تندرج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضمن الحقوق الأصيلة التي يكفلها القانون الدولي الإنساني، وتعمل على حمايتها جل دساتير الدول الديمقراطية من أجل توفير إطار قانوني موحد للقيم والمعايير المعترف بها دوليا، بهدف تحقيق العدالة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي وتعزيز مبدأ المساواة في الشغل والصحة والتعليم والسكن وغيرها من الحقوق الأساسية التي نصت عليها مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الموقع عليه سنة 1966 من قبل 160 دولة؛ من بينها المغرب. فإلى أي حد تمثل المغرب هاته المبادئ والحقوق المتعارف عليها دوليا؟ وما هي مخرجات سياساته التنموية والاقتصادية والاجتماعية بالنظر إلى المرجع الدولي المعتمد في المجال؟ الحق في التعليم والحماية الأممية لمبدأ المساواة والمجانية شغل الحق في التعليم إجماعا كبيرا بين الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، بحيث إن غالبية النصوص والمواد التي تتعلق بهذا الحق لم تلقَ أية معارضة أو تحفظ يذكر من قبل الدول المصادقة عليها؛ بل كانت غالبا تحصد الإجماع الدولي على خلاف باقي الحقوق الأخرى، إيمانا منهم بأن الاستثمار في هذا المجال مربحا للغاية ويعود بالنفع العميم للوطن ويحقق له النماء والتقدم والازدهار. هكذا، نجد المادة ال26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 تؤكد على ضمان الدولة لكل شخص حقه في التعليم مع ضمان مبدأ المجانية، بقولها: "لكل شخص الحق في التعليم، ويجب أن يوفر التعليم مجانا على الأقل في مرحلته الابتدائية والأساسية ويكون التعليم الأساسي إلزاميا، وأن يكون التعليم الفني والمهني متاحا للعموم". المنحى نفسه ذهب إليه العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في المادة ال13 والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966 بقولها: "تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم".. في حين نجد الدستور المغربي عمل على دسترة هذا الحق من خلال مقتضيات الفصول 31 و32 و33 و168 من دستور 2011 بقوله في الفصل 31: "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في... الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة"، إذ جعل هذا الحق مقرون مع الحقوق المرتبطة بالعلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. وبرجوعنا إلى لغة الأرقام الرسمية، نجد كل ما تعهدت به الدولة في التعهدات أعلاه لم تلتزم به، حيث لا يزال 650 ألف طفل بدون مقعد في المدرسة؛ بل غادر هذه المدرسة لأسباب اجتماعية 218 ألفا و141 تلميذا، ليحتل المغرب حسب مؤشر التعليم، المركز ال101 عالميا من بين 140 دولة، حسب تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2017. وهذا يخالف أيضا الفقرة ما قبل الأخيرة من الفصل ال32 من الدستور المغربي الذي ينص على أن التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة. وحسب تقرير دولي أخير، احتل المغرب الرتبة ما قبل الأخير بين 13 دولة عربية بخصوص أجور رجل التعليم، حيث يؤدي له أجرا شهريا قدره 4500 درهم يرتقي إلى مبلغ 7000 درهم بعد أقدمية مدتها 10 سنوات من العمل؛ في حين احتلت قطر الرتبة الأولى عربيا، حيث ترصد الدولة لرجل التعليم مبلغ 76000 درهم، وهو ما يطرح على الدولة علامة استفهام عن الحوافز التي تقدمها لرجل التعليم ناهيك عن الميزانية المخصصة للقطاع إلى جانب عدم نجاعة النظم والبرامج التعليمية. الحق في السكن من وجهة نظر الأوفاق الدولية يعتبر الحق في السكن من أهم الحقوق الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى جانب الحق في التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، والحماية من الفقر والبطالة وغوائل الشيخوخة، والحق في مستوى معيشي لائق. وتعد مشكلة