غالبا ما يطرح السؤال عن المثقف وأدواره، خاصة في اللحظات الصعبة التي تجتازها الشعوب. وسواء تعلق الأمر بالمثقف العضوي كما تحدث عنه أنطونيو غرامشي، أو المثقف النقدي كما تحدث عنه إدوارد سعيد (أو المشتبك مع السلطة كما طوَّره عنه في ما بعد الشهيد باسل الأعرج)، أو بالمثقف الملتزم كما تحدث عنه كل من سارتر والجابري، أو المثقف النوعي كما وصفه ميشال فوكو، فإن جميع هؤلاء المفكرين المؤسسين الكبار يتفقون على الدور التاريخي والنقدي للمثقف في مواجهة السلطة وطرح الأسئلة القلقة وعدم الاستسلام للواقع وبديهياته الرتيبة والمدمرة في أحيان كثيرة. مناسبة هذا الكلام ما يعانيه المغرب وعموم الوطن العربي من استقالة للمثقف وابتعاد له عن أداء رسالته التنويرية والإصلاحية من جهة، واستذكاري لعَلَم من أعلام الأدب المغربي الذي تحل ذكرى رحيله الثامنة شهر نونبر الجاري.. إنه المبدع المغربي الراحل إدمون عمران المالح. وإذا كان من مبدع كبير يمكن للمرء أن يعتز بصداقته، فلن يجد المرء أفضل من الحاج عمران كما كان يُحب أن يناديه أصدقاؤه ومُحبوه، وحتى عموم الناس. هذا الأديب الذي تنطبق عليه صفات مفهوم المثقف بالتحديدات التي أوردتها سالفا. لقد كان إدمون عمران المالح (أبو الحكي) مبدعا كبيرا بإنتاجه الفكري والأدبي، وأيضا بمواقفه الإنسانية والسياسية، التي لم يهادن من أجلها ودفاعا عنها..واجه الاستعمار وعملاءه، وتصدى لنظام الاستبداد والفساد الذي خلفه الاستعمار وثبّت أركانه بمقتضى اتفاقية إيكس-ليبان سيئة الذكر، حتى اضطره ذلك إلى مغادرة البلاد والعيش في المنفى لأكثر من ثلاثين سنة؛ مثلما تصدى للعنصرية وللاستعمار الصهيوني ولإيديولوجيته الإجرامية وللتطبيع مع كيانه الغاصب لأرض فلسطين. أما على الصعيد الإنساني فلم يكن "الحاج عمران" من النوع الذي يمكن نسيانه، إذ كان يحيط جلساءه بِفيْض من الحكمة والمتعة، حتى ليشعر المرء بالأسى لفراق جلسته، فأحرى أن يستوعب المرء غيابه عن عالمنا. كم كان المرء يتمنى أن يرى "عيسى العبدي"، وهو الاسم الذي كان يوقع به الكثير من كتاباته حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بما فيها مقالاته التي دوَّنها في جريدة فلسطين التي أصدرها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد هزيمة يونيو 1967، وصدر منها ما يربو عن الثلاثين عددا. كم كان المرء يتمنى أن يكون الحاج عمران بيننا لكي يعيد بعض البديهيات أمام بعض صغار القوم الذين يتبجحون باستقبال الصهاينة أو بتنظيم زيارات تطبيعية لكيان الاحتلال الصهيوني تأدية لوظائف محددة. التقيتُه أول مرة ذات عشية من عشيات أصيلا، وتهيبت السلام عليه، لكن إلقائي التحية عليه جعلتني أكتشف عالَما متدفقا من الأحاسيس الإنسانية الرفيعة، يضمها زوج رائع يُسند بعضه بعضا، اسمه إدمون عمران المالح وماري سيسيل، زوجته التي تأثر كثيرا بعد رحيلها. توالت اللقاءات، ومن ضمنها يوم مشاركته بالملتقى الوطني لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني المنظم بالمكتبة الوطنية بالرباط يوم 29 ماي 2010، حيث اتفقت معه على زيارته بشُقته البسيطة والجميلة التي كان ينزل فيه قرب قاعة ابن ياسين بالرباط، لأخذه معي أنا والصديق أحمد المرزوقي قاصدين المكتبة الوطنية.. وبعدها التقينا بهدف إجراء حوار مطول، وجدتُني فيه غارقا بين شخصيتين خفيفتي الظل والإطلالة، أحمد المرزوقي والحاج عمران؛ ولم تمر بضع أسابيع حتى كان رحيله الأليم رحمه الله وأكرم مثواه يوم 15 نونبر 2010. أذكر كيف كان منظر جنازته معبرا بالرباط، حيث نزل العشرات من المواطنين مرتدين الكوفية الفلسطينية الجميلة تحية لروح كبير من كبار المغرب المنتصرين لفلسطين وحريتها الموعودة، حيث ألقينا عليه النظرة الأخيرة بالمقبرة اليهودية بالرباط، قبل نقله إلى ربوع الصويرة التي أوصى بدفنه فيها. مشهد الكوفيات هذا لم يستسغه المستشار أندري أزولاي، إذ سأل صديقا حاضرا معنا: لم هذه الكوفيات في المقبرة؟ فقلت له إن السر يكمن في فلسطين التي أحبها الحاج عمران حتى الثمالة وظل مخلصا لها حتى الرمق الأخير، وهو ما جعل الراحلة زهور العلوي الحاضرة حينها تتفاعل بطريقتها الخاصة مع مشهد الجدال بابتسامة تحمل أكثر من دلالة. كانت غالبية لقاءاتي بالحاج عمران في مقر سكناه بالرباط، في شقة ليست في ملكيته بالمناسبة، حيث لم يكن يترك لي الاستمتاع بآرائه إلا بعد أن يطلب من مساعِدته "هند" إعداد براد من الشاي المغربي، وكم كان يعاتبها بلطف لا يخلو من ابتسامة على وجهه كلما أرادت تقديمه لنا سريعا عبر صبّه في كؤوس، طالبا منها أن تتركه حتى "يْطْلَق" (كلمة من الدارجة المغربية، يُقصد بها إمهال الشاي ما يكفي من الوقت ليصبح ذا نكهة جيدة قبل صبّه في الكؤوس). لم يكن المالح كعادته يترك للحوار مجالا لأن يكون جافا، بل كان يطبعه بطابع خاص من النكت والحكايات التي تعبر عن طبيعته المرحة. تعكس رؤية هذا المثقف المناضل، الذي ينحدر من عائلة بمدينة الصويرة، والمولود بمدينة آسفي، في السنة نفسها التي أصدر فيها بلفور وعده المشؤوم سنة 1917، فهماً عميقة وأصيلا للصراع مع المشروع الاستعماري الصهيوني الذي كان يؤكد دوما انعدام علاقته بالديانة اليهودية وارتباطه بالمشروع الاستعماري للرأسمالية الغربية في مرحلة توسعها عبر العالم؛ وهو فهم متميز يعبر عن حقيقة التعايش والتسامح في الوطن العربي بين الديانات المختلفة (اليهودية والإسلام بالمغرب الكبير، والمسيحية والإسلام بالمشرق)، مستحضرا دائما تجربة الأندلس المُلهمة والنقيضة لتجربة الكيان العنصري الصهيوني القائمة على الإبادة والإلغاء؛ وهو الفهم الذي زَكّته نضالاته في مواجهة الاستعمار الفرنسي للمغرب، إذ كان يوقع كتاباته آنذاك باسم "عيسى العبدي". وشارك الحاج عمران سنة 1953 في قرار القيادة السرية للحزب الشيوعي المغربي بمعيّة عبد السلام بورقية والشهيد عبد الكريم بن عبد الله (أحد مؤسسي منظمة الهلال الأسود لمقاومة المستعمر الفرنسي) في اتخاذ قرار الكفاح المسلح، وبعد الاستقلال واجه جبروت نظام الحسن الثاني واضطر لمغادرة المغرب في اتجاه منفى استمر طويلا، عقب مجازر 23 مارس 1965 التي قتل فيها نظام الحسن الثاني بدم بارد أكثر من ألفي شهيد في الدارالبيضاء. كانت مواجهة الراحل عمران المالح لاستبداد الحسن الثاني تتكامل مع رفضه القاطع تهجير المغاربة اليهود من وطنهم في اتجاه فلسطينالمحتلة، إذ تزعَّم حينها (مع المناضل الراحل أبراهام السرفاتي) التوقيع على عريضة للمواطنين المغاربة اليهود ضد التهجير نشرتها جريدة التحرير سنة 1961؛ ما جعله يؤدى ثمنا باهظا من سنين عمره (مطاردة وسجنا ومنفى)، ليحمل معه الهمّ الفلسطيني في منفاه الفرنسي، حيث طالما تصدى هناك للوبي الصهيوني، ليدفع ثمنا مضاعفا جراء انتمائه العربي، حصارا من طرف دور النشر الفرنسية بتهمة مزيفة هي «معاداة السامية» بسبب مواقفه الشرسة في فضح الصهيونية. وقد ظل الراحل إدمون على هذا الخط الواضح بعد رجوعه من المنفى، يعلو صوته في مواجهة جرائم الاحتلال الصهيوني في لبنان أو فلسطين؛ وهي مناسبة تذكرنا كيف تصدى لتداعيات النقاش حول مشروع اليونسكو لتدريس ما يسمى "الهولوكوست" في المناهج التعليمية المغربية