ما جدوى أن يكون الكل هنا وأنت في بلاد الغال غائب عنا؟ ما جدوى الأبراج العالية والبراق والألماس والتاج فوق الرأس؟ ما جدوى الهتافات والهمة وسايلا الرقاص؟ وما الجدوى مني ومنك والفساد في الرباط؟ ما جدوى الوعود الجميلة إن لم توفي بها؟ ما جدوى أحلامك إن لم أكن أنا فيها؟ ما جدوى التحكم في الزمن والليل والنهار لدينا سيان؟ ما جدوى السيادة والساعة فرنسية والجزر إسبانية؟ ما جدوى التحكم في التاريخ والجغرافية والحاضر والمستقبل لم يعد بين أيدينا؟ ما جدوى رسائلي الكثيرة، التي كتبتها بتركيز عميق آملة أن تحيط سطورها باهتمام شديد وأنا أدرك حق الإدراك أنك لم تقرأ سطرا واحدا منها؟ كتبت رسائل كثيرة، أسأل فيها عن الحسيمة.. أخبرك عن فراغ أزقتها، عن صدى الغائبين عنها، عن دلالة حمل الشموع التي لم تفهم معناها.. لم يكن حملها فرحا ولا حزنا.. لم يكن وفاء للقيصر أو إحياء لميلاد المسيح.. لم تقدم قربانا شكرا للإله.. شموعنا كانت إنذارا للمغفلين.. كانت فرصتك وفرصتي الأخيرة.. تناشد الضمائر الحية.. تبكي مصير وتاريخ أمة.. كانت تود زوال الغمامة بنورها.. وإعادة الحق إلى أصحابه.. بل لإعطاء المفهوم الحقيقي للمصالحة.. رسائلي كانت تخبرك بما لم يخبرك به سايلا.. بما عجزت عن كشفه لك أوريانا العرافة.. كانت تخبرك باللعنة التي أصابت باريس العشيقة، بالعدوى التي تنتظرهم هناك في الديار المقدسة.. تحكي قصة نهاية ''الساكت عن الحق شيطان أخرس''.. تحكي غضب الشتاء.. ثورة السترات الصفراء قبل وقوعها.. تلك قصة المركز ستتداولها الأجيال من بعدي.. تحكي قصة قلب الأدوار في قيادة الثورات.. ما جدوى فصاحة اللسان وفساحة السماء؟ ما جدوى حسن الجوار وكثرة الكلام والسجون في الجنوب يملأها الأبرياء؟ ما جدوى المآذن الجميلة والمواثيق الدولية في الشمال والجبال في الجنوب يملأها الفقراء؟ كيف لجميلات الكون أن يقصدن أرضا توقفت عن الدوران؟ كيف لهم أن يتاجروا بدماء الفقراء؟ كيف للمطالب المشروعة أن تقصف من الشمال؟ وكيف لنضالنا المستميت أن يقابله باستهتار؟ بل كيف لك أن تقف عاجزا عن اتخاذ أي قرار؟ فما جدوى الكتب والأسفار إن لم تستوعب درسا واحدا منها؟ ما الجدوى من رفع التظلمات والشعارات، وليس يدري الهم غير المبتلي مثلي؟ معك أحسست بعجز الحروف والكلمات، بعقم الدلالات والعبارات.. معك أصبحت كل الأمنيات في خبر كان.. أصبحت السلمية والعفوية بدون جدوى.. وأصبح الشعب والوطن مجرد كلمة.. معارضة عديمة الفائدة.. عاجزة بالدفع نحو الأمام.. حكومة عاجزة عن توفير الأمان.. رجال الصالونات لا يعول عليهم.. فالكراسي الفخمة أضحت أوطانهم، والمشاريع الضخمة كل ما تبقى من اهتمامهم.. رجال الدين لا يصلحون إلا أبواقا في المحافل.. لا تنتظر مني ورودا.. فحدائقي لم تعد تعج بالأزهار.. ودموع العيون أصبحت أنهارا.. لا تنتظر مني وفاء حينما تكون أنت للعهد خائنا.. لا تطلب مني ما لم أجده فيك.. فهذه المرة، قررت أن أبقى وفية لمطر وسيوران.. فإن خسرت المعركة معك، فعلى الأقل لن أفقد صفاء ذهن هؤلاء.. قتلت بداخلي كل الأشياء الممكنة.. فهنيئا لك بتدمير أعظم هيكل.. هنيئا لك بالتشاؤم الذي لم يجد بديلا عني.. لا تطلب أن أكون متفائلة مثلهم.. فالمنافقون من حولك كثيرون.. أحسستني بأن لا وطن لديّ أحتمي به.. وأنني أقل من كل شيء فيه.. حتى في حالات الفرح لم أكن أحس به.. لا تطلب مني أن أصلي صلواتك.. فالكتابة أصبحت شكلا من أشكال الصلاة لدي.. لا تصر على أن أحبك.. فالحب أكبر مصيبة بالنسبة إليك.. لا تطلب من الأمل أن يتعلق بي.. فالعابر لم أعد أثق به.. لا تطلب مني أن أدعو لعشيقتك.. فلباريس وقصورها شعب يحميها.. وللسمراء ربّ عظيم يعرفها.. لا تطلب مني أن أغض البصر عن حماقاتك.. أو أنسى فضاعة موت عماد وفكري الشهيد.. لا تطلب مني قتل الضمير.. من امرأة يائسة.. بقرارات طائشة.. أودتها قاتلة.. بحبك أصبحت كافرة.. ودعت الأفراح مجبرة.. أن تهواك يا داهية؟.. لعنت كل الانتهازيين، الجدد منهم والقدامى.. كفرت بك وبالوطن.. كفرت بصلواتك التي لم تعد تجدي.. لا تحاول أرجوك.. فأنا ودعت سايلا والجبن منذ مدة.. لا تقلق يا سيدي.. فمثلي قليلون.. ستجد حتما من سيهتف بحياتك غيري.. من يحبك غيري.. من يبارك قراراتك غيري.. من يتمنى مودتك غيري.. من ينافقك غيري.. بل من يغتالك غيري.. لا تقلق يا سيدي.. فالمنافقون من حولك كثيرون.. والمنبطحون كثيرون.. والجبناء كثيرون.. والانتهازيون كثيرون.. أما عني، فقد اتخذت قراري.. أعلن فيه انسحابي.. حاملة حقائبي وأحزاني.. ما دمت تختزل نضالي في بضع كلمات.. ع.ب.ث.. ما دامت سيرتنا على كل لسان.. خوفي عليك كل الخوف يا سيدي.. قد تندم يوما، حيث لا ينفع الندم.. ( يتبع)..