمازيغي، وفي صفوف بعض أجنحة اليسار في الجامعات والمعاهد، وفي صفوف فئات المعطلين عن العمل، ولذلك قاطعتها وسائل الإعلام الممولة من السلطة والتابعة للأحزاب، وعملت على طمسها وتشويهها وأخيرا هي نتاج الاستفادة من تقنيات التواصل عن طريق الأنترنيت ... رابعا: إنها مسيرة سلمية، تشرف المجتمع، وتسجل موقفا إيجابيا لسلطات الأمن والقضاء بالرباط التي لم تمنعها، ولم تمنح الفرصة للبلطجية لمضايقة صفوف المسيرة، والمعنى السلمي للمسيرة يعطي الدليل الملموس على عدم جدوى التنظيمات التي تسلك أساليب العنف والخوف والكذب، وأحيانا نشر الإرهاب والقلق في مجتمع يؤمن بالتغيير عن طريق السلم وحرية التعبير، ومن بداية المسيرة ونهايتها تحت قيادة المتطوعين الذين أشرفوا عليها بدون إنزال أمني يمكن تجاوز وعلاج أمراض الانعزال والحزن، واليأس من السياسة في مجتمع الحرمان من الحرية . خامسا: إنها مسيرة سياسية، تؤطرها شعارات سياسية مثل: أكالAkal، التي تعني الأرض، أو ال Awal التي تعني الكلام، أفكان Afgan التي تعني الإنسان. وتتطلب هذه الكلمات الثلاث من كل الشعب أن يفكر فيها كشعارات تعني أن يحب الإنسان أرضه ولغته، والإنسان الذي يسكن هذه الأرض، بدون ميز ولا عنصرية عرقية أو دينية أو طبقية.... وتقتضي المرحلة التي نعيش فيها أن يعرف الناس نوع سياسة الذين نظموا هذه المسيرة، ويعرفوا معنى اختلاف سياسة المسيرة عن سياسة الدولة المخزنية، كما يؤطرها شخصيات من النساء والرجال عانت من القمع السياسي، وتدربت على الشجاعة والصبر المرير على الاعتقالات والسجون والفقر، ولها سياسة لا بد من معرفة أسسها وبرامجها وتجاربها التنظيمية وزعمائها.... سادسا: هي مسيرة مندمجة مع حراك مستمر، وليس منقطعا كما يظن الذين يتمنون نهايته، واستمراره ثابت من تعميمه بوفود مختلف مناطق البلاد، ووقوعه في المناطق الهامشية منذ البداية، وتحوله إلى الدارالبيضاء، ثم الرباط، ومن كونه يستمد وجوده من التطوع النضالي، ليس مأجورا ولا ممولا من الخارج؛ فقد شارك في مسيرة الرباط يوم 17 فبراير مهاجرون من البلد إلى فرنسا وبلجيكا وهولاندا... وشاركت وفود القبائل الكبرى والصغرى، من كل مناطق البلاد، وحملت لأول مرة لافتات باسم القبائل وليس وفق التقسيم الإداري للسلطة المخزنية، وشارك المسنون إلى حد قرابة مائة عام، وشارك الأطفال الصغار، وامتلأت الأمكنة ببائعي الأعلام والشارات الأمازيغية والكتب بأثمان مناسبة (العلم الأمازيغي ب10 دراهم...). سابعا: أثبتت المسيرة وجود شباب وشابات اكتسبوا خبرة تنظيمية في تسيير الحراك بالشوارع، واستعمال تقنيات الخطابة السياسية، وقيادة الجمهور الكثير، وإقناعه بالاستماع والانضباط، واحترام المسؤولين والمنظمين، وتجهيز المسيرة باللافتات والأعلام، والرايات والمطالب الشعبية ووجود مشاعر الحماس والتعاطف بين المتظاهرين، وهي تجربة قل نظيرها في مسيرات أخرى للغير. ثامنا: أثبتت المسيرة فشل السياسة المخزنية في تدبير التفاوض مع مكونات الشعب حول الأرض والثروات المعدنية والغابوية والمائية، وإشراك ممثلي الجمهور في تدبير الحكم، وتوسيع التباعد بين الدولة والشعب، ولذلك يطرح كثير من المشاركين في المسيرة حاجتهم إلى تنظيمات سياسية جديدة تستطيع تمثيلهم في أجهزة الحكم، بعد فشل الأحزاب التي تدعي التمثيلية.