في كل مرة يتم نشر خبر حول شراء معدات عسكرية يستنكر مجموعة من القراء غياب صناعة عسكرية بالمغرب تغنيه عن الملايير التي تذهب إلى جيوب الموردين؛ ولذلك كان لزاما التطرق لهذا الموضوع لشرح بعض النقاط. لطالما اكتست الصناعة العسكرية طابعا إستراتيجيا لدى الدول العظمى وشريكا مهما في سياساتها الدفاعية والخارجية، بل دليلا على تقدم بعض الدول. لذلك تسعى جل الدول السائرة في طريق النمو إلى خلق نوع من الاكتفاء الذاتي عسكريا من خلال بناء نسيج صناعي عسكري لتزويد الجيش محليا بحاجياته من الأسلحة والذخائر والعتاد. هناك توجهات متعددة في هذا الشأن، بعضها أثبت فاعليته والآخر أدى إلى نتائج كارثية أمنيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ومن ذلك الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي سابقا، والتي اعتمدت على تطوير ترسانات صناعية عسكرية مهمة أدت إلى إفلاس عدد منها بسبب غياب دراسات جدوى لهذه المشاريع وغياب نجاعة تجارية لها. تطوير صناعة عسكرية يتطلب توفير ميزانيات ضخمة للبحث العلمي وبناء المنشئات والتكوين لكي يصبح الأمر ناجحا اقتصاديا؛ فتطوير عربة مدرعة مثلا محليا فقط لاحتياجات الجيش المحلي أمر مكلف للغاية على مستوى البحث العلمي وتوفير التكنولوجيات، مقارنة بالاحتياجات البسيطة لجيش مثل الجيش المغربي، وإذا لم نفكر في المردودية التي يمكن أن تكون لمثل هذه المشاريع فإنها ستصبح عبئا كبيرا على ميزانية الدولة، وستؤثر على المشاريع التنموية الاجتماعية والأوراش الكبرى التي تقوم بها الدولة. ولكي تكون هناك نجاعة ومردودية لمثل هذه المشاريع يجب أن تكون هناك إمكانية لتصدير هذا المنتوج، وأن يتمتع بمواصفات تختلف عن ذلك المستعمل لدى الجيش المحلي. لكن بيع مثل هذا المنتوج يقوم على أبعاد تختلف عما يطبع العلاقات التجارية العادية..ماذا يمكن أن أوفر للزبون من دعم سياسي ودبلوماسي، بل وعسكري إذا اقتضى الأمر؟ دون أن ننسى القيمة العينية لذلك المنتوج العسكري.. هناك عدة أمثلة ناجحة لدول في طريقها نحو الاكتفاء الذاتي عسكريا، لعل أبرزها تركيا، وجميعها لديها سر نجاح موحد. قبل التفكير في بناء صناعة عسكرية محلية عملت هذه الدول على بناء نسيج اقتصادي وصناعي قوي، أصبح مشتلا مكن من توفير أرضية صناعية مشتركة بين العسكري والمدني؛ بعد ذلك سعت هذه الدول إلى عقد شراكات مع دول متقدمة في الميدان للقيام بعمليات تطوير للعتاد محليا ونقل تكنولوجيا لتصنيع الأسلحة المقتناة من الخارج، قبل أن تنضج الخبرات المحلية وتتمكن من تطوير أسلحة محلية وإن كانت مكوناتها تأتي من الخارج في بعض الأحيان. لذلك لا توجد اليوم دولة واحدة على الكرة الأرضية لديها أسلحة مصنوعة محليا بشكل تام، وذلك من أجل تقليص تكاليف التصنيع، باستثناء الأسلحة ذات الطابع الإستراتيجي. الصناعة العسكرية بالمغرب سعى المغرب منذ عقود إلى سياسة تصنيعية مهمة لم يتسن لها النجاح لأسباب متعددة، منها المخطط الهيكلي والحرب بالصحراء المغربية التي أفقدت المغرب سنوات من التنمية. وكان