للثقافة ولِما نرثُهُ عن سابقينا، ولِطرق التربية والتوجيه -الرسمية وغير الرسمية- بالغُ الأثر في تشكيل عقل الأمور، خصوصا ما يتعلق منها بعلاقاتنا الاجتماعية. وإن علاقات البشر الجنسية من أَوْلى ما اهْتمَّ به الإنسان وشَغَلَ البشريةَ قديما وحديثا، بشقَّيْها السلبي والإيجابي: السلبي: سواء فيه ما كان حقيقةً؛ بوسيلته الظلم والعنف والاتجار والابتزاز، وما كان مصطنعا بوسيلته الحِيَل والديماغوجية والوصولية. والإيجابي: سواء فيه العلمي التوجيهي، كما درج عليه نظريا مختلِف المفكرين والمربّين قديما وحديثا بكتاباتهم الشاهدة عليهم، وما هو متحقِّق عمليا، من ابتغاء السكينة بتحقق مطلق الشهوة، وكذا التناسل والتكاثر لبناء الحضارات والأمم. ومستحيل أن يحيط مقال مثل هذا بمتعدِّد قضايا العلاقات الجنسية التي تشغل حيّزا مركزيا في حياة البشر، وتترتّب عليها حقوق وواجبات وأحكام خالدة خلود البشر، فحَسْبُ المقال أن يَلفِتَ الانتباهَ بالتّحسيس والتوعية لما يسبّب الصدامات ويخلق النعرات، بأشكال تأويلية في حدّه الأعلى وبأشكال وصولية في حدّه الأدنى. على أنه إن تيسّر الأمر سأفرد هذا الموضوع بكتاب أو كتيّب، مادته العلمية متوافرة من زمان بحمد الله. هذا وما يجمع الناسَ من علاقاتٍ جنسية سلاحٌ ذو حدَّيْن، يُوظَّف تاراتٍ للتواصل والتكامل والتعايش، ويوظَّفُ تاراتٍ للتنابز والتشاجر والتخاصم. ويُهِمُّني هنا بالدرجة الأولى جانب التنابز والتشاجر والتخاصم، ذلكم أن دواعي هذا أحَدُ أمرَيْن: إما بسبب ما جُبِلَتْ عليه النفوس والطباع من نفورها أن تَرى غيرَها على حالة خاصّة من تلبية مطالب الجسد الجنسية، ومن أنانيتها بتستّرها على علاقاتها الخاصّة. وإما بسبب حسابات: قد تكون بحقّ يجيّش من خلالها الخصمُ كل مُتاحٍ لديه ليهزم به خصمه، وقد تكون بباطل حيث يصطنع المُغرِض ما يشوّه به غيره بالقدح في عِرضه، مُخْفِيا دواعي تهجّمه الحقيقية، من صراع فكري أو ديني أو سياسي أو غيره؛ ليجمع أكبر عدد ممكن من المتعاطفين، كي يحققوا له –بوعيٍ أو بغير وعي منهم- هَزيمَةَ خصمه، فلا يجد أقربَ وأسهلَ من ركوب مطية الدّعاية بالغمز في الجانب الجنسي؛ إذ أضحت هذه الدعاية مَرْكبةَ جميع المُغْرِضين في العالم في جميع التّخصّصات والمجالات، لدرجة أن رُصد لها جنودُها ومرتزقتُها المتخصّصون والمتخصّصات. وإن متعدِّد قضايا الابتزاز بتوظيف الجنس في محاكمنا المغربية دليل على هذا، إذ تُطالِعُنا صحف الأخبار -تقريبا يوميا- بهذا. وما أنا بصدده الآن من مسألة استبطان الاستنباط أقرّبُه بمجال نظري وآخر عملي: فلا يَخْفى نظريا ما للعلاقات الجنسية من شديد الصِّلَة بالجانب القِيمِي الخُلُقي من الإنسان الذي تؤطّره معتقدات المجتمعات وتقاليدها. وما نستبطنه مما هو مُستنْبَطٌ هنا ما اختلَف فيه السنّةُ والشّيعةُ من تنزيل حُكْم نوعٍ من أنواع الزواج في واقع كل منهما؛ إذ يرى أهل السنة أن زواج المتعة منسوخ بالسنة النبوية، في حين لا يرى الشيعة أن حِلِّيَّةَ المتعة نُسِخت، بل حِلِّيَّتُها باقية منذ أوائل العصر النبوي وساريةَ المفعول إلى الأبد. والذي أثارني في هذه المسألة التي كُتِبَ فيها الكثير وما يزال، من ردود علمية وأخرى انتقامية تنقيصية، هو عدم جرأة أهل السنة على القول بترتّب العقاب على المتزوج زواج متعة لشبهة العقد لورود حديث "ادرؤوا الحدودَ بالشُّبُهاتِ". لذا فما نستبْطِنُه هو عدم الطعن في أخلاق المتزوج زواج متعة من طرف أهل السنة؛ لأن غاية ردّ فعلهم هو فسخ العقد فقط نظرا لحكمهم عليه ببطلانه. ومسألة أخرى لا يرى فيها أهل السنة حرجا ولا تدنّيَ أخلاق، هي مسألة زواج المسافر، أو الزواج بنيّة الطلاق؛ إذ يتزوّج الرجل امرأة وفي نيّته أنه سيطلّقها بعد مدة محدودة، ولا تَعْلَم هي بنيّته تلك، وأهل السنة باجتهادهم في هذا الحكم يعلّلون بتلافي الوقوع في زواج المتعة إذا اتفق الطرفان على وقت الطلاق، فيُجيزون للرجل وحده تبييت نية الطلاق دون علم المرأة. وهذا وأمثاله مما دعا كثيرين بحقّ أن يستنفروا المرأة لولوج مجال الاجتهاد لتكملة هذا المشوار؛ حتى لا ينفرد الرجل بتعليل الأحكام وتنزيلها لصالحه. كما يُمْكِنُنا تقريب الأمر عمليا من خلال التنبيه في بعض العلاقات الجنسية على التفريق بين التعليل الشرعي والتعليل المدني للأحكام المنزَّلة في الواقع، وعلى مناسبة التعليل للمقصد المسوق من أجله، وأنَّ الحُكمَ يدور مع العلة وجودا وعدما. ومن المعلوم أن العلماء كتبوا كثيرا في تعليل الأحكام من خلال استنباط العقل لها من منطوق النصوص أو مفهومها، وهي بطبيعتها مُختلَفٌ فيها. فعلّة تغطية المرأة رأسَها مثلا هو تميّز الحُرّة من الأَمَة، وليس هو جمال المرأة وفتنتها للرجل، ومناسبة علة التميّز لحكم التغطية كان موافقا لمقصد الوحي في تحرير العبيد والإماء آنذاك، على أن كثيرا من الأحكام المنزَّلة في الواقع إنما تعليلها كان بحسب توافق أهل الزمان الحاصل بينهم، خصوصا علماءَهم ومفكّريهم، وخاضعة لأغراض المجتمع الذي يعيشون فيه، بأهداف إيجابية أخلاقية حضارية، وقد تَرِدُ أو لا تَرِد في نص من نصوص الوحي المعتمدة. وكما أننا أشرنا إلى هذا في تعليل انفراد الرجل بتبييت نية الطلاق دون المرأة في الجانب النظري الخُلُقي من العلاقات الجنسية، وتنزيل الحكم بهذا التعليل يفيد أنه ليس مطلقا ولا مقدَّسا، ويمكن تَجاوُزُهُ بالاجتهاد وإعادة النظر في تعليله وتنزيله؛ إذ كثير من التعليل هو فعل العقل البشري الفقهي، وقد اختلفوا منذ القديم في: هل الأحكام معقولة المعنى أم لا؟ فكذلك هنا في الجانب العملي من هذه العلاقات الجنسية، نركّز على التعليل وتنزيل الأحكام بحسب ما يتوافق عليه عصرٌ وأهلُ زمنٍ ما. فاستناد كثير من المتشبعين باتباع السُّنَّة وإحيائها إلى الطرق الشكلية والآليات القديمة لتوثيق العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة، مما كان يناسب زمانهم وطرق عيشهم، متوهّمين أن ما أُحْدِثَ من وسائل التوثيق العصرية بعد زمن "السلفية المباركة" بدعةٌ ولا يمتّ إلى السّنّة بصلة، يغفلون عن مسألة التعليل المدني الذي يتوافق عليه أهل زمن ما ليُنَزِّلوا أحكام معتقداتهم في واقعهم. وواهمون أن كثيرا ممّا توافق عليه علماء وفقهاء عصر ما هو مما لم يسبق له مثال قبلهم، واهمون أن توافقهم هذا هو عين الوحي والشرع، بوهمهم أن التعليل المدني البشري هو تعليل شرعي رباني. إن توثيق العلاقات الجنسية بالطرق الحادِثة والمعاصرة هي أضمن لحقوق المرأة من غيرها، وهي المؤصِّلة لفلسفة ومقاصد العلاقات الجنسية الحضارية. وإن من يدَّعي أنه بمجرد الاتفاق بين الجنسين بأي شكل من أشكال العُرْف ولو بقراءة الفاتحة، لا يميّزه عن الآخرين الذين يسمّيهم علمانيين وغير سُنّيّين بأي مُمَيِّز، فكلهم ربَط علاقة جنسية باتفاقٍ وتوافقٍ ما على الإخلاص في علاقاتهم تلك، ولو سمّاها بعضهم شرعية سُنّيّة وسماها البعض الآخر حداثية تحرّرية. فما فارقُ ما بين "أخ" يربط علاقة جنسية بمجرد الفاتحة، وبين "علماني" يربط علاقة جنسية باتفاق الإثنين على الإخلاص في تلك العلاقة، وقد تُتَوَّج علاقة كلّ منهما بعقد زواج وقد لا تُتَوَّج؟ ولهذا نجد مثلا مجموعة ما تعلن "الجهاد" وتسيطر مؤقتا على أراضي معيّنة، قد يُنَصِّبون أشخاصا يتكَلَّفون بتنظيم علاقاتهم الجنسية، وقد يتولّوْن هم أنفسُهُم تدبيرَ تلك العلاقات، كما يَحْدُث عند مَن يجعل هدفَ "جهادِه" سبيَ نساء وفتيات، والأمرُ نفسُه بالنسبة للمجموعات المهاجرةِ بلدانَهم الإفريقية نحو أوربا، ينهجون نفس النهج في مواقع تجمعاتهم كلما حلّوا ببلد ما موجود في طريق رحلتهم. إن التوثيق والتقنين المؤسسي -المستقرّ بأرشيف إداري- هو الكفيل بضمان الحقوق وتحديد الواجبات الباني للحضارات، وهو الضّامن لتنزيل الأحكام في الواقع بالاجتهاد بما يتوافق عليه أهل زماننا، مما يناسب واقعهم وتقاليدهم وييسّر سبل التعايش بينهم، خصوصا وأن نظام القبيلة والعشيرة لم يبق هو السائد في عالَم اليوم، بحدوده الضيقة وجغرافيته المعلومة لدى جميع الأفراد. وإن التنظيم المؤسَّسي لجميع علاقاتنا بقوانين نتوافق عليها بحسب ما يوحِّد فيما بيننا من معتقدات وهوّيّات، وبحسب ما ننسّق به لتعايشنا، هو الأنجع والأسلم لحياتنا أفرادا وجماعات، وإلا فلا حدود للهرج والمرج والفتنة والفوضى التي يمكن أن نغرق في أوحالها -لا قدّر الله-، إن تُرِك هذا الأمر لينظّمه بنفسه وبقناعته وبأدلته كلُّ مُنتمٍ لمنظومة عقدية أو فكرية أو جماعة ما؛ على أن الفيصل الحقيقي النهائي هو موازين القسط ليوم القيامة، حيث (إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمون) و(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيما كُنتُمْ فيهِ تَخْتَلِفون) وغيرها من ضوابط الفصل والتصنيف الحق. كما أن ما ورثناه من ثقافاتنا وتقاليدنا يتعلق بتصنيف الناس بحسب علاقاتهم الجنسية يحتاج إلى مراجعة متأنّية ودراسات متخصصة، تتضافر فيها جميع التخصصات العلمية فهي متكاملة؛ وهذا مفيد جدا في احترام التّخصّصات، لا ادّعاء وتوهّم أنّ كل واحد منّا يتقن التدخّل والتّوجيه في جميع القضايا والمجالات، ومِن ضمنِ ما يؤسّس لهذه المراجعة عَدَمُ انتقاء أحكام من التراث بحسن نية أو بهدف مُغرِض، من غير استحضارٍ للسياق العام الذي يَحكُمها ويُقيِّدها. ومما يمكن أن نربحه من هذا: عدم سقوط البعض -ممن اقتنع بالاستناد إلى توعية الناس بالأخلاق- في تناقضهم مع أنفسهم؛ إذ يتستّرون مثلا على مَن يسقط في علاقات جنسية "غير أخلاقية" من إخوانه في بعض الجلسات المخصَّصَة للنساء...، ليتحامل ويصير نقمة على من يسقط في نفس العلاقات ممّن لا يجمعه بهم انتماؤه، عوض أن يكون رحمة كما كان نبيّ الرحمة (رَحْمَةً لِلْعالَمينَ)، وهذا في حدّه الأدنى. وعدم سقوطنا في تلاعب غيرنا بنا، مهما كان هذا التلاعب والتبييت؛ بتأليب بعضنا على بعض بدعوى الفساد الأخلاقي المرتبط بالعلاقات الجنسية، لنزداد تشتّتا وتشرذما وتفرّقا، يمكّن ذاك الغير من إدامة تحكّمه فينا واستنزاف خيراتنا، وهذا في حدّه الأعلى. *جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس