لقد حققت الشعبوية المغربية متمثلة في حزب العدالة والتنمية نجاحات خاطفة في العقد الثاني من هذه الألفية. وشكلت هذه النتائج مفاجأة للجميع في الاستحقاقات الانتخابية، ولا سيما بعد ما اصطلح عليه بالربيع العربي. ولعل الغريب في الأمر أن حزب العدالة والتنمية لم يكن طرفا في الاحتجاجات التي قادتها حركة 20 فبراير، التي حوت أطيافا سياسية ومجتمعية متنوعة شملت جماعة العدل والإحسان، ويساريين، وشباب وشيبا يريدون محاربة الفساد والظلم، وتطوير مستواهم المعيشي. فما هو سبب نجاح الشعبوية المغربية؟ وما الذي أدى إلى أفولها المفاجئ بعد فشل رئيسها السابق عبد الإله بنكيران في تشكيل أغلبية حكومية؟ يقول كاس مودا، الباحث الهولندي المتخصص في دراسة الشعبوية، إن الشعبوية تتغذى على الأزمات وتنتعش وتنمو بفضلها. ولذلك فليس من المفاجئ أن يرتبط نجاح حزب شعبوي بوجود أزمة ببلد من البلدان. فهذا ما وقع بإيطاليا بعد فضيحة الفساد الكبرى التي وقعت في تسعينات القرن الماضي، وأدت إلى بروز حزب برلسكوني، وهذا ما وقع كذلك بفرنسا وأدى إلى صعود نجم حزب الجبهة الوطنية، كما أن الأمر نفسه حدث باليونان وأدى إلى ظهور حزب سيريزا، والأمر نفسه ينطبق على بريطانيا متمثلا في حزب الاستقلال، إلى غير ذلك من الأمثلة الجمة. وحتى لا نتيه في عالم الشعبوية ونركز على النموذج المغربي، لابد أن نقدم بإيجاز شديد لمرجعية حزب العدالة والتنمية. حزب العدالة والتنمية المغربي ليس بجديد، ولم يكن شعبويا منذ تأسيسه؛ بل كان ذا إيديولوجية إسلامية إصلاحية فحسب. فمنذ تأسيسه في العقد السادس من القرن العشرين كتب عبد الكريم الخطيب في رسالته إلى الملك الحسن الثاني رحمه الله أن الحل والمخرج مما يعانيه المغرب يكمن في الرجوع إلى الدين الإسلامي ومبادئه. وإنما اقترنت الشعبوية بالحزب بعد تولي عبد الإله بنكيران لرئاسته. ولكنه ارتكب بعض الأخطاء أثناء فترة توليه لرئاسة الحكم، مما جعل الوضع بالمغرب يزداد سوءا اقتصاديا، ويزيد احتقانا اجتماعيا، فما تفتأ تنطفئ نار احتجاج حتى توقد نار أخرى بربوع المملكة المختلفة. ومعنى قولنا إن بنكيران شعبوي، أي أنه يهاجم النخبة السياسية والاقتصادية التي يكنيها بالتماسيح والعفاريت. كما أنه يكيل المدح والثناء لعامة الناس ويصفهم بالصلاح والنقاء، وأنه إنما جاء ليحقق إرادة الشعب بمحاربة الفساد وإصلاح البلاد. أضف إلى ذلك أنه جعل السياسة أمرا يخوض فيه العامة بفضل طريقة كلامه، وقدرته على تسييس مجموعة من القضايا الحساسة بالمجتمع المغربي. وهذا كله وقع في ظرف أزمة، أثناء ما يصطلح عليه بالربيع العربي، متمثلا في حركة 20 فبراير بالمغرب. لقد تبنى حزب العدالة والتنمية خطاب الحراك، ولكنه اختلف مع أصحابه في أسلوب التعبير عنه. والمقصود أن الحزب لم يشارك بقاعدته الحزبية في الاحتجاجات بطلب من أمينه العام عبد الإله بنكيران آنذاك. والسبب في هذا الأمر هو أن العدالة والتنمية حزب يسعى إلى امتلاك السلطة والسيطرة على الساحة السياسية منذ عقود. وكانت الظروف مواتية