إذا كانت مدن كمراكش تقترن بساحة جامع الفنا التي وصل صداها الآفاق، والحاضرة الإسماعيلية "مكناس" تتفرد عن غيرها بجمال ورونق "باب منصور لعلج" و"ساحة لهديم"؛ وإذا كانت "فاس" العتيقة تسمو بجامع القرويين و"الدارالبيضاء" تذكر بمسجد الحسن الثاني فإن "المحمدية" اقترن اسمها منذ سنوات بلقب "الزهور" (مدينة الزهور)، وهو لقب يختزل ما كانت تتمتع به المدينة الراقدة في صمت ضواحي العاصمة الاقتصادية من خضرة وماء وحسن وبهاء وجمال ... والمناسبة تقتضي فتح ملف "المحمدية" التي عاشت على الأقل خلال السنتين الأخيرتين على وقع أزمة مستشرية داخل "المجلس الجماعي"، حركت دواليبها صراعات خفية ومعلنة بين الأغلبية والمعارضة، غذتها حسابات "سياسوية" ضيقة ومصالح شخصية. ولم تتوقف عجلة "الجدل السياسي" عند البيت الداخلي، بل امتدت إلى الإعلام والرأي العام المحلي، قبل أن تتوقف عنوة عند "القضاء" الذي أصدر حكما يقضي بعزل الرئيس "حسن عنترة" عن حزب "العدالة والتنمية". ودون النبش في حفريات الأزمة التي تشكل مرآة عاكسة لواقع تدبير الشأن المحلي في كثير من الجماعات الترابية، ودون الخوض في ظروف وملابسات الحكم القضائي الذي سحب البساط من تحت أقدام رئيس الجماعة، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو تجاوزها أن الأزمة أرخت بظلالها على المدينة التي دخلت في متاهات التراجع والإهمال، بشكل انتقلت معه من "أريج" الزهور إلى "ألم" الأشواك... تراجع وإهمال ساهم بشكل مقلق في ذبول ملامح وجه مدينة اقترن اسمها خلال سنوات عابرة باسم "الزهور" التي اختفت في صمت، تاركة مدينة استسلمت عنوة لمفردات "التراجع" و"الإهمال" و"الرتابة" و"العشوائية"و"الهشاشة"، و"غياب الجاذبية" و"ارتفاع منسوب الجريمة"؛ وهو واقع مثير للخجل، يسائل مختلف المسؤولين المحليين الذين تعاقبوا على تحمل مسؤولية تدبير الشأن المحلي على امتداد السنوات. ولتشريح حقيقة هذه الصورة القاتمة، تم القيام بجولة استطلاعية تفقدية عبر أهم شوارع وأحياء ومرافق المدينة، وأمكن تسجيل الملاحظات التالية: أن الشوارع الكبرى للمدينة، خاصة "المقاومة" و"محمد السادس" (الرياض) وشارع "سبتة" (في اتجاه جماعة بني يخلف)، وصلت إلى درجة لا تطاق من الإهمال والرتابة على مستوى ضعف الإنارة العمومية وتقادم أعمدتها وعشوائية الأغراس المتناثرة واهتراء الطرق وتهالك الأرصفة، خاصة بشارعي "المقاومة" و"سبتة"، وغياب شروط الجاذبية في جل إن لم نقل كل "المدارات الطرقية" التي تكتسحها الأعشاب والحشائش والنباتات الطفيلية (مدارة ملتقى شارع الرياض وزنقة تادلا نموذجا). والملاحظة المثيرة للاستغراب أن كل الشوارع الرئيسية بما فيها شارع "الحسن الثاني" تغيب عنها "النافورات العمومية"، ماعدا واحدة منتصبة منذ سنوات على مشارف "كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية" لا تتحرك مياهها الراكدة إلا في المناسبات الرسمية، ما يجعل منها شوارع فاقدة للحياة مثيرة للاشمئزاز والكآبة، لا يتم النظر والالتفات إليها إلا بمناسبة الزيارات الملكية. حتى إن الكثير من السكان الذين تم استجوابهم يستنكرون الحالة التي وصلت إليها شوارع المدينة، وبعضهم لم يتردد في القول إن الشوارع والأحياء المحظوظة هي التي تحظى بشرف الزيارات الملكية أو مرور الموكب الملكي، إذ تتم الالتفاتة إلى حالها من قبل المسؤولين المحليين، وتنفض عنها غبار الإهمال والرتابة ولو للحظات عابرة. من خلال الجولة التفقدية، تم التوقف عند عدد من التجزئات السكنية التي استكملت أشغال تهيئتها وتجهيزها من شبكة الماء والكهرباء وشبكة التطهير والإنارة العمومية والطرق والأزقة والأشجار والأرصفة والمدارات الطرقية، لكنها لم تعرف بعد أي انطلاقة لأشغال البناء، كما هو الحال بالنسبة للتجزئة السكنية المحاذية لحي الفلاح والراشيدية 3، والممتدة من مستوى شارع "محمد السادس" إلى حدود الطريق السيار، يضاف إليها "تجزئة الوحدة"، حيث كان يرقد "دوار الشانطي" الصفيحي، والتي زحفت عليها النباتات الطفيلية وركامات الأتربة والأزبال، رغم انتهاء أشغال تجهيزها منذ مدة؛ وقد استبشرت ساكنة الحي المقابل لها (حي الفلاح) خيرا بعدما عاينت انطلاق أشغال بناء بعض البقع الأرضية (خمس بقع أرضية). وهكذا تجزئات سكنية تشكل مرتعا خصبا للمنحرفين من متعاطي السرقات ومدمني الخمر والمخدرات، وأماكن للتخلص من الأزبال وركامات الأتربة، وهو الوضع يسائل بقوة المسؤولين المحليين عن عدم إعطاء الضوء الأخضر لانطلاق أشغال البناء في التجزئات السكنية التي استكملت أشغال التهيئة والتجهيز، ما يساهم في ركود الحركة التجارية وتعطيل آليات مختلف المهن والحرف المرتبطة بأشغال البناء. ورغم المجهودات المبذولة في سبيل الحد من السكن العشوائي والقضاء على مدن الصفيح، فقد تمت معاينة مجموعة من أحياء الصفيح التي لازالت حاضرة في مشهد بعض الشوارع الرئيسية، كما هو الحال بالنسبة لكاريانات "البرادعة" و"الشحاوطة" و"المسيرة" التي تتربع على امتداد شارعي "المقاومة" و"محمد السادس"، و"براريك" أخرى لازالت متناثرة كالفطريات على مستوى شارع سبتة (المقطع المتواجد على مشارف مدخل ومخرج الطريق السيار)، دون إغفال "كريان دوار شريفة" المتربع في صمت على مشارف الحي الصناعي، ما يعمق من الأزمة الحضرية التي تزداد تعقيدا في ظل حضور ظواهر مشينة من قبيل انتشار ظاهرة الباعة المتجولين وأصحاب الأكلات الخفيفة، الذين يحتلون نقطا متفرقة في بعض الشوارع الرئيسية (شارع محمد السادس نموذجا)، والعربات المجرورة بدواب والكلاب الضالة والحيوانات الأليفة، من أغنام وأبقار، وخاصة الحمير والبغال التي تتنقل في الشوارع بدون حرج، ولا يتردد بعضها في الاقتيات من الأعشاب والحشائش المتناثرة على مستوى المدارات الطرقية. تضاف إلى ذلك معاينة مجموعة من المتشردين الذين ساقهم قدرهم إلى المدينة، حيث ساروا جزءا لا يتجزأ من "مورفولوجية" المجال الحضري، بعضهم يقتات من قمامات الأزبال والبعض الآخر يتسول المارة. وهؤلاء من الممكن أن يعرضوا الغير إلى الأذى، ويمكن أيضا أن يكونوا بدورهم موضوع اعتداء من قبل بعض المنحرفين، كما حدث قبل أشهر بإحدى الغابات المجاورة للمدينة، حيث تم قطع رأس متشرد من قبل منحرف ينحدر من "دوار شريفة"، وهي الواقعة التي اهتز لها الرأي العام المحلي والوطني. دون نسيان الحالة المزرية لمنطقة "المصباحيات"، حيث يتواجد سوق الجملة، والتي تعيش على وقع الإهمال والنسيان شأنها في ذلك شأن الغابة المجاورة لها (غابة المصباحيات)، إذ سارت ملاذا للمنحرفين والمتسكعين، ما يفرض توجيه البوصلة نحو المنطقة، التي ستشهد لاحقا افتتاح "قنطرة" تربط "شارع محمد السادس" بشكل مباشر بمدخل ومخرج الطريق السيار "الدارالبيضاءالرباط". أما على مستوى الحدائق وأماكن الراحة والترفيه، وباستثناء الحديقة المجاورة لمحطة القطار على مستوى شارع الحسن الثاني، والحديقة المعروفة وسط الساكنة المحلية ب"البارك"، فقد تبين من خلال الجولة التفقدية أن المدينة تفتقر إلى الحدائق العمومية، وحتى ما تواجد منها فهو يعيش حالة من الإهمال والرتابة، كما هو الحال بالنسبة لحديقة الوحدة التي تحتاج إلى تهيئة جذرية، شأنها في ذلك شأن حديقة الرشيدية3 (على مستوى دائرة الشرطة الرشيدية)، ما يحرم الساكنة المحلية من فضاءات تستجيب لشروط الراحة والاستجمام. وتمتد معالم الهشاشة إلى ظاهرة البيع بالتجوال التي "استعمرت" بعض الزقاقات بكاملها، خاصة بالسوق الشعبي المعروف لدى الساكنة المحلية ب"الجوطية"، و"سويقة" الكائنة بحي "النصر" و"الراشيدية3"، حيث تحضر العشوائية والتسيب واحتلال الشارع العام، ما يربك حركية السير والجولان، في غياب تام لأي مراقبة من جانب المصالح المعنية، دون إغفال بداية زحف بعض الباعة المتجولين (الفرّاشة) وبائعي الأكلات الخفيفة على نقط مختلفة من شارع "محمد السادس"، ما يدق ناقوس الخطر بقوة حول مستقبل هذا الشارع الرئيسي، ويفرض على مدبري الشأن المحلي اتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات قصد استئصال الظاهرة في مهدها قبل استفحالها، لما لذلك من تأثيرات على مستوى رونق وجمالية المدينة. وقبل ختام الجولة أمكن الوقوف عند مداخل ومخارج المدينة، وتبين أنها بدورها تعكس أزمة مدينة غارقة في أوحال الإهمال، وهي في حاجة ماسة إلى المزيد من التهيئة والاهتمام لأنها تشكل مرآة عاكسة لوجه المدينة بالنسبة للزوار أو العابرين، خاصة مدخل ومخرج الطريق السيار (بني يخلف)، حيث لا مناص من إعادة الاعتبار لشارع سبتة الذي يعيش وضعية مزرية مثيرة للقلق والخجل، شأنه في ذلك شأن المداخل والمخارج المرتبطة بشارعي "الحسن الثاني" و"محمد السادس". وهنا لا مناص من الإشارة إلى ظاهرة مقلقة آخذة في التنامي والانتشار، ويتعلق الأمر بظاهرة التسول في صفوف بعض المهاجرين المنحدرين من بلدان إفريقية جنوب الصحراء وبعض السوريين، حيث يتخذون من الشوارع الرئيسية والمدارات الطرقية المرتبطة بها أمكنة لممارسة التسول وتوسل سائقي السيارات والمارة على حد سواء، ما يعمق أزمة المجال الحضري. أما على المستوى التعليمي، فيتبين من خلال واقع الممارسة أن مجموعة من التلاميذ بثانويتي "العاليا" و"الجولان" التأهيليتين ينحدرون من أحياء بعيدة من قبيل "رياض السلام" و"النهضة"، وبعض الأحياء الحديثة المجاورة لهما، وهذا الواقع يفرض عليهم قطع مسافات طويلة كل يوم مشيا على الأقدام من مقرات سكناهم إلى مؤسساتهم التعليمية، ما يجعلهم معرضين إلى خطر الطريق. وحتى من يستعمل النقل الحضري (على قلته)، فهو مرغم على التعايش مع مشاكل النقل لقلة الحافلات وتأخراتها وحالة الازدحام التي تكون عليها، وهي ظروف تنعكس سلبا على مستوى العطاء والمردودية، فضلا عن التأخرات والغيابات عن الحصص الدراسية. وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى بناء "ثانوية تأهيلية" تستوعب تلاميذ أحياء النهضة ورياض السلام والأحياء الحديثة، تفعيلا وتكريسا لمبدأ "تعليم القرب" على أرض الواقع. نهاية الجولة التفقدية قادتنا إلى ساحل المحمدية الممتد من شاطئ المركز إلى شاطئ "السابليط"، وتبين بالواضح أنه لم يسلم بدوره من مظاهر التسيب والعشوائية، بعدما زحفت عليه مجموعة من المباني (فيلات، إقامات سكنية، مساكن ثانوية "كابانو"...)، إلى درجة أن بعضها تفصله أمتار عن الشاطئ، وهذا يسمح بإثارة ملف مختلف المباني المتواجدة على امتداد شواطئ المدينة بين شاطئي "المركز" و"السابليط"، والتي يشكل بعضها مسا صارخا بالملك البحري وتطاولا على حق المواطن في التمتع بشواطئ تستجيب لشروط النظافة والنظام والراحة واحترام البيئة، من حيث مدى قانونية البناء بمحاذاة الشواطئ، ومدى احترام قوانين وضوابط التعمير. وفي جميع الحالات فزحف "الإسمنت" على السواحل لا يمكن قبوله أو التطبيع معه، لما له من آثار وتداعيات على المنظومة البيئية ذات الصلة بالساحل، وهي فرصة لإثارة ما تعرفه شواطئ المدينة من فوضى وعشوائية، خاصة خلال مواسم الاصطياف، سواء في ما يتعلق باكتساح "المظلات الشمسية" المعروضة للكراء، أو انتشار حراس السيارات كالفطريات، وبعضهم يفرض أثمانا مبالغا فيها، دون إغفال الحالة المزرية التي تكون عليها بعض الشواطئ (شاطئ "مانيسمان" نموذجا)، ما يفرض تبني مقاربة شمولية للنهوض والارتقاء بشواطئ المدينة على المستوى النظافة وجودة الخدمات والأمن والسلامة والترفيه ...إلخ. مجموعة من السكان المحليين الذين أتيحت فرصة اللقاء بهم بمناسبة إنجاز هذا التقرير عبروا عن آمالهم العريضة في أن تسترجع "المحمدية" مجدها الراحل كمدينة للزهور، وهذا المطلب المشروع لايمكن أن يتحقق على أرض الواقع إلا بتذويب جليد الخلاف والشنآن بين مكونات المجلس الجماعي (الأغلبية والمعارضة) وتجاوز الحسابات "السياسوية" الضيقة واستحضار المصلحة العليا للمدينة وساكنتها، ثم نفض غبار الرتابة والإهمال المعششة كخيوط العناكب في شوارع المدينة، خاصة الرئيسية منها (الحسن الثاني، المقاومة، محمد السادس، سبتة)، من خلال إعادة النظر في الإنارة العمومية وتبليط الأرصفة المتهالكة وتعبيد الطرق والاهتمام بالأغراس وتهيئة المدارات الطرقية والحدائق العمومية وتعزيز قطاع النظافة والاهتمام بملاعب القرب وغيرها. والساكنة المحلية ممثلة في النسيج الجمعوي المحلي لا بد لها أن تشكل "قوة ضاغطة" أمام المجالس المنتخبة، وأن تبلور مشاريع وبرامج تستجيب لحاجياتها وتطلعاتها، وتدافع عنها أمام من يتحملون مسؤولية تدبير الشأن المحلي، في إطار احترام المؤسسات وما تتيحه القوانين ذات الصلة. هكذا إذن تبدو مدينة "المحمدية" اليوم، مدينة لقبت ذات يوم بلقب "الزهور"، وهو لقب حامل لمفردات "الرقي" و"البهاء" و"النظام" و"الخضرة" "والأشجار" و"النخيل" و"الماء" و"الوجه الحسن" و"البحر" و"السحر" و"الجمال"...مفردات استسلمت عنوة لجبروت "الإهمال" و"الرتابة" و"الفوضى" و"التسيب" ، محولة وجه "فضالة" المشرق إلى وجه "شاحب" فعل فيه الزمن فعلته، فحوله إلى "تجاعيد" تحكي قصة "مدينة غرقت في "عبث" السياسة والمال..مدينة لم يتبق من "زهورها" إلا "الاسم" ومن "مجدها" الراحل إلا "الأزمة" و"الركود" و"الانحطاط"..فعسى أن تتحرك "المياه الراكدة" وتتحرك معها "السواعد المواطنة" القادرة على إعادة الحياة لمدينة في "احتضار" والأمل لساكنة في "انتظار" ... *كاتب رأي، أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي (المحمدية)، باحث في القانون وقضايا التنمية. [email protected]