السكن في الدول العربية من أكثر المشاكل المعقدة التي يعاني منها المواطن العربي، حيث أوضحت الدراسات التي أجراها المعهد العربي لإنماء المدن أن نحو 60 % من سكان المدن في الوطن العربي يقطنون بمنازل مؤجرة أو في مناطق سكن غير منظمة وغير مؤهلة للعيش الصحي والتي يطلق عليها "العشوائيات أو السكن الصفيحي". وبالمغرب تتزايد حدة هاته المعاناة بسبب ارتفاع منسوب الفقر والهشاشة وأمام غياب السياسات والمخططات العامة للدولة في هذا المجال للتخفيف من هاته الحدة، مقابل انتهاج السلطات الحاكمة لسياسة الأرض المحروقة بتواطؤ مع مافيات العقار، وذلك بهدم الأحياء الصفيحية على رؤوس ساكنيها دون سابق إشعار ودون احترام للقواعد القانونية المتعارف عليها في هذا الشأن، ناهيك عن غياب أي بديل سكني اقتصادي أو اجتماعي لضحايا هاته الأحياء السكنية غير اللائقة. إن كل المهجرين من هاته الأحياء الصفيحية يرحلون إلى أحياء هامشية تبعد عن مقرات عملهم، ولا تتوفر على شروط السكن اللائق كما نصت عليها المواثيق الدولية في التعليق العام رقم 4 للجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي حددت عناصر الحق في السكن اللائق في توافر أمن الحيازة القانونية بشكل يضمن لهم الحماية من الإخلاء القسري والمضايقة والتهديدات الأخرى، والقدرة على تحمل التكاليف حتى لا تؤثر التكاليف الشخصية أو الأسرية المرتبطة بالسكن على تهديد تلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى أو الانتقاص منها، إلى جانب صلاحية السكن بشكل يوفر الحماية من البرد والرطوبة والحرارة والمطر والريح أو غير ذلك من المخاطر التي تهدد الصحة والمخاطر الهيكلية ونواقل الأمراض، إلى جانب توافر الخدمات والمواد والمرافق والهياكل الأساسية. ولعل أهم معيار للسكن اللائق حسب نفس المادة هو أن يكون في موقع يتيح إمكانية الاستفادة من خيارات العمل وخدمات الرعاية الصحية والمدارس ومراكز رعاية الطفل وغير ذلك من المرافق الاجتماعية وألا يكون مبنياً في موقع ملوث أو في موقع قريب جداً من مصادر تلوث. وهذا نجده مخالفا للمادة ال27 من اتفاقية حقوق الطفل التي تفرض بأن تتخذ الدول الأطراف، وفقا لظروفها الوطنية وفى حدود إمكاناتها، التدابير الملائمة من أجل مساعدة الوالدين وغيرهما من الأشخاص المسئولين عن الطفل، على إعمال هذا الحق وتقدم عند الضرورة المساعدة المادية وبرامج الدعم، ولاسيما فيما يتعلق بالتغذية والكساء والإسكان. فكم عدد الأطفال الذين شردوا بسبب هاته الممارسات اللا إنسانية وحرموا من حقهم في متابعة الدراسة؟ كم عدد الأطفال والنساء والشيوخ الذين ارتجفت قلوبهم خوفا ورعبا من تلك الإنزالات الأمنية التي عمدت إلى هدم سقوف وحيطان بيوتهم أمام أعينهم بدعوى تعليمات عليا، دون أن تأخذهم رأفة بالمرأة الحامل والأم النافس التي لم يمر على وضع وليدها أربعة أيام؟ ولا بالشيخ المريض بالقلب الذي لا يستطيع التنفس إلا بالهواء الاصطناعي؟ التطبيب والشغل حقان متلازمان في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان حسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية الصادر مايو ،2017 فإن المغرب يخصص 14.9 إطارا طبيا لكل مائة ألف مواطن مغربي محتلا بذلك المركز ال16 عربيا، وهي نسبة ضئيلة إذا ما قورنت مثلا ب218 طبيبا في النرويج أو حتى 90 طبيبا في ليبيا. كما أبرز التقرير أعلاه أن المغرب يخصص لقطاع الصحة حوالي 6 ٪ فقط من ميزانيته العامة، وهي نسبة لا تصل حتى إلى النسبة المقررة من قبل منظمة الصحة العالمية والتي وصلت إلى 9 ٪. أيضا قامت الدولة خلال سنة 2017 بشن حملة إعفاءات ظالمة طالت أزيد من 150 موظفا موزعين على عدد من القطاعات الحكومية بسبب انتمائهم السياسي أو نشاطهم النقابي، كما عمدت إلى ترسيب العشرات من الأساتذة المتدربين والمئات من الأساتذة المتعاقدين، ناهيك