ميلاد مفكر مقالي هذا أعتبره، بأحاسيس الصّداقة ومعاييرها ولا يلومنّني أحد عليها أعتبره لحظة استثنائية، لأنها تشير وتؤشر إلى ميلاد كاتب ومفكر حقيقي، بغضّ النظر عن اتفاقي أو اختلافي مع اختياراته الفكرية وطروحاته. بعضكم سيعتبر أننا بصدد مدحية ممجوجة، ودعاية مجّانية من قارئ ناقد لصديقه الكاتب، ولكنني أسارع منذ البدء إلى التأكيد على أنني أختلف مع الأستاذ عبد السلام المنصوري في أمور كثيرة جدا، كلها تتعلق بالرؤية والمنهج وزاوية النظر. عقلانية الرؤية وصرامة المنهج تعرّفتُ على الصديق العزيز عبد السلام المنصوري صيف 1986، ومن يومها لم تنقطع العلاقة بيننا أو تفتر. قرأنا معا ونحن أطفالا سلسلة "المغامرون الخمسة"، و"الرجل المستحيل"، وتبادلنا ونحن مراهقين روايات أجاثا كريستي وأرسين لوبين ونجيب محفوظ ونجيب الكيلاني. ولكن الجد دشّناه ذات صيف عندما تعرّفنا على كتابات المودودي وسيد قطب ومحمد قطب وجبران و منير شفيق، لننتقل بعد ذلك للتعرف على كتابات حول الشيعة والتشيع يوم كانت مدينة طنجة، أواسط التسعينات من القرن الماضي، تعرف انتشار ظاهرة التشيع. بوادر الاختلاف بيننا سيبدأ يوم أن أعلن لي ذات مساء ونحن في الثانوية بأنه يقرأ لمفكر عظيم غير مسبوق ولا ملحوق اسمه مالك بن نبي، بينما كنت يومها أعتبره مفكرا لا يرقى لهذا الحكم الجَلَل، ولكننا اتفقنا بعد ذلك على عمق وثقل ما نقرأه عند الجابري وطه عبد الرحمن، كل هذا ونحن مازلنا في الثانوي. الهُوّة ستتسع بيننا شيئا فشيئا عندما اكتشف بانبهار شديد المفكر المصري حسن حنفي، وصدمتُه حينها عندما أعلنت له بأن حسن حنفي يمثل بالنسبة لي نموذجا للمثفف غير الصادق ولا الواضح مع قرّائه [قلت له بالحرف إنه كاتب منافق، وهذا الحكم تشكل لدي انطلاقا مما كنت قد قرأته له من أفكار خطيرة على المستوى العقدي في كتابه التراث والتجديد ]، بل أعلنت له بأنه يوظف موسوعيته في خدمة الإلحاد، واستشهدت له بنصوص كثيرة من كتابه ذاك. أما عندما ولجنا الجامعة فقد كان كثير التهكم عليّ عندما كان يجدني أقرأ كتابات في المناقب ومدونات التصوف مثل "التشوف إلى رجال التصوف". ولما بدأ يهتم بالتصوف ومكتوباته ظننت أن الرجل "هداه الله" وأبعده عن طريق العقلانية الجافة المجردة المتحجرة، فكتبتُ له إهداء خاصا في ثاني صفحة من بحثي لنيل شهادة الإجازة قائلا: إلى صديقي... المتشوف أخيرا إلى رجال التصوف. الباحث حديثا في "شجرة الأحوال والمعارف"... إلى صديقي عبد السلام... المقصد شريف والمنزع لطيف". لكني سأكتشف لاحقا أن اهتمامه بهذا المجال كان أكاديميا محضا، بينما كنت أتمنى لو أتعب نفسه قليلا ودخل طريق التجربة: اضطرارا أو اختيارا لا يهم. أما بعد صدور هذا الكتاب، الذي نحتفي به اليوم فقد تيقنت تماما أننا نسير على مستوى الرؤية والمنهج في الاتجاه المعاكس: عقلانية مقدسة من جهته، وروحانية ممزوجة بعقلانية من جهتي. لقد اتكأ في كتابه واستند على كل اسم عقلاني يخطر على بالكم من الشرق والغرب، دون أن يكلف نفسه عناء إيراد ولو اسم باحث واحد يدافع عن غير خياراته العقلانية. إن مصادر تفكيره الأساسية تجمعها اللائحة التالية: محمد عابد الجابري حسن حنفي عبد الجواد ياسين عبد الله العروي الحاج حمد عبد المجيد الشرفي جورج طرابيشي جان جاك روسو سبينوزا ديفيد هيوم. فما الذي تعتقدون أن يقوله هؤلاء في التصوف وقضاياه وخطابه؟ حدود العقل لماذا هذه المقدمة؟ لأوضح بطريقتي الخاصة أن الأستاذ الصديق المنصوري متشبع إلى النخاع ب"المنهجية العقلانية" الصارمة والمجردة، بل والمتعصبة، في حين أن قضايا كثيرة في هذا الكون: أشياء، مخلوقات، علاقات، معادلات... لا يستطيع العقل وحده اكتشافها، فما بالك بالوصول إلى كنهها. وكثيرا ما أقول له بالحرف :"إن هناك أمورا كثيرة في هذه الحياة لا تنتظر من أحد أن يعترف بها حتى تكون موجودة"، واقرأ إن شئت، ولكن بعقل متفتح وقلب شغوف لكل من جرب غير طريق العقلانية، يخبرك بأن مصادر المعرفة يوجد من بينها أيضا ما يسمى بالحدس والإلهام والكشف. ودعك من الذي يتبجح في كتابات لا حصر لها بأن "كل ما في الكون مادي" و"لا يعترف بوجود عالم غير مادي يعجز العقل عن إدراكه". استنجاد ولتدعيم موقفه العقلاني الصارم، وكما فعل الأستاذ محمود شاكر في كتابه الممتع والموسوم ب"أباطيل وأسمار" [وللإشارة فإن صديقي عبد السلام مغرم جدا بهذا الكتاب] استنجد الأستاذ المنصوري ببيتين لشيخ المعرة الشاعر المتأمل أبو العلاء المعري، فصدّر كتابه قائلا: هل صحّ من الحاكي قول فنقبلُه أم كل ذاك أباطيل وأسمار أما العقول فآلت أنه كذب والعقل غَرس له بالصدق إثمار طبعا الأستاذ المنصوري لم يصل في شكه وتشكيكه للمدى الذي بلغه أبو العلاء، ولكن بعض الإشارات الواردة في أعماق الكتاب، وكذا معرفتي بانشغالاته الفكرية الحالية ونوع الأسئلة التي يطرحها حول السيرة النبوية بالخصوص تشي بأن الرجل ذاهب بعيدا في هذا الاتجاه المخيف. إهداء وفاء من الكاتب لمن علمه المنهج، أهدى كتابه لأستاذين جليلين: الأستاذ عبد الله المرابط الترغي رحمه الله، والأستاذ عبد السلام شقور، وقد اعترف وأنا أعرف أنه صادق بأنهما صيرا طينَه جوهرا، وشيّدا من غباره كونا آخر. وهذا أدب جم، وتواضع مطلوب مع كل من علمنا الحرف، في وقت تنتشر فيه الدعاوى العريضة ، ونكران الجميل، والتطاحن، والحسد. موضوع الكتاب موضوع كتابنا بيّن واضح من خلال عنوانه، إنه تشريح ونقد ونقض وتفكيك لبنية الخطاب المنقبي، وحكمه على هذا الخطاب واضح بيّن أيضا، فمنهجه طلاق للعقل ومضمونه أوهام التاريخ: الوضوح منذ البداية، وهذا يحسب للكاتب. لكنه وهذا ما صرح به لا يستطيع أن يقف عند حدود ال"بنية" ولا عند حدود الخطاب المنقبي، لأن أمورا كثيرة تتشابك أثناء النقد والتحليل، لنجد أنفسنا أمام ضرورة التموقف الحاد من قضايا كثيرة، مثل: قضية الخطاب الصوفي ككل، وخاصة مسائل مخصوصة، مثل: الكرامة والبركة والولاية و قضية تدوين السيرة النبوية، بل وأمور كثيرة تتعلق بفهم معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ونوع قدسيته وحدودها. اللغة في الحقيقة، أكثر ما أعجبني، بل قل أكثر ما أبهرني، نوع اللغة والأسلوب اللذين كُتب بهما هذا المتن: أهنئك صديقي عبد السلام، فلغتك أنيقة جدا، وأسلوبك فخم زجل، ولن يغيب عن القارئ المتتبع ذلك التكامل البديع بين الأدبية والعلمية أثناء مناقشاتك وأحكامك، وكذا إيرادك الشاذ من الأوزان والاشتقاقات والمستخرجات. وهذا مرده أساسا لتنوع المجالات المعرفية التي تتابعها وتطالعها وتتشبع بها. لكن لدي اعتراض واحد في هذا الباب، وهو عبارة عن عتاب: كيف تؤمن نظريا، متبعا في ذلك أستاذك محمد شحرور، بأنه لا يوجد في اللغة العربية ما يسمى بالترادف، بينما أثناء كتابتك، تنسج على منوال خصمك خليل عبد الكريم، حيث كنت في جل صفحات الكتاب تبدع في إيراد الكلمات والمصطلحات المترادفة، الأمر الذي زاد في جمالية أسلوبك؟ المنهج من الأمور التي يمكن أن يؤاخذ عليها الأستاذ المنصوري أنه لم يقم بكتابة مدخل عام يوضح فيه نوع المنهج والرؤية التي سيتسلح بهما أثناء تشريحه للخطاب المنقبي، وكذا أهم مفاهيمه ومفاتيحه، كما يفعل مثلا الجابري. أما أنا فمع اختياره الرامي لعدم تسمية منهجه والقعود عنده، لأن ذلك كان ولاشك سيُكبّله ويعطل ماكينَة التحليل لديْه. قارئ الكتاب سيكتشف أن المؤلف دخل على النص المنقبي من أبواب متفرقة جدا: منها الأدبي ومنها السوسيولوجي ومنها السيميائي ومنها النفسي، مما أعطى لتحليله زخما وتركيبا. أما مفاهيمه/ مفاتيحه فكان يوضحها في بداية فصول كتابه ومباحثه، ويدافع على قدرتها التفسيرية أثناء التحليل، ويعيد التأكيد على كل ذلك في خاتمة كل مبحث وفصل. اشتباك لم يدّع الأستاذ المنصوري أنه يدشن قولا، أو أنه جاء بما لم تستطعه الأوائل، بل عمل أساسا على الاتكاء على العديد من المفكرين الذين سبقوه في تناول جل القضايا المطروحة في كتابه، والأهم من ذلك أنه عمل على الدخول في اشتباك مع مجموعة منهم، فناقشهم في طروحاتهم وأحكامهم، وانتصر في أحايين كثيرة لتقديراته الخاصة بطريقة الكبار، وكانت له الشجاعة والجرأة ليفند بعض تحليلاتهم إلا حسن حنفي فكان شيخه الأكبر ومرجعه الأسمى وسنده الأجل. في التحليل النفسي اعتمد على الباحث النفسي علي زيعور، وفي التحليل الأدبي اتكأ على الناقد المبدع عبد الفتاح كيليطو، وفي التحليل الرمزي استند على السيميائي محمد مفتاح، وفي التحليل السوسيولوجي وجد ضالته عند إبراهيم القادري بودشيش. خلاصات يقع الكتاب في حوالي 430 صفحة، ونشرته سنة 2017 مؤسسةٌ وجدت تناغمَ أطروحاته مع توجهاتها واختياراتها الفكرية والسياسية. وقسمه الباحث إلى ستة فصول بين مقدمة وخاتمة. الفصل الأول، وسمه ب" خصائص الخطاب المنقبي". قسم فيه الباحث الكتابة الصوفية إلى ثلاثة أقسام: الكتابة النظرية والكتابة الإبداعية والكتابة المنقبية، لكنه سجل ما سماه ب "تداخل الأنماط"، حيث تغيب الحدود بين هذه التقسيمات. وأشار إلى أن النوع الثالث، أي المنقبيات، هي الأكثر حضورا على مستوى الكم، لكنها الأضعف على مستوى النوع . بينما يعتبر النوع الثاني، أي الكتابة الإبداعية، فخر الخطاب الصوفي أجمع. ويلح على أن الخطاب المنقبي لم يكن وفيا لروح التاريخ، كما روج عن نفسه، أي أنه خطاب لا تاريخي. أما الفصل الثاني فقد عنونه ب" بواعث التأليف ومقاصد الخطاب". وفيه خلص الباحث إلى أن بواعث التأليف في الخطال المنقبي مردها إلى ثلاثة: البركة والاقتداء وإحياء الطريق، أي أنها بواعث غير علمية ولا موضوعية ولا منهجية، بل هي إيمانية تربوية إيديولوجية. والنتيجة، ضعف الخطاب المنقبي وقصوره وبعده عن الصلابة المنهجية، والصرامة العلمية، والتحقيق التاريخي. أما الفصل الثالث فسماه ب"طلاق التاريخ: من سيرة النبي إلى سيرة الولي". وفيه خلص إلى أن السيرة النبوية هي الأصل الموجه في كتابة كل السير اللاحقة في تاريخ الثقلفة العربية الإسلامية، أي أن سيرة الصوفي ما هي سوى محاولة استنساخ ومحاكاة لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت هذه النسخة حسب حكم الباحث باهتة وشاحبة بسبب المبالغات والتهويمات التي سقط فيها كُتاب المناقب، خاصة على مستوى الخطاب الكراماتي باعتباره معادلا موضوعيا لسلاح المعجزة النبوية. وفي هذا الفصل والذي أَعتبرُه بيانا ومقدمة مخففة لما يشتغل عليه الباحث حاليا أكد على أن كتابة السيرة النبوية عرفت تحولات تاريخية كبيرة، وكانت لإضافات المتأخرين نتائج وخيمة، إذ ستخرج بها عن حدود التاريخ إلى تخوم الأسطورة، وذلك بسبب ما يعتبره خوارق وغلوا في تقديس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الفصل الرابع، فقد وسمه ب"طلاق العقل: إمبراطورية الكرامات"، وفيه أكد على أن السبب في فتح باب الكرمات على مصراعيه في الحقل الصوفي إنما يجد مرجعه أساسا في فتح هذا الباب نفسه في السيرة النبوية، فكانت كرامة الولي بمثابة إعادة إنتاج لمعاجز الأنبياء. وقد حاول شيوخ الصوفية التقليل من شأن الكرامة في خطابهم النظري على حساب الإعلاء من قيمة الاستقامة، ولكن عند التدقيق في الخطاب المنقبي لا نجد سوى الكرامة. وفي هذا الفصل استدعى ببراعة عالم الرواية، ممثلا في ست روايات لامست عالم الكرامات والخوارق والمعجزات، وقامت بنقضها. وهي: الإخوة كارامازوف، والإغواء الأخير للمسيح، وزوربا، ورحلة بالداسار، وساق البامبو للسنعوسي، واسم الوردة. وفي الفصل الخامس، والمعنون ب"طلاق العقل: سير الأولياء وتاريخ الذهنيات"، ومتكئا على عبد الله العروي في كتابه "العرب والفكر التاريخي"، يشير الباحث عن طريق تحليل إشارات من متنين منقبين مغربيين وهما "سلوة الأنفاس" للكتاني، ودوحة الناشر لابن عساكر، إلى أن الدرس النقدي المعاصر يعتمد كثيرا على مثل هذا الخطاب لدراسة تاريخ الذهنيات، ومعرفة تصورها لقوانين الطبيعة وعلل الحركة التاريخية، وهو ما سماه ب"الرؤية الكرامية للوجود"، وفيها ترتد جميع الأحداث الكبرى، والتحولات التاريخية الجسيمة إلى علة واحدة، وهي الكرامة. الفصل السادس والأخير عنونه ب"طلاق المنهج: الإسناد الصوفي وأوهام التوثيق"، وفيه يكشف عن ضعف أسانيد الصوفية كافة، وكونها مجرد سلسلة شكلية فارغة، وجودها كعدمها. في نقد بعض مقولات الكتاب أثناء انشغاله بكتابه هذا، لم أكن أخفيه، كلما التقينا، تخوفاتي من بعض حماساته الزائدة التي تُولّد لديه، في بعض الأحيان، أحكاما قاسية غير مبنية بشكل متين، خاصة تلك التعليقات التي تأتي على هامش الموضوع الأصلي، ولكني بعد اطلاعي على الكتاب تاما كاملا، ذهبت تلك التخوفاتُ أغلبُها، وحلّ محلها اتفاقٌ معتبر حول تشريحه الموفق لبنية المتن المنقبي، وبقيت بعض الاعتراضات القليلة العدد، ولكنها تُحدث الفارق بيننا على المستوى الفكري. وهنا أورد بعضها: أورد الكاتب حُكما عظيما قال به علي زيعور دون أن يعلق عليه بالنقد أو المراجعة أو التعديل، مما يفيد تبنيه له، وهذا الحكم الصارم والصادم يدعي أن "أسوأ كارثة حلت بالذات العربية هي مسألة الكرامات". ولكن ما يُجمع عليه كل العقلاء من إنس الأمة وجنها أن أسوأ كارثة حلت بالذات العربية ليست الكرامات بل هي الاستبداد، وهو الذي دفع بالكثير من أبناء الأمة وفرقها للانعزال والابتعاد عن الشأن السياسي والاجتماعي، والهروب باختياراتهم الفهمية و التأويلية إلى مستقرات أنتجت من بين ما أنتجته: الخرافة والدروشة والمبالغة في الاعتماد على الرؤى والكرامات،أو قل أنتجت رؤية سكونية خرافية للكون. إن الذي يتحمل المسؤولية التاريخية التامة عن تخلف الأمة وتبعيتها ليسوا أصحاب الكرامات بل أولئك الذي عملوا عن وعي على تحريف تاريخ الأمة عندما قضوا على مسار تجربتها السياسية الجنينية واستبدلوا بها واقع الظلم والعسف والاستبداد. أما المتصوفة وفيما بعد الطرقيون فما هم إلا نتاج لذلك الواقع المأزوم. وقد حاولوا قد جهدهم، وقدر وعيهم على الحفاظ على جزء من الدين. يتذكر معي الأستاذ المنصوري لقاء عقد منذ سنوات قليلة مع الباحث المغربي المصباحي حول العلاقة بين الفلسفة والتصوف، وكان قد ختم محاضرته بدعوى عريضة، بل قل بادعاء سمج سمعه كل المشتغلين بالفلسفة في هذه المدينة دون أن يتشجع أحد لمواجهة هذا الزعم، قال حينها بأن "الحقيقة ابنة العقل وحده". وقد عبر لي الأستاذ المنصوري يومها عن امتعاضه من هذه المقولة المتشنجة والاقصائية، لكن يبدو أن السنوات القليلة الماضية كانت كافية لتقنعه بها، فنجده اليوم يقول في كتابه: "إن إصلاح الخطاب المنقبي يبدأ بالعودة به إلى أحضان التاريخ، والمصالحة مع العقل" [ص16]. ويقول أيضا: "تاريخ التصوف بحاجة إلى إعادة كتابة، كتابة تحترم قوانين التاريخ ونواميس الاجتماع" [ص 73]. ويتساءل قائلا :"كيف التوفيق بين العقلية الخرافية والأسطورية وبين فتوحات العقل العلمي الحديث؟". كل هذا وغيره يفيد عنده أن جميع المعارف والعلوم والتأملات والأفهام والتفسيرات ينبغي أن تكون منضبطة للعقل وآلياته ومنطقه وشروطه حتى تستطيع أن تكون علمية ومنتجة لحقائق، بينما نجد أحد كبار الفلاسفة المعاصرين، والذي أفنى عمره في الدفاع عن العلم والعقل والعقلانية، وأقصد به كارل بوبر، يصرح في كتابه البديع "أسطورة الإطار" قائلا: "ينبغي أن يتضح أمامنا أن موضوعية التقدم العلمي وعقلانيته لا ترجعان إلى الموضوعية الشخصية وعقلانية العالِم. العلم العظيم والعلماء العظام، شأنهم شأن الشعراء، كثيرا ما يستلهمون حدوسا غير عقلانية. [...] قد يُكتشف البرهان الرياضي بمحاولات لا واعية، مسترشدة بإلهام ذي طبيعة جمالية حاسمة، بدلا من أن يُكتشف بتفكير عقلاني". يقول الأستاذ المنصوري في الصفحة 170:"أما ما يتعلق بالتضخيم والغلو الطارئ على السيرة النبوية، فنستطيع التأكيد أنه يتعلق بالدرجة الأولى بأخبار الكرامات والخوارق، ثم بالغلو في تقديس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، بما يتعارض مع تعليماته ووصاياه ذاتها"، ويضيف في الصفحة 194 :" أن فيض المعجزات الحسية طارئ على السيرة، وليس من صميم الوحي والرسالة، بل تتناقض مع صريح القرآن، وتلغي منطق التاريخ". وقد أنكر على النبي مُتّبعا ثلة من المفكرين أمثال الشيخ حمد وجورج طرابيشي ومعروف الرصافي أن تكون له معجزات مادية حسية مثل شق الصدر وجريان اللبن من أصابعه وتكثير الخبز، واكتفى فقط بمعجزة القرآن الكريم والمتحققات التاريخية. إنه يكاد يكون نبيا بلا معجزات. نعم، نتفق بأن هناك إفراط وتضخم في إيراد المعجزات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم مع توالي تباعد الزمن، ومقارنة بسيطة بين المتون التأسيسية للسيرة النبوية والمصادر اللاحقة تبرز ذلك، حتى أن ابن تيمية اتهم القاضي عياض بالإكثار والمبالغة عندما علق على كتاب الشفا قائلا:" لقد غلا هذا المغيربي".