الحلقة 1 أعجاز شِعرٍ خاوية نحن الذين قرأنا عن مجنون ليلى، عنترة وعبلة، كُثيِّر عزة؛ وتتبعنا أبيات العشق في قصائد امرئ القيس، ونظرنا إليه، وهو يعقِر ناقته للعذارى، ويطعمهن لحمها وشحمها؛ ثم يمضي في الفلاة ماشيا على القدمين؛ راجلا بعد أن ركب كل مراكب الحب.. نحن الذين سرنا مع عمر بن أبي ربيعة؛ وهو في طريقه إلى مضارب قبيلة "نُعم"، ثم جلسنا معه نتحيّن تفرق سُمار الليل، وغياب القُمير، لندلف معه إلى حبيبته، ونسهر معهما، نراهما ولا يرياننا.. ثم نحن الذين شايعناه، وهو وسط الكاعِبين والمُعصر؛ يهدد بمُبادأَةِ العُذَّل الذين وقفوا في طريق عودته، من مضارب خيامهم. نحن ونحن، الذين من كثرة ما أحببنا حب الأقدمين؛ صارت حبيباتُهم حبيباتٍ لنا؛ وصارت أشعارهم أشعارا لنا. نحن الذين ورثنا كل هذا الحب، بشقيه العذري وغير العذري، ماذا نقول الآن عن كل محفوظاتنا، من تاريخ العشق العربي؟ ثم ما أن دخلنا حداثتنا المعاصرة، وتعلمنا لغات الغرب، حتى زدنا من قواميس حبهم ودواوينهم، إلى قواميسنا ودواويننا القدر الكثير. زدنا روميو وجولييت، تِريزان وايسُولت، أورِيديس وأورْفي، بوني وكْليد، لونْسيلوت وجينيفْيير، اليسْ وبينيلوب؛ وزد وزد.. كلهن أصبحن حبيباتٍ لنا، وكلهم أصبحوا إخوانا لنا في الحب. كم اعتنقنا جميعا هذه الديانة الظِّلية، المتوارية، التي اسمها الحب، ورددنا في دواخلنا كل نصوصها العذبة، التي تَحكي بدورها عن الجنة والنار. جنةُ الحبيبة، حينما يُسلس الحب القياد، ويتوارى العُذال، وتحلُّ لغة النظرات و الآهات، محل لغة النحو والصرف؛ لغة سيبويه وابن جِني. جنةُ الحبيبة العربية، التي تنتظر الفارس عُروة، والبطل عنترة؛ جنة ليلى وهي تستمع إلى ما يتناهى إليها، وإلى قبيلتها من أشعار المجنون؛ وهو هناك تائه في واد عبقر حيث شياطينُه من عشاق الجن: قضاها لغيري وابتلاني بحُبها***فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا وخبَّرتُماني أن تيماء منزلٌ *** لليلى اذا ما الصيفُ ألقى المراسيا فهذي شهورُ الصيف عنا انقضت *** فما للنَّوى ترمي بليلى المراميا جنة الحبيب، حينما تشيعه الحبيبة باكرا، والقوم نُوَّمُ؛ يمضي وكأن على صدره ألفُ درع، وبيده ألفُ سيف. ألا يكفيه حب الحبيبة وتشييعها له؛ وهو ماض إلى منازلة الأسود و قطاع الطرق؟ ها هو في فلواته يتخيلها تنتظر وتسائل ريح الصبا عن أخبار حبيبها. نحن ونحن ماذا نفعل، الآن، بكل هذه الحكايا، وهذه الكتب المقدسة، من طرف العشاق. في الديانات ينتظر الناس الجنة جزاء، ويهابون النار؛ وفي ديانة العشق، الآن، لم تعد هناك لا جنة ولا نار. مضى كل شيء وانتهى. سقْط شِعْرٍ أهكذا وبجرة قلم؟ هكذا تُباد كل دواوين العشق؛ هكذا يهجُم عليها المغول ويحرقونها، أو يلقون بها في نهر دجلة كما فعلوا ذات غزو همجي، أتى على حضارة المسلمين. هكذا تُنتزع منا مُهجنا، وليالي السهر مع أشعار العشق، نحفظها ونرددها على مسامع أصدقائنا المتيمين بدورهم. ثم نُضمِّنها رسائلنا الركيكة إلى حبيباتنا، فيسعدن حتى بركاكتنا؛ بل ويتوهمن، من فرط الحب المراهق، أن شعر فحول العشق قيل فيهن. تتيه الواحدة منهن الخيلاء أمام زميلاتها، وهي ترفع عاليا وريقة حبيبها، في الصف. هل يموت كل هذا؟ هل يفنى زمن الحب؟ نحن نتذكر كل هذا، لأنه منا ونحن منه، وعشنا في ظلاله؛ فهل لنا أن نفخر بهذا، ونحن نرى شباب الفيسبوك لا تُراثَ عِشق في أمخاخهم الزرقاء؟ لم يقرؤوا شعر عروة، ولا استمعوا إلى الفارس عنترة، وهو يتذكر حبيبته عبلة وسط المعركة، والسيوف منه نواهل، وبيض الهند تقطر من دمه. هو لا يجزع، ولا يتحسب حتى لطعنة محتملة، تُرديه. بل يتذكر ثغر عبلة الباسم . ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني ***وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها **** لمعت كبارق ثغرك المتبسم ولماذا نقفز هكذا على شعر نبيل الصعاليك عروة بن الورد؟ هل ضاق كل شيء على شعر الحب؛ هل حرَّمتم حتى الاستشهاد به، كما حرمتم الحب في الفيسبوك. لا، ها هو يقول وعليكم الاستماع: خليليَّ مِنْ عُليَا هِلال بن عامرٍ، بصنعاءَ عًوجا اليوم فانتظراني أفي كُلِّ يومٍ أنت رامٍ بِلادها بعينينِ إنساناهُما غرقانِ ؟ ألا فاحملاني، بارك الله فيكما إلي حاضر الروحاء ثم دعاني ألِما على عفراءَ إنكما غداً بشَحط النوى والبين مُعترفانِ مُقاتلٌ في المعارك، وفي الحب؛ عاشقٌ فيها أيضا؛ يفنى فيها، ويفنى في حبه أيضا. ماذا نفعل الآن بكل هذا؛ حتى الفيسبوك لا يقبله منا. هل نحن محظوظون لأن لنا كل هذا الماضي؛ أم تعساء لأننا وحدَنا المرضى به. شبابُ الفيسبوك لا علاقة لهم بالمجنون، ولا بعُروة، ولا بعمر بن أبي ربيعة؛ حتى وهو يقول في نُعْمٍ أعذب شعر: فيالك من ليل تقاصَر طوله *** وما كان ليلي قبل ذلك يقصر ويا لك من ملهى هناك مجلس*** لنا لم يُكدره علينا مكدر يمُج ذكي المسك منها مُفلَّج***رقيقُ الحواشي ذو غروب مؤشَّر تراه اذا تفَتر عنه كأنه*** حصى برَدٍ أو اقحوان مُنور وترنو بعينيها الي كما رنا*** الى ربْربٍ وسْط الخمِيلة جُؤذر شباب الفيسبوك قلوبُهم خالية من كل هذا الماضي العاشق، المُتيِّم والمُتيَّم. لمن الآن سقط الشِّعر هذا؟ ومن يقبله منا؟ رفاتٌ هو، على الرغم من عذوبته، كرفات أصحابه، تذروه رياح الصحراء، في جزيرة لم تعد ترتفع بها غير المداخن الشاهقة. أكيدٌ أن شباب الفيسبوك لا علاقة لهم به؛ لا تاريخا، ولا محفوظاتٍ ولا ذكرياتٍ. قلوبهم خاليةٌ منه تماما. وحدنا نحن المثقلون بكل هذا التاريخ، في زمن عولمة الحُب؛ وهو غير الحب الذي نعرف. هم السعداء أم نحن؟ أكيد أنهم لا يطرحون حتى هذه الأسئلة؛ لأن الفيسبوك وقاهم من سذاجاتنا؛ رُبَّما. ووقاهم من التاريخ، وعروقه الضاربة في أعماقنا نحن، أبناء دواوين العرب. وهل يملكون جغرافيةً ما، ويعتبرونها أوطانا لهم؟ لا أعتقد، كلُّ خرائطهم يستغرقها الفضاء الأزرق، لونُ الكون؛ حيث لا وطن لأحد. أتحدث هنا عن الوطن، الذي ترمز إليه استدارة حرف الطاء، ورايتُها المرفوعة دوما. لا أتحدث عن الوطن الهُلامي الذي لونه أزرق كبعض ضفادع الغابات الاستوائية السامة. خرائطهم أوطانهم يحملونها في أذهانهم فقط. راحلون بأوطانهم حيثما حلوا؛ وهل للسلاحف بيوتٌ، غير التي فوق ظهورها؛ وهل لها تاريخ غير الذي يصنعه حاضرها السائر ببطء؟ يوهموننا بأن بوسع السلحفاة أن تسبق الأرنب، وهذا كذب . هم الأرانب ونهن السلاحف، في كون أزرق يجري لمستقر له، في حضارتهم هم. ألفُ صديق في ألف وطن، بدون وجَع الخرائط؛ فكيف يكون للقلوب موقعٌ في كل هذا؟ وهل يملك البحرُ الجُزرَ أم تملكه؟ من يستطيع اغراق الآخر؟ القوي هو الغالب وقت الغلبة؛ والشديد يكون بالصُّرَعَةِ. ومن لا وطن له لا تاريخ له، ولا لغة له. أي لغةٍ في الفيسبوك؟ أكيد أن الفيسبوكيين يتواصلون، لكن من خارج اللغة المُقَعدة. يتواصلون بحروف، ثم يبحثون لها عن معانٍ، فتشيع بينهم، يتناقلها هذا عن ذاك. يؤسسون لغةً جديدة، على هامش اللغات . لغات يرونها تموت وتموت، دون وجود من يفكر في إسعافها؛ فقط لتعاود سيرة الاحتضار ليس الا. لغة الفيسبوك زرقاء ومن أدمغة زرقاء . لو لم تكن هكذا ما استطاعت العيش في عالم بدون حب، بدون خرائط، بدون حِمَى، وبدون من يذود عنها. في الفيسبوك اختلط الحابل بالنابل.. هو الطوفان المعاصر، ومُحال أن تكون بعده إشراقةٌ للحياة، كما حصل مع نوح عليه السلام، وحمامته، التي اكتشفت بعض اليابسة، فهللت لها كلُّ الحيوانات في الفُلك مثنى مثنى. وبكى الإنسان العاقل، لأنه تذكر ملايير الهكتارات والجبال التي كان يمتلكها ولا ينتبه لروعتها. الآن وبعد أن فرح كل من بالفُلك لبعض الطين، العالق بمخالب الحمامة، تذكر الإنسان الأرض التي ضيّعها بفجوره. هل سنتذكر هذا بعد طوفان الفيسبوك، الذي لم يحمل معه الكائنات زوجين زوجين فقط، بل حمل البشرية جمعاء؛ وها هو تائه بها؛ إلى حيث لا يعلم إلا أرباب الفضاء الأزرق . هؤلاء العولميون الذين خططوا لكل شيء، وهندسوا كل شيء؛ حتى لا نعود القهقرى أبدا. هل سننتظر حمامة نوحٍ مرة أخرى، لا لتأتينا بطين من الأرض؛ بل بأبيات من حب ضيّعناه؛ ومن لواعج عشاق تتلمذنا على أياديهم. هل ننتظر منها وريقات من دواوين أشعار العرب لنفرح قائلين: الحمد لله لم يضع كلُّ شيء. هل ننتظر منها بعضا من نحو سيبويه، وقوافي الخليل، وبلاغة الجرجاني؛ لنعاود سيرتنا الأولى؟ وإذا قررت الحمامة ألاّ تعود أبدا إلى فضائنا الأزرق، التائه الآن في الكون، هل تضيع منا البوصلة نهائيا؟ أيتها الحمامة التي ستستكشف في المستقبل جوانب الفضاء الأزرق، التائه في فضاء الكون، بدون بوصلة: عودي إلينا ولو بقليل من حبنا الذي مضى وانتهى. عودي إلينا ببعض الوُريقات؛ من دواوين عروة وقيس وعنترة؛ وببعض أخبار "اليس وبينيلوب" و"روميو وجولييت". عودي إلينا ولو بفقرات من "ماجدولين" للمنفلوطي. ولا ننتظر منك شيئا من أعذب أشعار جبران خليل جبران؛ لأننا لا نستحقها في تيهنا الأزرق؛ ولأننا ضيعناها ضيعناها ضيعناها. عودي إلينا فقط لنعرف أننا ما زلنا في عالمنا الأرضي؛ أحياء نرزق. من عبلة وليلى، إلى سامية الزرقاء: يتبع