عن انتهاج الدولة لسياسة تجميد الأجور والرفع من الأسعار وضرب القدرات الشرائية للمواطنين والتخلص من الخدمات الأساسية وتقليص الغلاف المالي المرصودة للوظيفة العمومية واعتماد التوظيف بموجب عقود محددة المدة. ناهيك عن مأساة ساكنة مدينة زاكورة التي عرت الحقيقة البشعة لواقع مرير، فما زال المغاربة يناضلون من أجل قطرات ماء ليروون به عطشهم، فكان مصير متزعمي تلك الاحتجاجات 20 شهرا حبسا لمشاركتهم في مسيرة العطش. أما عن الجوع فيكفي أن نورد مأساة 15 امرأة مغربية لقين حتفهن، بينما أصيب خمس أخريات بإصابات متفاوتة الخطورة خلال ماي من السنة المنصرمة، على إثر تدافع للآلاف أثناء عملية توزيع مساعدات غذائية نظمتها جمعية محلية بالسوق الأسبوعي لجماعة سيدي بولعلام التي تبعد بنحو 60 كلم شمال شرق مدينة الصويرة غربي المغرب. كل هذا لا يرقى إلى ما نصت إليه المادة ال31 من الدستور المغربي التي توجب على الدولة أن تعمل على تيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة من الحق في العلاج والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية،.. والشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي، ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق، الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة، والتنمية المستدامة. الأسرة بين الحماية القانونية وإكراهات الواقع جل المواثيق والدساتير الدولية تولي مؤسسة الأسرة أهمية بالغة، وتمنحها مكانة رفيعة؛ فالمادة ال16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة ال23 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنصان على أن الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة. المنحى نفسه ذهب إليه الدستور المغربي في فصله ال32، حيث اعتبر الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وأن الدولة تعمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها. فعلى المستوى الاجتماعي، عرفت نسبة الطلاق خلال السنوات الأخيرة ارتفاعا مهولا، حيث وصل عدد حالاته خلال سنة 2015 حسب تقرير رسمي صادر عن وزارة العدل إلى 24254 حالة طلاق ليحتل المغرب عربيا المركز السادس بست حالات طلاق كل ساعة. ناهيك عن الاستهداف البين لقيم وأخلاق الأسرة المغربية من خلال مهرجانات الفن الساقط التي يصرف عليها من دافعي الضرائب وكذا غياب الرقابة على البرامج والمواد الإعلامية التي تبث على القنوات العمومية للدولة، والتي تخدش في الحياء العام وتؤثر سلبا في تربية الأطفال والشباب. أما حق الأمومة، فأصبح كابوسا يتهدد النساء المغربيات أمام الاختلالات الكبيرة التي يعرفها قطاع الصحة وفي غياب الخدمات الصحية التي تحفظ الكرامة الآدمية؛ وهو ما يبقي معدل وفيات الأمهات في ارتفاع كبير، واقع يجعلنا نتساءل عن جدوى إثارة موضوع الإجهاض وإفراده بالنقاش أمام تفاقم معضلة الصحة الإنجابية ووفيات الأمهات والأطفال لغياب شروط الرعاية الصحية الضرورية. زد على ذلك تنامي مقلق للعديد من الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تلقي بظلالها على واقع الأسرة، حيث التزايد الكبير في مظاهر الفقر والبطالة وارتفاع في معدلات الجريمة على أساس النوع، ونسب الدعارة المخجلة والانتعاش المستمر لتجارة البشر والسياحة الجنسية، وارتفاع معدلات الإجهاض السري، وتعاطي المخدرات، وتزايد نسب الطلاق والتفكك الأسري، وامتهان التسول والعنف ضد الأصول... كلها أعطاب تفضح واقع الهشاشة والمظلومية الذي تعيشه الأسرة المغربية بمختلف مكوناتها. خلاصة القول إن التردي الاجتماعي والفشل التنموي والتراجع الاقتصادي هو عنوان المرحلة، وهذا راجع بالأساس إلى غياب إرادة حقيقية للإصلاح واستحكام منطق الفساد والاستبداد الذي لم ينتج لنا إلا البؤس والهشاشة والحرمان. 31 يناير 2019