هناك اهتمام بالصناعة العسكرية سرعان مع خفت بسبب الإجراءات الأمنية التي تلت انقلابي 71 و72. ومع ذلك، كان الجيش الملكي يقوم بأعمال تطوير لقدرات دفاعية محلية، خاصة في ميدان الطيران الحربي. فبعد شراء القذافي صواريخ السام 6 وإهدائها للبوليساريو لمواجهة قواتنا الجوية، عانى المغرب من خسائر كبيرة لم يجد لها حلا حتى لدى الدول العظمى؛ فقام مهندسون وتقنيون وطيارون مغاربة بالعمل على ابتداع وسائل محلية لمواجهة هذا الخطر. من ذلك نذكر تحويل طائرات هيركول سي 130 لطائرات للرصد والاستطلاع، وكذلك وضع مضادات الدفاع الجوي على الميراج وتطوير جهاز بود للتصوير على نفس هذه الطائرات لالتقاط صور للعدو خلف خطوط الدفاع. المنجزات مع وصول جلالة الملك محمد السادس إلى العرش، أولى أهمية كبيرة لتطوير نسيج صناعي عسكري يوفر للمغرب مصاريف صيانة وتطوير العتاد. وبذلك تم تأسيس مؤسسات دعم العتاد (ESMAT) بكل من مكناس والنواصر؛ الأولى مختصة في العتاد الفرنسي والثانية في العتاد الأمريكي. وقد أنجزت هذه المنشآت أعمالا مهمة، نذكر منها تطوير دبابات M60 محليا عبر إعادة بنائها وتزويدها بأذرع تفاعلية مضادة للقاذفات من نوع RPG، وإعادة بناء وتطوير عربات نقل وقتال المشاة الفرنسية VAB، وكذا عربات الاستطلاع AML وقطع المدفعية AMX F3. كما تم تأسيس مركز الكفاءات للعتاد المتحرك (Centre de Compétence Matériels Roulants ) ومهمته إعادة بناء وتطوير أسطول العربات والشاحنات العامل بالجيش الملكي، باستثمار يجمع بين المغرب وشركة أمريكية، وقام ببناء عربات ال VAMTAC محليا باسم "أطلس"، وهي نسخة إسبانية لعربات الهامر العسكرية الأمريكية. ويقوم المركز حاليا بإعادة بناء الشاحنات أمريكية الأصل العاملة بالقوات المسلحة. وعلى مستوى القوات الجوية، حرصت القيادة العليا على بناء مراكز لدعم العتاد بالقنيطرة، مكناس وبنسليمان، مهمتها الصيانة المحلية المتقدمة (Echelon 4)، وهو إنجاز كبير لبلد مثل المغرب. كما أن هذه المراكز قامت بعمليات تطوير الطائرات المقاتلة من طراز ميراج والا5 محليا، بعد أن تم نقل التكنولوجيا وتدريب الكفاءات المحلية العسكرية والمدنية لذلك عبر إنشاء شركة مغربية بلجيكية تم تدعيمها بعد زيارة الأميرة البلجيكية مؤخرا للمغرب لكي تقوم بعمليات صيانة مختلف أساطيل القوات الجوية، بما في ذلك الاف 16 وكذا استخدام كفاءاتها للبحث عن فرص تجارية في القارة الإفريقية. آفاق تطوير نسيج صناعي عسكري بالمغرب ينهج المغرب سياسة اقتصادية قائمة على تطوير صناعات محلية متنوعة، ويحرص على نقل تكنولوجيات متنوعة بمعدل تكامل محلي مرتفع، وخير مثال على ذلك ما يحدث على مستوى السيارات وصناعة الطيران..