بمناسبة الذكرى الأربعينية لوفاته عندما يحاول المرء أن يخطّ بعض الكلمات لتأبين إحدى القامات العلمية الباسقة، والهامات الأكاديمية المنيفة من طينة الراحل سيدي محمد بنشريفة، أمطره الله بشآبيب رحمته، يجد نفسه مضطرا للبحث عن قاموس متميّز ينتقي منه عرائس المفردات، ويمتطي قلمه المرتعش صهوة الجواد، ليخطّ ما يشرّف الراحل، ويفي ولو بذرّة في حقه، ويرقى إلى شموخ عرش علمه الذي تربع عليه ردحا طويلا من الزمن. شاءت الأقدار أن أتلقى - وأنا خارج الوطن - بقلب مكلوم، ونفس منكسرة من فرط هول الفاجعة، نبأ وفاة الراحل. تسرب إلى مسمعي - دون استئذان - أن شمعة أخرى من شموع العلماء والأدباء والمؤرخين المغاربة قد انطفأت. نزل عليّ الخبر كالصاعقة في ذلك الخميس الأسود (22 ديسمبر 2018)، وشلّ لساني وارتفع سقف الذهول والحيرة، لأنني كنت عازما على زيارة الفقيد بعد عودتي مباشرة إلى المغرب لكي أبسط معه النظر في كيفية تنفيذ آخر أمنية كان يتشوق إليها رحمه الله. إنها أمنية عميد الدراسات الأندلسية وشيخ المحققين، وصاحب الأوسمة والجوائز العلمية، الأستاذ اللوذعي، الألمعي المفوّه، الحاذق المبرز، الفطن الزميت، الحجة في الأدب الأندلسي، الذي إذا نطق لا ينطق عن هوى، وإذا سكت لا يسكت عن حصر وعي. إنها أمنية الرجل المجاهد الذي جعل من الكتاب صديقا ومن القراءة صاحبا وأنيسا، فأفنى زهرة عمره معاشرا للمخطوطات، محققا لها، مفكّكا ألغازها والتباسات خطوطها، ومزيلا عنها ما تراكم عليها من أتربة الإهمال والنسيان. رجل غطس في عمق التراث الأندلسي، ومخض عبابه جيئة وذهابا، وحاصره بتساؤلاته واستفهاماته، ليستخرج منه دررا مستفرهة، وجواهر منتقرة، ولم يكفّ عن الغوص في قعره حتى وافته المنية. هي أمنية الباحث العصامي الذي استنطق حياة أعلام الرجال، فأضاءها بشعاع لامع، ودافع عن الهوية المغربية، واللغة العربية، فأماط اللثام عن آيات سحرها وجمالها، مما يجعله يستحقّ - دون مدافع - لقب "المعجزة الأندلسية". وإذا كان المشرق قد عرف المغرب الأقصى من خلال القاضي عياض، فمن الإنصاف القول أيضا إن لمعان اسم محمد بنشريفة وشهرته الكبيرة التي طارت في الآفاق، وبلغت عنان السماء، جعل هذا المغرب قبلة الباحثين شرقا وغربا، بفضل ما أنتجه من مصنفات رائدة، وما تخرّج على يديه من أساتذة وأعلام أصبحوا اليوم أوتادا منتصبة تعلو اليوم بفضلهم خيمة الدراسات الأندلسية. لا أروم في هذه الكلمات المختزلة الوقوف على اللحظات العلمية والذكريات الممتعة التي جمعتني مع الراحل كعضو مناقش لأطروحتيّ في السلك الثالث ودكتوراه الدولة، ثم كتلميذ/ صديق وأخ أصغر "مشاكس" أحيانا (وكان يحب مشاكساتي العلمية له)؛ فالمجال لا يسمح بإبراز أياديه البيضاء وسعة علمه وشموخ خلقه وتسامحه، لكني أسعى من خلال هذه السطور إلى استحضار أمنية كانت تراوده قبل أشهر قليلة من رحيله، وتتجلى في تأسيس "رابطة عالمية للباحثين في التراث الأندلسي". وهي آخر أمنية ذكر لي أنه يأمل تحقيقها قبل وفاته، وتمنى أن تكون رابطة دولية وليست عربية فحسب. كان ذلك في بداية شهر يونيو الماضي أثناء زيارتي بمعية ثلة من الأساتذة لمنزله العامر، ثم كرر، رحمه الله، علي الفكرة ذاتها في رسالة بعثها لي مع زميلنا الأستاذ الفاضل محمد البوزيدي، مؤخرا، مصحوبة بمجموعة جديدة من كتبه التي أصدرها كهدية لي، وذلك في شهر أكتوبر الماضي، قبل رحيله بحوالي شهرين ونصف تقريبا. أود أن أهتبل الذكرى الأربعينية لوفاة المأسوف على فراقه، المشمول برحمة الله سيدي محمد بنشريفة، لألتمس من أصدقائه ومريديه وتلامذته ومحبيه وعشاق كتاباته، أن يستحضروا هذه الأمنية التي كانت خاتمة حياته، فينتقلوا بها من مجرد أمنية علمية إلى فكرة مستوية على سوقها، وإلى ثمرة ناضجة مكتملة، تكون بمثابة لمسة وفاء للراحل، وهدية غالية تقدّم لروحه الطاهرة. ليرقد الراحل سيدي محمد قرير العين، مزهوا بنياشين منجزه المعرفي، وحصاد رحلته العلمية الطويلة، وزهده ونسكه في دهاليز البحث والتنقيب، وليتأكد أن أحباءه وأصدقاءه وخلفه الصالح سيحرصون على تحقيق أمنيته بعد تضميد جراح لهيب الفراق، لإحساسهم جميعا بثقل المسؤولية وإن غابت روحه، وإيمانهم بأن أمنيات رجال المعرفة وأوتاد الشموخ العلمي لا تموت ولا تنكسر حتى يتحقق الوعد المشرق. * أكاديمي ومؤرخ مغربي