توطئة: يحتفل العالم في 18 دجنبر من كل سنة باليوم العالمي للغة العربية، كمناسبة لتخليد نسق لغوي ساهم، كغيره من الأنسقة، في بناء المشهد الحضاري العالمي، وكان له دور لا يمكن لأحد أن ينكره في إغناء الفكر الإنساني، عبر ما نسج به من شعر وفلسفة وتاريخ واجتماع… أمام هذا الوضع الاعتباري الذي تتبوأه اللغة العربية، من الواجب تحصينها، وحمايتها من عداء المعادين، ومكائد الكائدين وتربص المتربصين؛ وهذا يفرض تغيير نظرنا نحو هذه اللغة، حتى نعيد إليها الألفة والحميمية، ونجعلها مرسخة في النفوس، وحتى يتبين بحق أعداؤها وخادموها الثقاة. 1- دواعي حماية اللغة العربية: لا تكتسب اللغة العربية شرعية الحصانة وحق الحماية، في نظرنا، إلا انطلاقا من الاعتبارين التاليين: - كونها إرثا إنسانيا، أغنيت به الحضارة الإنسانية أيما اغتناء. -كونها إرثا وطنيا، وغنيمة رمزية، امتلكناها، وعبرنا بها عن جوانب من تاريخنا، وساهمت في تشكيل رؤيتنا للعالم. إذا أخذنا بعين الاعتبار هذين العنصرين، أمكن لنا انتشال اللغة العربية من التهم والآفات التي تم تلفيقها بها. ونذكر من ذلك التهم التالية: تهمة التعالي: اللغة العربية، كغيرها من الألسنة الطبيعية، عبارة عن صوامت وصوائت، وأفعال وأسماء وحروف، لا تزيد عن غيرها من اللغات بشيء؛ صحيح أن لها خصائص دلالية وسمات تركيبية وطرقها في الاشتقاق والتوليد، إلا أن ذلك لا يعني أن لها أفضلية على أي لغة أخرى، فهي ليست الأقبح، كما أنها ليست الأجمل، وكل خطاب يعايرها فلا يعدو أن يكون أضغاث عواطف، "فلا تفاضل بين اللغات". ومن هذا الذي خبر جميع الألسنة في الأرض كي يفتي في أفضلها؟. تهمة القداسة: يجب الفصل بين اللغة كنسق مجرد، فارغ من أي خطاب، وبين الحمولة الثقافية التي يحتضنها، فاللغة متواليات وصافات تحمل خطابات أثناء اشتغالها، قد تكون من نمط الشعري الجمالي، أو من نمط الفلسفي، أو من صنف "المقدس"...إلخ، ولا يعني احتضانها للجمالي أنها الأجمل على الإطلاق، واحتضانها للفلسفي لا يدل بشيء على أنها أكثر سعة لممارسة التفلسف، كما أنه لا يعني احتضانها للمقدس، أنها لغة مقدسة. أن نسقط عن اللغة العربية آفة التقديس يعني أن نجعلها تنصت لروح العصر، تنبض بنبضه وتتحدث لسانه، يعني كذلك أن نعرضها للنظر العلمي الرصين، أن نطور مناهج البحث في سماتها، ونجدد في طرائق تدريسها، اهتداء بمعرفة العصر ومناهجها. تهمة الاكتفاء: تتعلق بتهمة التعالي والقداسة، لأن المفضلين والمقدسين للغة العربية يعتبرونها كافية شافية، جامعة مانعة. والحق أن الحاجة إلى الأنسقة الأخرى أمر يفرضه الواقع، فالانفتاح على أطياف الإنسانية يقتضي الاتصال بلغاتها، كما أن الاعتراف بالذات الوطنية يفرض الاعتراف بكل اللغات الوطنية وحمايتها وصيانتها. تهمة النقص: يعتبر بعض مناوئي اللغة العربية لغة ناقصة، وليست لها الكفاية لمواكبة العلم ومستجداته، وهذا حكم أطلق على عواهنه، ويفتقر إلى أدنى شروط الموضوعية، فالعربية لا تقل عن الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو غيرها من اللغات المستحوذة على المشهد العلمي؛ فهي تمتلك من آليات التوليد والاشتقاق ما يؤهلها للتعبير عن أي خطاطة أو معرفة علمية. 