وهو النهج نفسه التي اتبعته تركيا وغيرها قبل البدء بتطوير صناعات محلية مدنية وعسكرية. وهناك بوادر على قرب البدء في تطوير نسيج صناعي عسكري محلي، من ذلك رغبة القيادة في بناء منشأة لتزويد الجيش بالذخائر، إذ كشفت تسريبات كولمان وجود اهتمام على أعلى مستوى في هذا الشأن، وهي بداية جيدة ومعقولة في هذا الميدان. مع العلم أن ما يعطل هذا المشروع هو إمكانية حصولنا على ذخائر بالمجان من لدن الولاياتالمتحدة، كما تظهر المنشورات السنوية لوزارة الدفاع الأمريكي عن برنامج الدعم العسكري EDA (ExcessDefense Articles) الذي يعتبر المغرب من أبرز المستفيدين منه إلى جانب إسرائيل ومصر وتايوان وغيرها. الصناعة البحرية الغائب الأبرز في السياسات التنموية والعسكرية لا يحظى البحر بالأهمية التي يستحقها في بلد يملك مجالا بحريا مهما مثل المغرب. مع الأسف، أظهر التاريخ أن المغرب يزدهر إذا اهتم بالبحر ويتقهقر إذا ولى ظهره له. يكاد يغيب بشكل واضح نسيج صناعي بحري مهيكل بالمغرب، باستثناء بعض أوراش الصيانة بالدارالبيضاء وأكادير وطانطان، وورش تصنيع بأكادير استطاع تصدير بعض سفن الصيد لزبناء أفارقة بمجهودات شخصية، وفي غياب دعم حقيقي للدولة. بل إن البحرية الملكية المغربية، وإن كانت حققت بعض الإنجازات في عهد الملك محمد السادس، لازالت إمكانيتها لا ترقى إلى ما يجب أن تكون عليه القوة البحرية المغربية؛ بل ينظر إليها في بعض الأوساط العسكرية كأنها بحرية مدنية أو قوة أمنية وليس قوة عسكرية. غياب نسيج صناعي عسكري بحري يدفع البحرية الملكية إلى إرسال قطعها العائمة في رحلات بالخارج من أجل عمليات الصيانة وإعادة البناء بتكلفة باهظة جدا. لذلك تواكب القيادة العسكرية البحرية أعمال بناء الأوراش البحرية الجديدة بميناء الدارالبيضاء والتأكد من إمكانية استيعابه لمختلف القطع البحرية العاملة بالأسطول الملكي؛ كما توجد رغبة لديها في إطار شراكة مع فاعل أجنبي أن يتم بناء الخافرات البحرية المستقبلية للبحرية الملكية في هذه الأوراش كبداية لتطوير القدرات التصنيعية المغربية في هذا الميدان، وليس فقط أن يكون للإصلاح. دور المبادرة الخاصة لخلق صناعة عسكرية بالمغرب بناء نسيج اقتصادي محلي ل ايهم فقط الدولة، بل يجب أن يكون هناك دور للخواص في ذلك. وهناك تجارب مغربية متواضعة تجب مواكبتها وتشجيع مثيلاتها؛ فمثلا تقوم مجموعة فينونسكوم عبر فرع جديد وشراكة مع فاعل جنوب إفريقي بتطوير طائرات بدون طيار لاستخدامات مختلفة، في حين هناك شركة مغربية تعنى بالتجهيزات الفردية الأمنية والعسكرية استطاعت ربح عدة صفقات بالخارج، ومثلت المغرب في معرض الدفاع مؤخرا بأبيدجان بالكوت ديفوار.. وهي تجارب يجب أن تشجع بتوفير الدعم من طرف مؤسسات الدولة وأن تكون أجهزتها الأمنية أول الزبناء من أجل دعمها تجاريا في الخارج، لما تمنحه مثل هذه التجارب من قيمة مضافة للاقتصاد الوطني كذلك. وفي الأخير، يجب ألا نغفل أننا بلد بإمكانيات متواضعة جدا يواجه تحديات اجتماعية واقتصادية وأمنية وعسكرية مهمة، فالمدرسة لها نفس أهمية المستشفى، وهذه الأخيرة لها نفس أهمية الثكنة العسكرية، ونفس أهمية المحكمة وغيرها، لذلك كان لزاما العمل على مختلف الجبهات لتحقيق التنمية المنشودة وتوفير الأمن والأمان للمواطنين؛ في حين أن المغامرة في مشاريع غير مربحة ستكون لها عواقب وخيمة على الاستقرار لا محالة. * باحث في الشأن العسكري