في تلك المرحلة. والسياسة في أدق تعريف لها صراع من أجل السلطة. ولذلك فليس من المفاجئ أن يصوت الناس على حزب تبنى خطاب الشارع بعد تعبئة قوية قادها زعيمه الكاريزمي الذي استطاع أن يقنع طرفا كبيرا من المجتمع بأنه سيحارب الفساد ويسير بالدولة إلى الرقي والازدهار. ولكن بنكيران عجز عن تحقيق الكثير من الوعود في فترة توليه منصب رئيس الحكومة، وهذه هي المشكلة الكبرى التي تعانيها الشعبوية في كل البلدان. يَعِدُ الشعبويون الناس بما لا يستطيعون تحقيقه، لا لسوء نية، بل بسبب قلة تجربتهم في امتلاك السلطة، وعدم تفريقهم بين القدرة التمثيلية والمسؤولية الفعلية. ومعنى هذا الكلام أن التنظير للتغيير شيء، وتطبيق هذا التغيير الموعود على أرض الواقع شيء آخر تماما. وقد سبق أن وقع هذا باليونان لحزب 'سيريزا' الشعبوي، الذي فشل فشلا ذريعا في تحقيق ما وعد به. والحقيقة أن إعطاء وعود للناس بتغيير الواقع ومحاربة الفساد ليس أمر هينا، لاسيما إن كان المتحدث غير قادر على ذلك، ولا رؤية له حول كيفية تحقيق هذه المطالب المنشودة. وهذا أمر مفهوم في علم النفس، إذ كلما رفعت الآمال وعلقتها، زادت الخيبة والصدمة إن لم يتحقق منها شيء. لقد صارت القاعدة الحزبية للعدالة والتنمية إلى انشقاقات داخلية كبيرة بعد تنحية عبد الإله بنكيران، لأن الكثير منهم كانوا يحبون خطاباته وفكاهته. كما أنهم يعلمون أن السيد العثماني الذي حل مكانه ليس بشعبوي، ولربما يفتقد إلى الكاريزما التي يمتلكها بنكيران، الذي عرفت فترة تولية أمانة الحزب عامة صعودا قويا للحزب، ونجاحا كبيرا في الاستحقاقات الانتخابية. ولكن واقع الحال أن فوز حزب العدالة والتنمية يالدورتين الانتخابيتين الماضيتين يرجع، بالأساس، إلى غياب منافسة قوية من باقي الأحزاب السياسية التي تفتقد إلى زعامة كاريزيمية، وخطاب مؤثر، وبرنامج إصلاحي واضح، وفساد كثير من قيادات الأحزاب الأخرى وقلة حنكتها. فحزب الاستقلال كان متصدعا داخليا بقيادة شباط، وحزب البام كان بقيادة إلياس العماري الذي يفتقد إلى الشعبية الكافية بين عموم أفراد الشعب المغربي. وأما أحزاب اليسار فقد تشتت شملها، ولاسيما بعد فترة حكمها أواخر تسعينات القرن الماضي بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، فظهر للناس تهافتها على السلطة وعدم قدرتها على التغيير، لاسيما أن خطابها المتشكك من الدين الإسلامي والأعراف والتقاليد المغربية يجعل مسانديها نخبة قليلة فقط. كما أن جل المغاربة الذين ينتقدون الحكومات لا يشاركون في الانتخابات، ولا وعي لهم بأهمية إدلاء أصواتهم، ولا انخراط لهم في السياسة الحزبية، فجلهم ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا خطأ عظيم لا مجال للتفصيل فيه هنا. ولعل السؤال الذي يبقى مطروحا الآن هو: ما هو مستقبل الوضع السياسي في المغرب في ظل انتكاسة حزب العدالة والتنمية، وغياب بديل قوي يستطيع إعادة التوازن إلى المجتمع المغربي سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا؟ *أستاذ وباحث مغربي