مدخل عام في ظل تنامي دور المعلومات في النهوض بالتنمية المستدامة، أصبح المنتظم الدولي أكثر اقتناعا بضرورة تثبيت وتحصين مبدإ إتاحتها ومواجهة كل مبادرات حجبها والتكتم عليها؛ حيث تأكد أن هذا المبدأ يشكل جسرا ضروريا لبلوغ متطلبات الحكامة الجيدة، بما تستوعبه من مبادئ سيادة القانون والمشاركة والشفافية والمساءلة، والتي لا يمكن تطوير منظومتها خارج تثبيت الحق في النفاذ إلى مختلف أصناف المعلومات. في هذا الإطار، وفي سياق تأصيله لقواعد الحكامة الجيدة، نص الدستور على الحق في الحصول على المعلومات، مُنَبِّها إلى عدم جواز تقييده إلا بمقتضى قانون؛ حيث جاء القانون رقم 13-31 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات متضمنا لمجموعة من المقتضيات التي تتمحور حول تحديد المفاهيم، وإقرار مبدإ إعادة استعمال المعلومات، ووضع إجراءات الحصول على المعلومات ومواجهة القرار السلبي، واعتماد آلية النشر الاستباقي، وإحداث جهاز للتشكي وتتبع تفعيل مقتضيات القانون، وحصر المجالات المشمولة بالاستثناء، وتحديد العقوبات. محدودية القانون في إتاحة المعلومات المتعلقة بالرواتب والامتيازات إذا كان هذا القانون الذي سيصبح ساري المفعول ابتداء من شهر مارس المقبل مُطالَبا بإيجاد أجوبة واضحة على التطلعات الحقوقية لكثير من المواطنين، فإن إجابته على الانتظارات المتعلقة بشفافية الأجور والامتيازات تشكل مطلبا ملحا، ليس فقط استجابة لحق المواطنين في معرفة تصريفات إنفاق المال العام، ولكن أيضا استجابة لحق الفاعلين الاجتماعيين في الاطلاع المفصل على منظومة الأجور، كمطلب لا غنى عنه لممارسة ناجعة للمنهجية التشاركية التي أقرها الدستور. فهل يوفر هذا القانون ضمانة حقيقية لرفع حجاب التكتم والسرية عن رواتب وامتيازات المسؤولين؟ للإجابة على هذا التساؤل، يمكن القول بأن القراءة المدققة في مقتضيات القانون رقم 13-31 تؤكد استبعاد المعلومات المتعلقة برواتب وامتيازات المسؤولين من لائحة المعلومات والمعطيات التي يمكن أن تشكل موضوع نشر استباقي من طرف الجهات المعنية، مقابل الاكتفاء، في هذا الشأن، بنشر مشاريع قوانين المالية والوثائق المرفقة بها، وميزانيات الجماعات الترابية والقوائم المحاسبية والمالية المتعلقة بتسييرها وبوضعيتها المالية. وواضح أن هذا السقف الذي يُلزمنا هذا القانون بالتوقف عنده لن يفيد شيئا في إغناء الرصيد المعلوماتي للمواطنين بخصوص مجالات إنفاق الأموال العامة في جانبها المتعلق بالرواتب والامتيازات، لأن إدراجها في قوانين المالية يتم بشكل شمولي وبطريقة تعويمية داخل ميزانيات التسيير؛ بما لا يسمح لسائر المعنيين بتحقيق الاطلاع المطلوب على مبالغ هذه الرواتب، والفئات المستفيدة منها، ومبالغ وأصناف المكافآت والعلاوات والتحفيزات، والأجور والمعاشات الاستثنائية، والجمع بين عدة تعويضات، فضلا عن التفاوتات الملحوظة بين القطاعات في هذا الشأن. أهمية ووجاهة نشر المعلومات المتعلقة بالرواتب والامتيازات ما ينبغي التنبيه إليه أن بلوغ المعطيات المذكورة إلى علم المواطنين يشكل المدخل الأساس لتجسيد مطلب الشفافية المنشود في صرف الأموال العامة؛ إذ يُفترض أن يُعتمد كتجسيد واضح لمطلب "إشهاد" هؤلاء المواطنين على عدالة التصريف المالي للمبدإ القانوني "الأجر مقابل العمل"؛ وكتخويل رمزي لحق ممارسة الرقابة المجتمعية على ما يُقتطع من أموال دافعي الضرائب كمخصصات للرواتب والامتيازات، وكاعتراف عملي ببراءة منظومة الأجور من شبهات التوزيع غير العادل والتفاوت الصارخ والاستفادات غير القانونية وغيرها من الاتهامات التي تُغذي الارتسامات القاتمة للرأي العام إزاء هذه المنظومة. والأمر الأكيد أن الحق في الاطلاع على الرواتب والامتيازات يجد سنده في مقتضيات الدستور التي بقدر ما نصت صراحة على الحق في الولوج إلى المعلومات، بقدر ما نصت ضمنيا على الدور الحيوي لهذا الحق في النهوض بمجموعة من الحقوق الدستورية الأخرى التي لا يمكن الارتقاء بها إلا عبر إتاحة معلومات ومعطيات بمواصفات معينة. من هذا المنظور، يمكن القول إن تنصيص الدستور على حق المجتمع في تتبع الحساب المتعلق بتدبير المرافق العمومية للأموال العامة وعلى إشراك الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها يمر بالضرورة عبر تمكين هؤلاء الفرقاء من كافة المعلومات المرتبطة بالمجال موضوع التشاور. ولا يبدو مستساغا ومنطقيا إشراك الفاعلين الاجتماعيين في إصلاح منظومة الأجور والمعاشات مثلا، دون تمكينهم من حق الاطلاع على المعلومات ذات الصلة بلوائح الأجور والمعاشات الاستثنائية ومبالغ العلاوات والتعويضات والمكافآت وغيرها، وإلا فإن إشراكهم سيكون عبثيا وموجَّها للاستهلاك والاستجداء المفضوح لصكوك "الإجماع" و"المقاربة الجماعية". كما يستمد حق الاطلاع على الرواتب والامتيازات مشروعيته ووجاهته من المعايير الدولية المتعارف عليها حاليا في مجال النهوض بشفافية الميزانية، خاصة في إطار مؤشر الموازنة المفتوحة الذي ما فتئ يوصي بإرساء آليات الانخراط الواسع في عملية الميزانية، من خلال تمكين الجمهور من حرية الوصول إلى معلومات الميزانية المفصلة حول الموارد والمداخيل ومجالات الإنفاق، وتوزيع معطيات الميزانية بأشكال وأساليب إعلامية مبسطة ومفهومة ومفيدة للجمهور الواسع، وتوجيه الجهود نحو بناء أنظمة معلومات محينة عن الأموال والممتلكات العامة؛ بما يفيد سريان هذا الأمر على المعلومات المتعلقة بالرواتب والامتيازات باعتبارها إحدى مجالات إنفاق المال العام. وإذا كان المشرع المغربي قد تجاوب نظريا وبشكل محدود مع هذه التوصيات، من خلال التنصيص في بعض القوانين والأنظمة على نشر حسابات وموازنات المؤسسات العامة، فإنه ظل عمليا فاقدا للجرأة والموضوعية في ترسيخ إلزامية نشر المعطيات المتعلقة بالرواتب والامتيازات، مما ساهم في عجز المعلومات المالية المنشورة عن إحداث التجاوب المطلوب من طرف المواطنين، وحَالَ بالتالي دون انخراطهم الواسع في المسار المتكامل للميزانية وفق ما قررته المؤشرات المتعارف عليها في هذا المجال. نشر المعلومات المتعلقة بالرواتب والامتيازات ومبدأ حماية الحياة الخاصة لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يُوَظَّف مبدأ حماية الحياة الخاصة للأفراد كذريعة لتثبيت مشروعية حَجْب المعلومات المتعلقة بالرواتب والامتيازات عن المواطنين، لأن هذه الرواتب تعتبر جزء لا يتجزأ من المال العام، والمنتفعون بها يعتبرون موظفين عموميين بالمفهوم العام للموظف العمومي. وبما أن الوضع الاعتباري لهؤلاء الموظفين يُدرجهم ضمن فئة محددة ائتمنها المجتمع على تدبير المرفق العام بمقتضى مسؤولية تعاقدية يُشكل فيها الراتب والتعويضات بندا أساسيا من بنودها، فإن هذا الراتب يكتسب بالتبعية صفة العمومية التي تجعل كل حلقات المسؤولية التعاقدية مناط مراقبة ومساءلة وتتبع من طرف المجتمع، ويجعل بالتالي كل ادعاء بخصوصية هذه الأجور وخصوصية من ينتفع بها محض مناورة للالتفاف على مطلب نشرها وتعميم العلم بها. وحتى لو استسغنا فَرَضا الارتكان إلى مبدأ حماية الحياة الخاصة للأفراد كذريعة لحجب المعلومات المتعلقة برواتبهم، فإن تغليب المصلحة العامة يقتضي أولوية درء المفاسد الخطيرة المترتبة عن السرية والتعتيم في هذا المجال، على جلب المصالح التي تبقى في نهاية المطاف أمورا تكميلية تروم عدم التشويش على الحياة الخاصة لبعض أفراد المجتمع، وذلك وفق ما هو مقرر عند الأصوليين الذين اعتبروا "اعتناء الشارع بدفع المفاسد أشد من اعتنائه بجلب المصالح". ويكفينا في هذا المقام أن نُذكِّر بأن المجتمع الدولي وجد نفسه مضطرا، عملا بمضمون المبدإ الأصولي أعلاه، إلى رفع التقييدات القانونية ذات الصلة بحماية الحياة الخاصة للأفراد، استجابة للمصلحة العامة في ضرورة مواجهة قضايا الإرهاب وما تتطلبه من حتمية التتبع الدقيق للحياة الشخصية ونقل المعلومات وتبادلها بين الدول في هذا الشأن. رفع الحجب عن الرواتب والامتيازات ضرورة حتمية نعود لنؤكد بأن المصلحة العامة تقتضي رفع الستار عن رواتب وامتيازات المسؤولين العموميين، تحقيقا لمطلب الشفافية ودرء للمفاسد المترتبة عن التكتم والسرية في هذا المجال الحيوي، مع التأسي في هذا الشأن بالتجربة الكندية التي، استثناء من المقتضيات القانونية المتعلقة بحماية الحياة الخاصة للمواطنين، أقرت الإلزامية القانونية لنشر الرواتب والمنح والتعويضات السنوية للوزراء والمديرين ومديري الدواوين والمسؤولين المعينين في المناصب العليا. وتَعْتَبِرُ التجربة الكندية، التي شكلت نموذجا للاحتذاء من طرف الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأخرى، أن نشر المعلومات المتعلقة برواتب وأجور المسؤولين نابع من مبدإ تمكين الجمهور من ممارسة رقابته على أنشطة المنشآت العامة وضمان حقه في معرفة مجالات إنفاق المال العام. ونحسب أن حاجة بلادنا إلى نشر هذه المعلومات تحتل مكان الصدارة، بالنظر إلى ما يُثار حول منظومة أجور ورواتب المسؤولين من شبهات سبقت الإشارة إليها، يضاف إلى ذلك ما بات يعرف في أوساط المتتبعين "بقناصي المناصب" الذين أخذوا يجدون في الانغلاق والتكتم والثغرات التي تشوب هذه المنظومة مطية لمراكمة التعويضات عبر كسب ورقة العضوية في أكثر من مجلس وهيئة ومؤسسة؛ الأمر الذي يجعل المشرع مدعوا لمراجعة قانون الحق في الحصول على المعلومات في اتجاه تثبيت إلزامية نشر المعطيات المفصلة حول الرواتب والتعويضات والامتيازات التي يستفيد منها مسؤولو مرافق الدولة، إذا أراد أن يُبَدِّد الانطباع السائد بوجود عزوف مقصود عن نشر الغسيل المتعلق بهذا المجال، لِما يتلطَّخ به من أدران وأوساخ لا تليق بأنظار المواطنين وسائر المعنيين. *باحثة في مجال مكافحة الفساد