والعربية، والاختراق الذي يمكن أن يمثله التوظيف الصهيوني لهذه المفاهيم وانعكاساتها المختلفة، لكي يغطي الصهاينة، كما كان يقول دائما، على ما يرتكبونه من محارق حقيقية في لبنانوفلسطين. وكان حضور المالح في «الملتقى الوطني لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني»، المنظم من طرف "مجموعة العمل الوطنية لدعم العراقوفلسطين" نهاية شهر مايو 2010 في المكتبة الوطنية بالرباط، حين صرح بوضوح لا يقبل أي لُبس، بأنه «ينبغي التصدي للسم الذي بَثَّته الدعاية الصهيونية التي اقتلعت اليهود المغاربة من بلدهم، من القرى والمدن، وألقت بهم في أتون معركة أصبحوا جزءا من ضحاياها»؛ وهو موقف معروف بالنسبة إلى أديب ومناضل سياسي لم يهادن في مواجهة التطبيع والمطبعين. لكنه موقف كان يقرنه المالح بالفعل والحضور، إذ كان أول مُوَقّع على "الميثاق الوطني لمناهضة التطبيع" مع الكيان الصهيوني، متقدما المئات من الشخصيات الوطنية المنتمية إلى أطياف مختلفة. مواقف متضافرة تفسر السبب الذي جعل إدمون المالح ينتفض رافضا أن تقوم إحدى دور النشر الصهيونية بترجمة كتاب لأحد المبدعين العرب، بدعوى أن صاحبة الدار تنتمي إلى ما يسمى "اليسار الصهيوني"، رافضا التمييز داخل مجرمي الحرب الصهاينة بين يسار ويمين، فكلهم مستعمِرون ومُحتلون، مُعلنا بشكل واضح: «إني أرفض بشكل قاطع أن تُترجَم كتاباتي للُغةٍ ميتة هي اللغة العبرية التي يتم استخدامها في قتل الأبرياء واغتصاب وطنهم فلسطين. إن لغتي هي العربية التي أعتز بها»، كما قال لي حرفيا في حوار أجريته معه قبل بضعة أسابيع من رحيله، رغم أنه كاتب أبدع كل كتاباته بلغة موليير. وفي هذا السياق أذكر كيف عاتب الحاج عمران صديقنا أحمد المرزوقي على عدم إهدائه نسخة من كتابه المتعلق بتجربته القاسية بالمعتقل السري تازممارت: "الزنزانة رقم 10"، فأحس الأخ أحمد بالحرج لنفاد النسخة العربية لديه، وأخبره بأنه سيأتي له بنسخة فرنسية، غير أن الحاج عمران المالح كان شديد الإلحاح على أن تكون النسخة باللغة العربية، التي كان يردد دائما بأنه يحبها إلى الحد الذي رفض معه أن يتحدث في ذلك الاستجواب بلغة أخرى، إذ لما كنت أحس بتعبه، كان يؤكد لي في كل مرة أنه يحب العربية كثيرا. وإذا كان الراحل الكبير الذي لم يبدأ كتابة الرواية إلا بعد الستين من عمره قد خلّف إرثا أدبيا وإبداعيا معتبراً تمت ترجمة أغلبه إلى اللغة العربية، [من أعماله المنشورة: "المجرى الثابت" (1980)، "أيلان أو ليل الحكي" (1983)، "ألف عام بيوم واحد" (1986)، "جان جينيه: الأسير العاشق" (1988)، "عودة أبو الحكي" (1990)، "آبنر أو أبو النور" (1995)، "حقيبة سيدي امعاشو" (1998)، "المقهى الأزرق" (1998)، "کتاب الأم" (2004)، ثم كتابه الأخير "رسائلي إلى نفسي" (2010)]، إلا أن ما يؤكد تميزه هو ارتباط إبداعاته بمواقفه التقدمية والإنسانية الملتزمة التي ستبقى خالدة في العالمين. في ذكرى رحيل الكاتب إدمون عمران المالح أحد رموز الأدب المغربي والعربي الذي ناضل من أجل كرامة الفقراء والكادحين، وناضل من أجل حرية المغرب وتمتعه بنظام ديمقراطي ينتفي فيه الفساد والاستبداد، مثلما ناضل من أجل تحرير فلسطين والتصدي للتطبيع مع كيان الأبرتهايد الصهيوني هناك، حتى الرمق الأخير من حيواته الطويلة، تتأكد الحاجة إلى مثل هؤلاء الكبار. لقد كان الراحل نموذجا مثاليا للإنسان الزاهد وللمثقف الملتزم الذي نفتقد وجوده داخل الثقافة المغربية والعربية اليوم، لذا ما أحوجنا إليه مبدعا ملتزما ومثقفا عضويا من طراز نادر. لروحه السلام والطمأنينة والرحمات في عليين.