كانت مدينة طنجة قد خرجت من سباتها في ذلك الصباح وشرعت الحركة تدب في أوصالها عندما ركن صديقي سيارته في مكان ظليل بجوار رصيف، ثم ترجل منها بعد أن تركني جالسا في مقعدها الأمامي. توجه صديقي بعد ذلك نحو إحدى الإدارات العمومية ليمارس شأنا بينما رحت أرسل بصري من نافذة السيارة أتأمل مجرى الحركة من حولي وأزجي وقت الانتظار. كانت السيارة مركونة غير بعيد عن إشارات المرور الضوئية. لم يكن الشارع غاصا بالسيارات في ذلك الصباح ولا خاليا منها، بل كان بين بين، وكذلك كانت حركة الراجلين. وفيما كنت على تلك الحال استرعى انتباهي مشهد شابة متسولة كانت تذرع عرض الشارع تحت أشعة الشمس جيئة وذهابا غير بعيد عن الإشارات الضوئية. كانت الشابة التي بدت لي في نحو العشرين من عمرها تحمل على ظهرها رضيعا، وكانت تنعطف تارة ذات اليمين وطورا ذات الشمال نحو كل سيارة متوقفة ولا تكاد تدنو من نافذتها حتى تتطلع نحو سائقها أو سائقتها بنظرات لا تخلو من رجاء وهي تبسط كفها مستعطفة في لجاجة، ومهمهمة ببعض الأدعية. كانت المسكينة بوجهها المكسو بغشاوة من الاغتمام والعبوس وبعينيها الغائرتين بادية الضعف ومتلفعة بجلباب أسود. ولست أدري كيف وجدتني بعد ذلك مدفوعا لملاحقة تلك المتسولة بنظراتي. قد يكون مظهرها الخليق بالرثاء استدر رأفتي وإشفاقي، وقد يكون مرد ذلك إلى تعامل بعض السائقين معها، والذي لم يكن يخلو من جفاء وقسوة... فمن سائق قابلها بالصد والإعراض فأغلق نافذة سيارته أو أشاح بوجهه عنها، ومن سائق أصم أذنيه عن سماع طلبها أو سدد إليها نظرات زاجرة وأخرى لا تخلو من انتهار، ومن سائق طيب خاطرها بدعاء، لكن من غير أن تنال منه منالا، وقليل من السائقين من دس في يدها قطعة من مال. ولعل ما راعني لوهلة هو أن المسكينة كانت لا تكاد تظفر بقطع نقدية حتى تمضي نحو رجل أربعيني كان يقف مستندا إلى حائط عند رصيف غير بعيد عنها، ثم تلقي في يديه ما جمعته وهي ذاعنة لا تنبس. أما الرجل فكان يقلب بعينيه الجاحظتين تلك القطع ويعدها قبل أن يدسها في جيب معطفه، ثم لا تلبث المسكينة أن تعود أدراجها في ذلة ومسكنة لتستأنف بسط كفها للسائقين. والحقيقة أن نفسي ارتاعت لذلك المشهد الذي كانت عيناي موصولتين به في اهتمام، فقد عجبت من أمر ذلك الرجل الذي طاردني أكثر من سؤال حول العلاقة التي تجمعه بتلك الشابة المتسولة، والسر المكنون وراء انصياعها وخنوعها له، واستئثاره بالمدخر من مال التسول دونها. خطر ببالي آنذاك أن ذلك المشهد تتوارى خلفه حكاية لا يعرف كنهها سواهما. في تلك الأثناء رحت أنقل بصري بين الشابة التي كانت منهمكة في تعقب السائقين بكفها الممدودة، وبين الرجل الذي كان يراقب حركاتها من بعيد. وفي لحظة لمحت الرجل وهو يشير إليها بيده أن تعود، فلم تملك المسكينة إلا أن كرت راجعة إليه، ثم ألقت في يده ما جمعته من قطع نقدية. وما هي إلا لحظات حتى رأيته بوجهه المكفهر يكيل لها التهديد والوعيد ويجذبها من أكمام جلبابها، وكاد يهوي عليها بصفعة لولا أنها ضربت يدها على جيبها وناولته ورقة مالية وقع في ظني أنها كانت تسعى إلى أن تستأثر بها لنفسها. نكست الشابة رأسها بعد ذلك، ثم أولت الرجل ظهرها ومضت تجر قدميها في امتثال وإذعان نحو وسط الشارع. لم يكن غيري فيما بدا لي يلتفت إلى ما يجري. ولا أنكر أنه لم تسوغ لي نفسي أن أظل مجرد متفرج، ومن ثم باغتتني رغبة في التدخل ومفاتحة الرجل في شأن استغلاله للشابة المتسولة وسوء معاملته لها، لكنني ما إن ترجلت من السيارة وهممت بذلك حتى ارتددت وتهيبت أن أفعل ذلك، فما وسعني إلا أن استنكرت في قرارة نفسي فعل الرجل، الذي كان يحمل وجهه الحالك آثار جرح غائر. وكان ذلك الاستنكار في اعتقادي أضعف مراتب الإيمان. لم يمض بعض الوقت حتى رأيت الشابة المتسولة قد هدها التعب فمالت نحو حافة رصيف تحت أنظار الرجل وقعدت وهي تمد قدميها لتحنو على جسمها المنهك بجلسة استراحة، ثم سحبت رضيعها من على ظهرها ووضعته في حضنها وطفقت تهدهده وتلاطفه وتطعمه بيدها قطعة من الخبز. ظللت مستغرقا في تأمل ذلك المشهد، الذي آلمني وأثار في نفسي مشاعر الرأفة والشفقة نحو المتسولة. وسرعان ما نبهني صوت صديقي الذي بادر إلى الاعتذار عن تأخره الذي استغرق قرابة ساعة من الزمن. انطلقت بنا السيارة تشق طريقها بعد ذلك على مهل وسط الزحام، الذي كانت وتيرته قد بدأت تتصاعد رويدا رويدا، بينما كنت ما أزال أتابع بنظراتي تلك المسكينة حتى غاب عن عيني مرآها. وما إن شرعت أسرد لصديقي ما شاهدته حتى صدني بقوله إن قانون حماية المرأة ومحاربة العنف والاستغلال ضدها دخل حيز التنفيذ مؤخرا. توالت أيام معدودة بعد ذلك الحادث، وفي صباح شتوي بارد حدث أن كنت أسري عن نفسي بجولة غير بعيد عن ذلك الشارع، وما هي إلا لحظات حتى أبصرت على مقربة من مدخل عمارة شبه مهجورة تلك الشابة المتسولة وهي مستلقية على الأرض ومسندة رأسها إلى ذراعيها. كانت المسكينة تحتضن رضيعها وهي مستغرقة في النوم ومتدثرة بغطاء رث، وعن كثب منها كان ذلك الرجل الأربعيني بهيئته المزرية وجسمه الضامر قد اتخذ مجلسه بجوار قدميها وأمامه كأس وفي يده سيجارة. ولا شك أنه كان ينتظر أن تهب من رقادها ليجرها على مضض إلى هاوية المهانة، فلم يسعني آنذاك إلا أن رثيت للشابة وأشفقت لحالها.