يكاد الاجماع يقع على أن مادة الاجتماعيات تشكل بعبعا وشبحا للمتعلمين، كما أن شريحة كبيرة تتصورها عبئا يثقل كاهل المتعلمين بالحفظ والتذكر. وعموما يرجع الفشل إلى مدرسات ومدرسي المادة تهريبا للمشكل والقاء المأزق عليه وتحميله مسؤولية الإصلاح. فما جذور الأزمة؟ وما بعض ملامح الإصلاح؟ أثبتت عموم الدراسات العلاقة الوطيدة بين الجانب الابستيمولوجي والديداكتيكي لتدريس أية مادة؛ إذ إن الثاني ما هو إلا هبة للأول. ومن ثم تقرن كل الكتابات ضبط الديداكتيك بامتلاك الجانب الابستيمولوجي للمادة، وتقطع بصعوبة فهم الأول دون الانطلاق من الثاني وحمل سحناته. لا تخفى مركزية تطوير المعارف الأساسية والمهارات والمفاهيم الرئيسة في صياغة المحتويات المدرسية، التي تتغدى منها بشكل آلي؛ فالتطوير المستعرض أو الموضوعاتي لمحتوى المعرفة المدرسية تابع للتطوير الجزئي لمعرفة ستعتبر مورد المادة المدرسة إثر خطوات النقل الديداكتيكي. ومن ثم، يفرض التمفصل بين التكوين الأساس، وإنتاج المعرفة المدرسية اتصالا ومواكبة لتطور المعرفة العالمة باستراتيجية تكوين هيأة التدريس باستمرار. ذلك أن التأهيل الديداكتيكي لن يستقيم له أمر، ولن يستقر له شأن دون متابعة المستجدات والتغيرات، التي تلحق مستوى تأطير طلبة الجامعة، والمسارعة إلى ادماجها بالتكوين المستمر. يظل الطموح قائما في تحطيم الفوارق بين المعرفة المقدمة من قبل الأستاذ الجامعي للطلبة والمعرفة المقدمة من قبل أستاذ السلك الثانوي الإعدادي للتلاميذ وجعلها متقلصة؛ حتى لا تظهر الهوة بين المستويين. فقد تلقى الطالب الجامعي وأستاذ الغد وفق تجربة التخصص بعد الجذع المشترك الجامعي معارف المتخصص بشكل مستقل عن معارف المدرس؛ إذ إن التخصص بعد الحصول على دبلوم الدراسات الجامعية العامة يقدم طالبين مختلفين نسبيا اشتركا في معارف السنتين الأولى والثانية. أما خلال مرحلة فصل الشُّعب، فالجامعة تقدم للمدرسة موظفَين مختلفَين تمام الاختلاف، ومتفاوتين بالغ التفاوت على مستوى التكوين، يفترض تداركه بالتكوين الأساس داخل المراكز على حساب زمن مجزوءات الديداكتيك. وإذا تم الإبقاء على الفصل في تقديم معارف البيولوجيا الجيولوجيا، والجغرافيا التاريخ، والفيزياء الكيمياء... منذ السنة الجامعية الأولى، فإن المخرج من الورطة لا يعني الاجتماعيات وحدها بقدر ما سيسري على كثير من التخصصات. وبالتالي، فإن الدواء لن يحيد عن معالجة شاملة للتكوين والتدريس. الأكيد أن الجهد الذاتي في تعلم المعرفة العالمة سيظل قائما على الاجتهاد الشخصي للمدرس في المواد المفصولة. إلا أن وعيه بنقائصه لن ينطلق من فراغ، وإنما يستلزم تكوينا أساسا يشكل أرضية، تؤطر الاجتهاد الذاتي في إطار الباراديغم )عملي نظري عملي(. فالأطر المرجعية للمواد تحدد الأهداف الكبرى والعناوين... وتترك للمدرس حرية البحث في سبل استثمار المقرر الدراسي. غير أن تغير الأطر المرجعية للاختبارات وتوجيهات المراقبة المستمرة تفرض الاستفاضة والتصرف باستمرار. إلا أن مغامرة تحميل الفرد القيام بعمليات النقل الديداكتيكي ستلقي به في قلب عاصفة الباراديغم وهو فاقد للجانب النظري الابستيمولوجي، الذي يشكل ناصية المعرفة ومفتاح فهم منطقها كقاعدة أساس للنقل الديداكتيكي. مأزق الفصل لم يعد غير قابل للتأجيل، ويدعو بإلحاح إلى تأمل صيغ التكوين والنظر في مهام المؤسسات الثلاث، التي تسهم مفصولة غير متمفصلة بشذرات متفرقة غير متناسقة في تأهيل مدرس الغد. ويمكن حسب النقاشات الدائرة تلخيص الآراء في ثلاثة. يتمثل المقترح الأكثر واقعية في فتح تكوينات ديداكتيكية بالجامعة توفر محيطا يدمج التكوين المعرفي العالم والداكتيكي النظري الميداني، على أساس تطوير تجربة المدارس العليا للأساتذة بخلق جسور تتيح الاستفادة من الكليات والأساتذة الباحثين ذوي رغبة الانخراط في التجربة. أما المقترح الثاني فيتمثل في نسخ المحيط نفسه بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، على أساس نقلها إلى مستوى مؤسسات التعليم العالي، وتمكينها من نظام الفصول (LMD). وهو ما يتطلب بذل جهود كبرى تليق بما