حصيلة ثقيلة من الجرائم والمخالفات تلك التي تم تسجيلها خلال سنة 2018، والتي كشفت عنها المديرية العامة للأمن الوطني، حيث وصلت إلى531ألف و161 جريمة، تنوعت بين قضايا المس بالأشخاص والممتلكات، التي بلغت نسبتها 45 في المائة من مجموع هذه القضايا. وبين جرائم السكر والسرقة والنهب والضرب والجرح والتهديد بمختلف الأسلحة البيضاء، بالإضافة إلى الاختطاف والاغتصاب والخيانة الزوجية والدعارة. لا يمكن فصل هذه الجرائم عن المحيط الذي تحدث فيه، حيث أن تدهور الأوضاع الاجتماعية و التحولات الاقتصادية، و تضاؤل فرص العمل و ارتفاع الأسعار، وارتفاع نسبة البطالة وأيضا تدهور مستوى التعليم والمنظومة الأخلاقية عوامل بدأت تشكل مع الفقر و الفراغ تهديدا حقيقيا للمجتمع. غير أن هذه العوامل لا يمكن أن تنفي أن البشرية عرفت الجريمة منذ القدم، ما جعل الكثير من الفلاسفة والمفكرين والعلماء يحاولون تفسيرها ودراستها والبحث عن دوافعها، في محاولة منهم للسيطرة عليها ولما لا الحد منها. ما يفرض البحث عن إجابات حول ماهية الجريمة، وطبيعة المجرم، و المجالات المتداخلة في تكوين عنصر الجريمة، وعن مسبباتها. إن رموز الفلسفة الحديثة التي جاءت لمقاومة الفكر الجنائي الذي ساد في العصور القديمة والوسطى في أوروبا من خلال رواد مذهب اعتبروا أن الجريمة شر يلحق بالمجتمع، ويتعلق الأمر هنا بالفرنسيين روسو و مونتيسكيو في القرن الثامن عشر، يضاف إليهما الفيلسوفان الألمانيّان رائدا النزعة الفلسفيّة النقدية إيمانويل كانط ومؤسّس المنطق الفلسفي الجدلي فريدريك هيجل،وهم جميعهم، أكدوا على ضرورة توفر شرطي الوعي وحرية الاختيار إلى جانب حدوث الضرر لقيام المسؤولية الجنائية. لقد عرف القرن التاسع عشر بروز نزعة وضعية عملت على تفسير مختلف الظواهر والمؤسسات الاجتماعية بأسباب مادية اجتماعية، أي أنها ليست روحية وليست متعالية غيبية، وكانت هذه النزعة وراء نشأة علم الاجتماع في أوروبا، وهي التي يطلق عليها في تاريخ الفلسفة اسم الوضعية الفرنسية، حيث أن صاحبها هو أوغست كونت ( 1798- 1857) وتلميذه إميل دوركايم ( 1858 – 1917 ) الذي ساهم في تأسيس علم الاجتماع وعلم الإجرام معا. وقد ظهرت أولى مبادئ تشخيص الظاهرة الإجرامية في علم الاجتماع الذي يستمد تصوراته من واقع نشأة الظاهرة الاجتماعية في وسط اجتماعي معين وارتباطها بنوع معين من المجتمعات وما يبدو عليه من مظاهر سلوكية وما يصدر عنها من قواعد ونظم اجتماعية كما أسس لها إيميل دوركايم في عدد من الدراسات التي تهدف إلى الكشف عن العلاقة بين الجريمة ومختلف عناصر البيئة الاجتماعية كالظروف الاقتصادية والسياسية والتركيب الطبقي للمجتمع ووسائل الإعلام والدين، اعتبارا بأن المجتمع هو الذي يصنع الفرد وليس العكس. في حين أن نظرية المجرم ولد ليكون كذلك للعالم تشيزري لومبروزو ( 1835- 1909) ،وهو أول من حاول الربط بين الشكل الفيزيائي للمجرم وطبيعة إجرامه، ليضع نظرية مثيرة للجدل، ويكون صاحب الفضل في نشأة المدرسة الوضعية في نظريات تفسير السلوك الإجرامي. والتي خلصت إلى وجود الصفات التي تميز المجرم، وتتمثل فى الوجه عميق التجاويف والذقن الصغيرة والأذرع الطويلة، والأذن الكبيرة والرأس والجبهة الصغيرة، كما تشمل البثور على الوجه وتجعيدات الشعر و مُفرط فى طول القامة أو قصرها لتُقسم المجرمين إلى عدة أنواع منها المجرم بالفطرة، الصرع، العاطفي، السياسي، تلك النظرية مثلت حجر الأساس في علم الأنثروبولوجيا الجنائية. لكن بعد عدد من الأجزاء التي تطرق فيها لومبروزو لنظريته أقر بعد ذلك في الختام بأن أسباب الجريمة، ليست حصرا على الصفات البيولوجية والسمات الجسدية، وإنما أيضًا شملت تأثير المناخ والطقس والمنطقة الجغرافية والتلوث المحيط بالمواطنين، أما على جانب الجريمة النسائية وممارسة أعمال البغاء فاستنتج على أنه لا توجد دلالات جسمانية فارقة على النساء لهذه الجريمة، موضحًا أن التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو أنها سلوك منحرف تقوم به بعض النساء، ولكي ينهي وابل الانتقادات، استبعد الجريمة السياسية من قائمة الجرائم الناجمة عن العيوب المتأصلة، وصنفها بأنها جريمة عاطفية. من جهة أخرى، إن فهم الجريمة من وجهة النظر السيكولوجية كان من خلال التقدم الذي أحرزه علم النفس وخصوصا الخطوات التي خطتها مدرسة التحليل النفسي وتقنيات أبحاثها، فكانت هناك دراسات رائدة مركزة على الشعور واللاشعور والكبت الناتج عن وجود صراع نفسي، وقد اعتبرت الجريمة تعبيرا عن طاقة غريزية كامنة في اللاشعور تبحث عن مخرج وهي غير مقبولة اجتماعيا، فقد تطرق علم النفس من خلال نظرية أن الجريمة سلوك منحرف، كثيرا ما يكون ناتجا عن عوامل نفسية مكبوتة في اللاشعور الذي يربطه سيغموند فرويد ( 1856-1939 ) بالرغبة الجنسية المكبوتة ،الليبيدو، والتي غالبا ما تكون سببا في اعتداء على الأشخاص وهتك للأعراض، ولا نستطيع أن نفصل ظاهرة الجريمة عن الأسباب أو العوامل المؤدية إليها، لأن الجريمة تحتاج إلى بواعث ودوافع تهيئ أسبابها النفسية، وتجعل النفس في حالة استعداد لارتكاب الفعل الذي يدخل ضمن دائرة الخطر، مدرسة التحليل النفسي أو النظرية الفرويدية حيث بدأ فرويد بالتأكيد على اللاشعور، وعلى ما أسماه بالدوافع اللاشعورية (القوية) وتأثيرها في سلوك الإنسان، وعلى أهمية مرحلة الطفولة المبكرة لدى الأفراد، وعلى الاضطرابات العاطفية والوجدانية عند الفرد، وعلاقتها بتفسير السلوك الإنساني، السوي منه والمريض على حد سواء. ولكنه ركز على مفعول امتدادات الاضطرابات اللاشعورية وتشعباتها في بروز أو ظهور الشخصية المريضة نفسيا، أو بروز و ظهور السلوك غير الودي، أو الشاذ أو الإجرامي. ولأن الجرائم كارثة مجتمعية متعددة العوامل وقودها دوافع نفسية، فإن الظاهرة أصبحت تربك المجتمعات، وبالتالي فالبحث عن سبل للدفاع عن المجتمع يدفعنا للتطرق لمنظور القانون في مكافحة الجريمة. يعرف القانون الجريمة، أنها كل سلوك فردي أوعمل أو تصرف مخالف لقاعدة من القواعد التي تنظم سلوك الإنسان في وسط اجتماعي، ومن تعاريف الجريمة أيضا أنها عبارة عن أي خطأ يرتكب ضد المجتمع ويعاقب عليه وبالتالي يستلزم جزاء، وهو ما تعرف عليه الإنسان في مختلف شرائع الأديان ، و شريعة حمو رابي التي تعد أول قانون وضعي إنساني يعرّف الجريمة ويضع العقوبة التي تقابلها. و يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية ويؤكد على أنه لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون. وللعقوبة أبعاد فالنظرية الجزائية اعتبرت أن الغاية من العقوبة هي إيقاع الجزاء على خرق القواعد الأخلاقية والقانونية أما النظرية النفعية فاعتبرت أن الغاية من العقوبة هي زجر الناس عن خرق القواعد الأخلاقية والقانونية كما أن هناك نظريه الإصلاح والتي اعتبرت أن الغاية من العقوبة إصلاح الجاني، أما الفكر القانوني الإسلامي فيجمع بين عناصر الجزاء ، والردع، والإصلاح. فالمبادئ الأساسية للقانون الجنائي الإقرار بأن الهدف الأول منه هو حماية المجتمع وأفراده من السلوك الإجرامي، وأن يضمن احترام القيم الإنسانية و حقوق الإنسان بمراعاة قواعد الشرعية والحرية الشخصية، كما يفترض ضرورة خضوع تفسير القواعد القانونية وتطبيقها إلى أسس وحقائق علمية تجريبية،مادام الهدف من القانون الجنائي هو حماية المجتمع وأفراده، وفي الوقت نفسه، لا ينبغي إنكار القيم الخلقية السائدة كالمسؤولية الأخلاقية في المجتمع. فقوة القانون وحدها لا تستطيع أن ترى كل جريمة ولا أن تتعقب كل مجرم وسيفلت منها الكثيرين بلا إثبات أو عقاب، إذن فإن علاج السلوك الإجرامي يجب أن يكون شاملاً محيطا بجميع الأسباب أي الجوانب الطبية العضوية والنفسية والاجتماعية، ما يمكن أن يؤدي إلى تحسن أو اختفاء هذا السلوك في حال إيجاد العلاج الملائم.. *طالب باحث في ماستر التواصل السياسي.