2- أعداء اللغة العربية: تبعا للاعتقادين السابقين يمكن تحديد الأعداء الحقيقيين للغة العربية، وهم الذين يتصفون بكونهم غير إنسانيين، وغير وطنيين، وغير علميين. وعلى الجملة فإن مناوئي اللغة العربية زمرتان: -أعداء صرحاء: وهم الذين يعبرون عن ذلك صراحة، وبدون مواربة، فيحملونها وزر فشلهم العلمي، وبها ينتقمون من نقيضهم الإيديولوجي، ويحاصرون غريمهم السياسي. وعلى هؤلاء الانتباه إلى ضرورة الفصل بين اللغة وما تحمله من خطابات. وأن تكون اللغة العربية قد حملت فكرا رجعيا أو متزمتا لا يعطي الشرعية لمعاداتها، ومعاداتها في هذه الحالة هي معاداة لما احتضنته من جماليات. وجميعنا نعلم أن الإنجليزية والفرنسية حملتا خطابا استعماريا وإمبرياليا، فهل يعني ذلك أن نعادي هاتين اللغتين؟. -الدعاة الأعداء: هم الذين يدعون الدفاع عن اللغة العربية، فإذا بهم يتحولون إلى خطر محدق يداهمها، وهم ثلاثة أصناف: دعاة جاهلون: هذه الزمرة تجهل اللغة العربية، فما بالك بسبل الدفاع عنها، خطابهم غير متماسك، وأدلتهم لا تقوم على بينة، تحركهم العواطف، ويلهبهم الحماس، ولقصورهم فهم يجعلون جرح العربية غائرا في غمرة دفاعهم عنها. دعاة راكبون: في الحقيقة، هؤلاء لا تهمهم اللغة العربية أبدا، هم يحققون بها مصالحهم، فيدعون، فيما يؤسسونه من إطارات وجمعيات، الدفاع عن اللغة العربية، بينما هم يرتكبون مجازر في حقها، يكفي الاستماع إليهم وهم يتحدثون بها، فترى في ألسنتهم عيا وحصرا ورطانة، وجملهم مليئة بالأخطاء..خطاباتهم كلها ارتجاج، وفي نصوصهم اعوجاج. دعاة معربون: هم أخطر أعداء اللغة العربية، لأنهم لا إنسانيون، وفي سعيهم إلى تعريب الأقوام وطمس الثقافات الأخرى يولدون نزعات مناقضة، تتخذ اللغة العربية عدوا غريبا يداهم حصونها، فتدفع إذن ثمن نرجسيتهم، وتحمل وزر عصبيتهم. 3-خدام اللغة العربية الثقاة: إن كثرة أعداء اللغة العربية لا تنفي وجود من يحمل همها بكل جوارحه، فخدام العربية الحقيقيون هم المشتغلون عليها/بها علميا، وهم مدرسوها المتفانون في تحبيبها للأجيال، بعبارة أخرى هم: -الباحثون في نسقها وبنيتها اللسانية، المنهمكون على نمذجة نظامها الصرف-صواتي والتركيبي والدلالي، استنادا إلى النماذج والنظريات اللسانية مختلفة المشارب. - الكتاب والمؤلفون الذين يبدعون باللغة العربية في مجالاتهم، ويعملون على نقل المعارف في اللغات الأخرى إلى اللغة العربية. - المدرسون الذين يعملون تحت وطأة الزمن من أجل ترسيخها في نفوس الناشئة. هؤلاء هم الحاملون بحق لرسالة اللغة العربية. خاتمة: إن اللغة العربية لغة أنتجتها الحضارة الإنسانية، ما يعني أنها لا تزيد ولا تنقص عن اللغات الأخرى بشيء، كما أنها غنيمة ظفرنا بها في لحظة تاريخية معينة، فتحولت إلى إرث وطني شكل -في جانب منه- وعاء ثقافتنا واحتضن رؤيتنا الجمالية والأخلاقية، بل ونظمنا الاجتماعية...من هنا تكتسب اللغة العربية شرعية الحضور، بعيدا عن أي رؤية تقديسية، وعن أي نظر إعلائي/تحقيري. ليبقى إذن النضال الحق من أجل اللغة العربية نضالا علميا غير استرزاقي ولا تدميري.