ودّع المجال الفني العربي والمغربي بالخصوص، أخيرا، أحد المبدعين الكبار، الذي عرف كيف يجمع بين الأصالة والحداثة، ليتميز على أترابه على مستوى الشكل إضافة إلى المضمون.. إنه الحاج حميد الزاهر، الذي لن نتطرق لحياته الشخصية، ولن نطلق عليه نعوتا أو أسماء وصفية، نلقيها عليه جزافا، كأن نقول الفنان الكبير المبدع رائد الأغنية الشعبية الأصيلة، لكن سنذهب مباشرة لكنه مضمون عمله الفني، لنضع في الأخير الأسماء الوصفية، التقديرية، التي استحقها الفنان فعلا، عبر عمله الفني، وعطائه الغنائي، الذي شهد شعبية كبيرة جدا، في زمانه وعبر أزمنة تلته، والتي ستستمر لتجعل منه أيقونة لا تموت. لامس حميد الزاهر رحمه الله، عبر الشكل والمضمون في أغانيه، عمق المجتمع المراكشي، ومن خلاله المغربي والعربي، لما لهذه المجتمعات من مشتركات ثقافية، وحضارية، ودينية. فعلى مستوى الشكل، نجد مجموعة أو توليفة من المغنيين والمغنيات، الذين لا يقتصر أداؤهم على الغناء فقط؛ بل يهتمون أيضا بالعزف والرقص، مما يحدث متعة بصرية للمتفرج، ففضلا عن اللباس التقليدي الأصيل، الذي ترتديه (المغنيات)، المشكل أساسا من القفطان المغربي الجميل المحتشم؛ فيما يرتدي (المغنون) الرجال الجلباب والقميص العصري والطاقية والبلغة المراكشية المعروفة باسم "لمتينة"، التي كانت تسمى في السابق ب"بلغة الفيل"، التي كانت تخصص للشطحات والركزة المغربية الأصيلة، إذ إنها كانت تساعد الرجلين على ضبط الإيقاع، في حين كان الفنان المبدع، رئيس الفرقة (المرحوم حميد الزاهر)، يلبس قميصا عصريا، ويعزف على آلة العود الأصيلة، والحديثة، والعصرية والعربية في الآن نفسه، وكانت في الفرقة التي كان المغاربة يخالونها جزءا من أسرهم، نساء ورجال، المتقدم منهم في السن والصغير، الكل بالمجموعة كان يغني ويرقص بعفوية، ويقدم شطحات مراكشيةأصيلة، وأخرى بلهلوانية، تبعث الضحك والفرح للمتلقي؛ لأن الفرجة والعملية الفنية، منذ فترة الثلاثينيات وإلى غاية التسعينيات، كانت تهم جميع أفراد الأسرة، التي كانت تجتمع حول التلفاز الوسيلة الوحيدة التي كانت تخصص في نهاية الأسبوع برنامجا خاصا للأغاني الشعبية للترفيه، وكانت فرقة حميد الزاهر تحظى بإقبال كبير، ما جعلها تلمس العمق الاجتماعي المغربي كما سبق القول. أما من الناحية الموسيقية التي تعطينا مضمونا منسجما وغنيا، فعلى مستوى الآلات التي استعملتها المجموعة، كانت آلات إيقاعية، تتميز ببساطتها وكونيتها كالاعتماد على الكف، وهي (وسيلة)، عريقة استعملها الإنسان في جميع الحضارات القديمة، من خلال (تصفيقات) بالأكف أنتج العديد من الأشخاص، إيقاعات منضبطة، كما هو الشأن بالنسبة إلى فرقة حيمد الزهير، التي ضبطت جملة من الإيقاعات المتعارف عليها مثلا في المغرب، كإيقاع انصراف القدام المعروف في مناطق الشمال، والدريدكة بناحية الخاصة بأهالي مدينة مراكش، والذي هو علميا 6/8 حيث يقوم أحدهم بدقة واحدة، والثاني يثني، والثالث يثلث، والرابع يوقع الزمن المعاكس،أي يقوم بعملية (الزواق)، وهذه مفاهيم يتقنها أهل الفن، وهناك أيضا آلة الدربوكة، التي هي من أصول شرقية، استعملها (المرحوم) في مجموعته، ليستهدف الحداثة، لأن لها تمييزا واضحا بين التفكيك وبين الضم، وهذا ما يحقق إيقاعا واضحا ورصينا، ومن الآلات التي استعملتها المجموعة أيضا، الطر الكبير، والصغير المغربي الأندلسي، الذي له خصوصية في الإيقاع أو في العزف. ويحتفظ الحاج حميد الزاهر، وهو يؤدي أغانيه، بآلة العود، التي وإن عرفت في جميع بقاع العالم العربي، بالخصوص في المغرب، إذ تأخذ خصوصية على مستوى الشكل، والأوتار والعزف، وعلى الرغم من استعماله اللحن والطرب، استعملها المرحوم ببراعة كبيرة جدا، للعرض على مستوى الحفلات، في داخل القاعة، أو خارجها؛ فعزفه عليها كان رصينا ولعله استعملها، لأنها تقوم بدورين فهي في الوقت نفسه تقوم بأدوار نغمية، أي أنها تصدر أنغاما، وفي الآن نفسه، تقوم بدور إيقاعي، وبالتالي، يمكنه القيام بهذه الدورين: الأول يتمثل في مصاحبته اللحن الغنائي، والثاني مصاحبته لرفقائه في الإيقاع. أما مرددو مجموعة حميد الزاهر، فكانوا يقومون بعمل الكورال، وكذلك بالعزف والرقص وإصدار نكت غنائية شعبية، كان يترقبها الجمهور المتفرج بشغف كبير، وكانت (المغنيات) المرددات يعطين للصوت الجماعي حضورا وحداثة ل(الفنانة) للمرأة المغربية الراقية، ونصل إلى الشطر الأخير في العملية الفنية، ألا وهي عملية اختيار المواضيع وطريقة تناولها، وبراعة اللحن الخاص بها، ودقة الأداء، كل ذلك يندرج فيما اصطلح عليه بالسهل الممتنع، حيث أحسن وأبرع المرحوم في تناول جميع الأشكال التراثية المراكشية، وأعطاها نفسا قويا، جعلها تصل إلى بلاد الصين، حيث استطاع ببراعته الرائعة أن يغني الفرحة والاحتفالية، وهذا ما لا يحسنه الأغلبية من الممارسين والفنانين، الذين يجمع أغلبهم على أنها أهازيج أو فن شعبي أصيل، فيما نقول نحن إنها أغان إبداعية مغربية أصيلة، استطاع من خلالها الفنان أن يلامس الثقافة المغربية العريقة، منطلقا من الفلكلور المغربي، الذي من الممكن أن نطلق عليه تسمية الفن الشعبي الأصيل، لذا نؤكد أن أغاني حميد الزاهر هي أغان مغربية محضة، اعتمدت على الإيقاعات المغربية الصرفة، في جميع أغانيه بصفة عامة. أما من ناحية أدائه لأغانيه، فكان يتمتع بصوت عذب جميل، يتسرب من خلال ابتسامته الوديعة الجميلة إلى المتلقي نفسه، الذي وجد فيها استحسانا كبيرا، خاصة أن مواضيع أغانيه كانت تهتم بالمرأة المغربية المحافظة المتطلعة إلى المستقبل كأغنية "للافاطمة، عار ربي غير كليمة" وأغنية "أنا عندي ميعاد هذا سر منقول لحد". أما من حيث ألحان المرحوم حميد الزاهر، فهي ألحان إبداعية مبتكرة، اعتمدت مقاما تمتعا رفع ليها مع إضافة المقام المغربي الخماسي؛ فهي تجمع بين الجمل الشعبية المغربية، التي تتميز بعراقتها وقدمها، والتي تقتصر على السؤال والجواب، والتي جعلها المرحوم طربية تلامس اللحن الشرقي العربي، وبذلك تكون قد لامست بحق الأذواق التي كانت آنذاك متفرقة بين ما هو شرقي "محمد عبد الوهاب، أم كلثوم..."، وما هو شعبي فلكلوري، أي أنه جمع بين المدرستين في شكل بسيط ممتنع". كما استعمل حميد الزاهر، المراكشي الأصيل، ابن جامع الفناء، جامع الأهازيج الفلكورية، التي تأتي في مقدمتها، موسيقى "كناوة"، ليصدر بعض أغانيه، التي شهدت شهرة كبيرة جدا،بحيث كان من الأوائل،الذين قاموا بهذه العملية، حيث تغنى ب"كناوة" بآلاته العصرية، المتكونة من "آلة العود، والدربوكة"، في زمن كان يعتبر فيه ذلك من المستحيل نوعا ما.