ألاحظ أن المغربي لا يحب وطنه ويسعى إلى الهجرة مضحيا بحياته ويتمنى لو وُلد في أوروبا. وفي الواقع، المغربي لا يحب نفسه وذاته لأنه يعاني من اضطرابات في ميكانيزمات الهُوِّية خلال تطورها منذ دخوله المدرسة. وعند تحليلي لهذه الاضطرابات وبعجالة أجد أن السبب الرئيسي هو إنكار هويته اللغوية (الدارجة والأمازيغية) واعتبار اللغة العربية هي لغة الوحدة رغم أن الواقع يبرهن عن فشل هذه الرؤية. اللغة العربية في الواقع هي لغة أجنبية بالنسبة للطفل المغربي لأنه لم ينشأ عليها منذ ولادته، ولم يتعلمها إلا كمقرر بعد دخوله المدرسة، مثل اللغة الانجليزية والفرنسية والاسبانية مثلا. وتكون أول عملية كسر لشخصيته وتطور ميكانيزم هوِيَّته حين يعلم أن لغته الدارجة أو الأمازيغة لا قيمة لها في دراسته ومستقبله، وأنها ليست بلغة. وهذا من أسباب إفلاس التعليم المغربي وتغييب حب الوطن وروح المشاركة في بنائه! 1. الخلط بين لغة القرآن ولغة التعلم والأبحاث باعتبار العربية هي لغة القرآن، يتوهَّم المغربي أن اكتساب العلم مستحيل بدون استعمالها. الإيمان لا لغة له ولغة الدين هي الأعمال الصالحة. أما اكتساب العلوم يتحقق بأي لغة كانت. وأعتبر فرض اللغة العربية على حساب اللغة الأم الدارجة أو الأمازيغية، تطرف وتعصب وظلم. 2. هلوسة ووَهْم الانتساب إلى الأمة العربية من خلال تدمير الهوية المغربية أعتبر مفهوم الانصهار في الأمة العربية وهماً خطيراً ومرضاً فتاكاً. وأرى هويتنا المغربية قد اختنقت وتقلصت ودخلت قسم الإنعاش بسبب تعليم اللغة العربية الأجنبية وإنكار لغتنا الدارجة أو الأمازيغية. وحتى في معالجة غيبوبة هويتنا، ما زلنا نحقنها ونعالجها بلقاحات اللغة العربية الأجنبية ونغرسها في الجسد الوطني غرساً صناعيا. 3. الدارجة والأمازيغية لغة الأمية والعربية لغة العلم ولغة الإقصاء يدرك الطفل المغربي المتمدرس أن العلم في المفهوم المدرسي يبقى منحصرا في التعليم بالعربية واللغات الأجنبية الأخرى، وأن كل أميّ هو جاهل لأن لغة حياته اليومية هي لغة الجهل، ولهذا لا يحاول ترجمة ما تعلمه إلى لغة الجهل ولا يشارك في تبليغ علمه ونقل معارفه إلى الأمي. وهنا نرى أن العربية هي لغة الإقصاء الاجتماعي. 4. اللغة العربية لغة من حديد صلب يقتل العواطف للعواطف دور كبير في توازن الإنسان وفي توطيد العلاقات العائلية والاجتماعية. والتعبير عن عواطف المغربي يكون بلغته الأم، وليس باللغة العربية. والطفل لا يقول "أنا فرح جدا"، بل يقول "كَنْموتْ بالفرحة"، ولا يقول "أنا أتألم كثيرا"، بل يقول "قلبي غَدي يْطّْرْطْقْ"، ولا يقول "أبي من فضلك اشتري لي حلوة"، بل يقول "بابا عَفاكْ شْري لِيَّ مْصّاصا". وهنا يرى الطفل أن اللغة العربية لا حاجة له بها خارج المدرسة، ولا يستطيع أن يبدع مثلا في كتابة شيء جميل لأمه باللغة الدارجة ويستحيل عليه كتابته باللغة العربية للتعبير عن عواطفه، وحتى إذا كتبه فلا بد له من العثور على كلمات غريبة عليه، وبالتالي يرى أن أمه سوف لن تدرك غاياته العاطفية، وهكذا يغيب الإبداع بلغته الأم ويصيبه الاحباط وتُقتل عواطفه. 5. دور العواطف في تطور اللغة والابداع الثقافي والعلمي نعرف أن العوامل الأساسية للابتكار والإبداع هي المشاعر والعواطف التي تشحن الرغبة الإبداعية. ونعلم أيضا أن المغربي تربى منذ ولادته بلغة الأم، الدارجة أو الأمازيغية، وبِها تكوَّن وجدانه وبدون تبادل المشاعر والعواطف يموت الطفل. وعلميا نعرف جيدا أن الرضيع غالبا ما يرفض رضاعة الثدي إذا كانت الأم مريضة نفسياً أو من امرأة غير أمه. وإذا تمت رضاعته غريزيا فقط، فإنه ينمو باضطرابات نفسية كثيرة. كذلك الأمر عند دخول الطفل إلى المدرسة وتلقيه لغة أجنبية عليه مثل اللغة العربية يصعب عليه التعبير بها عن مشاعره وعواطفه فيحصل عنده اضطراب في محطات تكوين هويته. 6. غياب الاستقلالية والاعتماد الذاتي مع جمود التعبير عن المشاعر وانعدام القدرة الإبداعية، يصبح التلميذ مثل مزهرية فارغة تتلقى اللغة العربية الاجنبية والحديدية، فلا يرى أن له مسؤولية ولا يستثمر ما يتلقاه، وهكذا لا ينمي استقلاليته واعتماده الذاتي وروح تحمل المسؤولية. ولهذا نرى المغاربة لا يشاركون في تطور المجتمع على اعتبار أن الحكومة هي المسؤولة الوحيدة عن كل شيء مثل التلميذ الذي لا يرى دوراً له في مدرسته وأن المؤسسة هي المسؤولة عليه في كل شيء. 7. غياب التعايش وانتشار النزاعات والكراهية عدم الاعتراف بهويتنا المغربية على اختلاف مكوناتها ورفض الإقرار بتنوع ثقافاتنا المغربية الذي لا يتحقق إلا بالاعتراف بلغاتنا الأم واحترامها وتطويرها واستعمالها في التدريس، يخلق كسوراً وتصدعات خطيرة في تكوين الهوية الوطنية كما يخلق شقاقات بين مختلف المكونات الاجتماعية مع تنامي الكراهية وتفشي روح التعصب وغياب التعايش السليم بين كل المغاربة. للغة دور مهم ليس فقط في التبادل وكسب الثقافة والعلم، وإنما أيضاً في بناء توازن الشخصية والعلاقات الاجتماعية والحس بالانتماء إلى مجتمع واحد والسعي إلى خدمة الوطن وتقوية مبدأ الوحدة في التنوع واعتبار التنوع كنزاً عظيماً يجب الحفاظ عليه. هذا التنوع هو الذي يُثري البلد ويوحده ويكون سببا لسلوك طريق الخدمة الاجتماعية يدا في يد على اختلاف تنوعاتنا. * خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي