الحلقة الثانية: من عبلة وعفراء إلى سامية الزرقاء: سامية: فيسبوكية زرقاء، لا تكشف عن صورتها واسمها الحقيقي، يعرفها أصدقاؤها فقط. لا تتعدى ذاكرتها شاشة هاتفها أو كمبيوتر المنزل، وعلينا أن ننسبه إلى المنزل كأي متاع ضروري واعتيادي: التلفاز، الثلاجة، المجمد. لا شيء يربطها بكبار المُحِبات العاشقات؛ من ذكرت ومن لم أذكر، من العرب والعجم. لا شيء تماما، ولو فقط كموضوع للنسيان. وهل ننسى ما لم يدخل ذاكرتنا قط؟ سامية بنت يومها، ساعتها، دقيقتها، تفتح الهاتف الذكي، غالبا، لأن هذا ممكن، بعيدا عن كل متطفل، كما يحصل مع كومبيوتر المنزل. تفتح هاتفها الذكي في غرفتها، وتحت فراشها، وحتى في الحمام. هي تمتشق العالم، تطل عليه من أي كُوة تشاء؛ ولم تكن عبلةُ تفرح لغير عنتر، يمتشق سيفه أمامها، فيلمع "كبارق ثغرها المتبسم". هي غير عبلة، وغير ليلى، وغير بقية الكوكبة المُتيمة، من ساذجات الإنسانية، المنتميات إلى قرون البداوة. ها هو أمامها، بصفحتها، وقد غير تسريحة شعره في هذا الصباح فقط. وها هي في اللحظة نفسها تشاركه بهجته بشعره فقط. هو لم يفكر فيها، ولا حتى بنظم أبيات غزل في ليله. كل هذا لا يعرفه، هو الآن مغرم بتسريحته وكفى. ولا بأس أن يُمررها إلى جماعة الفيسبوك، ومنهم سامية. ما إن ترى التسريحة حتى تُفَسبِك على التو: تسريحتك جميلة، والخط جانبَ قُنَّةِ الرأس، إنه أجمل. (يجب أن نتعود على تصريف فعل فَسْبَك، إذ لا شيء من فصحانا يمكن أن يحل محله، بمعناه نفسه). هذا كل شيء، وأين سامي من قلبِها إن كان لم يتَّسع هذا الصباح إلا لشَعره. ما علاقتها بحديث القلوب إن كانت مجرد تسريحة تُسعدها؟ تدخل غرفة الحمام، وتنصرف إلى جسدها الفيسبوكي. تتمنى لو أن الفيسبوك ينوب عن الفتيات في غسل أجسادهن؛ ربما سيحصُل هذا مستقبلا، ففتوحات الفيس لا تنتهي. تسريحة شعر، حمام مختلط بأحلام مستقبلية، للفيسبوك وليس لها. حينما نحلم بشيء فيسبوكي يكون الفيس هو الذي يحلم به في الحقيقة، ثم يمرره الى أحلامنا؛ هذا من قواعد اللعبة العولمية. ثم تخرج، وقبل أن تستجيب لدعوة الأم للإفطار، تنتحي جانبا وتفتح الفيسبوك مرة أخرى.. ماذا؟ لم يعد هناك سامي بتسريحته، إنها صديقتها لمياء، تسألها عن أي لون سترتديه ليومها. الأزرق الأزرق يا لمياء، وأنت ماذا سترتدين؟ فكرت في الأزرق يا سامية، لكن بدا لي الأحمر هو الأفضل. هل رأيت تسريحة سامي؟، تسأل سامية. تجيب لمياء: أعجِبت بها. وسامي هل أعجبك؟ لا، لا، هذا لا يهُم؛ المهم كيف يسَرِّح شعره. تتناول إفطارها على وقع العالم الأزرق، ولمياء وسامي، ثم تنهض، لكن قبل حمل محفظتها والخروج، لا بأس من فسبكة جديدة توجهها إلى سامي: احتفظ بالتسريحة طيلة اليوم. لقد أعجبتْ حتى لمياء. يرد سامي: آسف لم يكن هذا رأي ليلى؛ ولهذا غيرتُها، غيرتُ التسريحة. تُفسبك سامية كلمةً غاضبة لسامي، فيرد عليها: فرضُ الرياضيات يا سامية؛ ليلى ستجلس بجانبي، فأنا لا أعرف سوى هندسة الشعر. هكذا بيعت سامية بنقطة جيدة، منتظرة، في فرض الرياضيات. هو الحب زمن الفيسبوك. بين حُبٍّ وحب، حب آخر. في "الحب زمن الكوليرا" لغابريال غارسيا ماركيز يختلف الأمرُ تماما: يتحابان في شبابهما حبا جارفا، لكنه فقيرٌ، لا يتجرأ على خِطبتها من والدها. يتقدم الطبيب الثري فينالها بثرائه، ومع السنين تنسى حبيبها الفقيرَ. ماذا تتصورون أن يفعل؟ لم يكن الزمن زمن الفيسبوك حتى يغير تسريحة شعره فقط، وينسى الموضوع كلية. لا، لا، بقي على حبه، عشرات السنين، إلى أن تناهى إلى علمه أن الطبيب زوجَ حبيبته مات؛ فتقدم لخِطبتها، وهي بنتُ السبعين عاما. نعم، كل هذه السنين وجذْوة الحب مشتعلةٌ في نفسه. طبعا، غضبت منه أيما غضب ونهرته: أبعد كل هذا العمر يا هذا؟ يا حبيبَ زمان.. شاخ الزمان يا حبيبي؛ ف"تعلم كيف تنسى.. وتعلم كيف تمحو". لا،لا، سنعيش سعداء، رغم كل هذه السبعين؛ إنه الحب، وهو كالخمر المُعتقة، يُسكِرُها الزمن فتُسْكر. تنهره بنتُها، وتعتبره ناقصَ عقل. أما الابن فوقف الى صف الحب: عشقتها شمطاء شاب وليدها وللناس في ما يعشَقونَ مذاهبُ أمَّاهُ، لماذا لا تعيشين سعادة الحب في شيخوختك؟ تشجعي واقبلي الخِطبة. ويتزوجان، ويرتبان قضاء شهر العسل في رحلة بحرية. هما الآن في سفينة كبيرة يمخران عباب حبِّهما صوب عنفوانه الشبابي. ولكنْ يشعر بالنظرات من حولهما، وبالهمهمات؛ ثم يتساءل لماذا لا يكونان وحدهما فقط في السفينة، حتى ينعمَان بحبهما؟ آه، لا تنقصه الحيلة، فما إن رست السفينة في أحد الموانئ حتى أعلن للجميع أنه وحبيبته المسنة مُصابان بالكوليرا. يهرب كل الركاب منهما إلى بَرِّ الأمان. ها هو وحيدٌ مع حبيبته، في سفينة لا يجرؤ أحد على الصعود إليها. هل هذا زمن الكوليرا فعلا يا ماركيز؟ أم هو زمن الحب، الذي يهرب بحبه ويختبئ حتى وراء الكوليرا؟ هل لاحظتم الفرق بين الحب في زمن الكوليرا والحب زمن الفيسبوك؟ ذات وَجْد عذري عميقٍ، صرخ قيس في حبيبته ليلى: إليكِ عني، لقد أنساني حبُّك فيكِ. ابتعدي يا سامية، فالفيسبوك أنسى فيك الحبيب الأزرق؛ حبيب دقائق وساعات فقط. أزرق وزرقاء في عالم أزرق، فكيف سيكون حبّهما إن لم يكن كقطعة ثلج. بين تسريحة وتسريحة أخرى، تُستبدل حبيبة بأخرى. سبعون عاما مرت على بطل غابريال غارسيا ماركيز، وهو ينتظر فرصة الظفَر بحبيبته، التي ضاعت منه في الشباب؛ أو ما تبقى منها. بعد فرض الرياضيات يخرج الجميع إلى الساحة للاستراحة. لا حديث إلا عن سامي الذي ضُبط متلبسا بالغِش، ولمياء المتواطئة: هو الصفر حتى لا سلامٌ ولا رد ولا نظرةٌ يقضي بها حقَّه الوَجدُ ما ابتدأ أزرقَ ينتهي أزرقَ.