يستلزم من تغيرات كبيرة على مستوى الموارد البشرية وإعداد فضاءات وبنيات الاستقبال. يقوم المقترح الثالث على تنسيق الجهود بين الجامعة والمراكز الجهوية على أساس أن تشكل أقطابا تستكمل التكوين الجامعي؛ بحيث تستقبل طلبة قضوا تكوينا لمدة سنتين بالجامعة، ويخضعون طيلة السنة الثالثة للتأهيل الديداكتيكي بالمراكز الجهوية، وهو ما يبدو غير مفيد لأسباب: نتائج فصل التكوين الجامعي خلال السنتين الأوليتين وهوية الشواهد التي ستمنح بالمراكز الجهوية وضرورة تكرار عدة التكوين المعرفي الجامعي بالمراكز، وهو ما ليس في طاقتها. ضمن أي من السيناريوهات سيظل ديداكتيك تدريس الاجتماعيات مشوها في ظل إثقال كاهل الأستاذ الواحد "شبه المكون" بتدريس ثلاث مواد (التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنة). لذلك، فإن اختلاف نهج المواد وتعدد الوحدات يفترض التخلص من النظرة التقليدية لجمعها في مادة واحدة، والتوجه إلى الفصل في إسناد التدريس ما أمكن، وليس العودة إلى مغبة جمع في الجامعة، لن يقو على اقتلاع المشكل من جذور الانفصال المعرفي والمنهجي. الانفصال المعرفي: على المستوى الإبستيمولوجي تبدو المواد الثلاث جد متباعدة؛ فالتاريخ المدرسي يعتني بدراسة تاريخ الكون بشقيه الطبيعي والاجتماعي وتطوراتهما، وقد تشعب التخصص ليمتد إلى موضوعات التنمية. أما الجغرافيا فتعتني بإبراز التوزيعات، وقد قطعت مع الجغرافيا الحديثة مسافة كبيرة في الانسلاخ من مناهج الحكي والوصف، ومضت تعمق دراسة دينامية العلاقات وتوزيع آثار التفاعلات على سطح ومجال جغرافي متحرك، يشكل ملتقى لمختلف العلوم. أما من جهة ثالثة، فتتخذ مادة التربية على المواطنة القيم الإنسانية وحقوق الأفراد والجماعات أساسها المعرفي. الانفصال المنهجي: أحدث التباعد الابستيمولوجي تباعد مناهج المواد الثلاث؛ فالتاريخ يستقل بآليات تنزيله الديداكتيكي، وخطوات نهج البحث التاريخي وتدريسه (التعريف والتفسير والتركيب). ولا تلتقي مفاهيمه مع مفاهيم الجغرافيا (الوصف والتفسير والتعميم). ويزداد التباعد عن التربية على المواطنة التي تقوم على منطق خاص (الاكتشاف والفعل ورد الفعل). وسيتعمق التباعد حينما نتحدث عن المفاهيم المهيكلة للمواد الثلاث. ومن ثم، فإن تجويد التدريس ينبغي أن ينطلق من تكوين معرفي جيد يعمق التمكن من الديداكتيك المرتبط بمستوى تملك المعارف الأساسية للتخصص. وبالتالي، فإن الارتقاء الحقيقي بواقع تدريس الاجتماعيات في المدرسة المغربية ينبغي أن يقوم على الفصل في تدريس المواد الثلاث كما هي مفصولة في التكوين الجامعي. سيشكل إحداث المدارس العليا للتربية والتكوين في إطار الجامعات فرصة لبلورة رؤية جديدة لتكوين المدرسات والمدرسين الشباب، تأخذ بعين الاعتبار تجارب شعب التاريخ والجغرافيا والقانون في تمرير التكوين المعرفي المرتبط بالتدريس. أما على مستوى تأهيل المدرسات والمدرسين فستكون التجربة مناسبة لإدماج تراكمات وتطورات برامج التكوين بالمدارس العليا للأساتذة والمراكز التربوية الجهوية والمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين. ولعل تجريب فصل المدارس الوطنية بين التكوينات خلال سنوات LMD ستكون له فوائد على مستوى الاستثمار في تدقيق الجوانب المعرفية (الأبستمولوجيا) في التخصص، وتعميق المهننة التدريسية (الديداكتيك) بشكل متوازي. لكون المواد الثلاث متناغمة ومتقاربة، فإن إعادة النظر في التكوين والإسناد يمكن أن يقود إلى هيكلة التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنة والفلسفة في إطار قطب الاجتماعيات إلى جانب أقطاب العلوم والآداب... إن عدم الانعتاق من جذور قيد جمع مواد الاجتماعيات في التدريس على شاكلة الجامعة يقدمها مشوهة، وإن استمرار تكوين أستاذين تخرجا من شعبتين مختلفتين وأحيانا متصارعتين لتدريس مواد متنافرة ابستمولوجيا ونهجا، يعتبر تعسفا على تعليم ما يرتبط بهما من معارف ومناهج ومهارات وقيم، يمكن أن تجد حلا لها في إصلاح يفضي إلى الفصل. *أستاذ باحث، المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدارالبيضاء سطات