للأعياد نكهة خاصة لدى الشعوب، تقاوم الزمن لتجترح مكانتها بين أجيال متتالية، رغم كل مظاهر الحداثة، وذلك هو حال طبق "عصيدة المولد" المرتبط بإحياء عيد المولد النبوي الشريف في تونس. ولئن كانت الاحتفالات الدينية ومظاهر إحياء عيد المولد النبوي الشريف في تونس تستقطبها مدينة القيروان، عاصمة الأغالبة، و مسجد الزيتونة بتونس العتيقة، فإن "عصيدة المولد" التي تحضر بثمرة الصنوبر الحلبي أو "الزقوقو"، كما يسميه التونسيون، لا تكاد تغيب عن معظم البيوت التونسية، بمناسبة العيد، على الرغم من ارتفاع أسعار مواد تحضير هذا الطبق. وتشتد "حمى" عصيدة المولد، قبل أيام عديدة من حلول العيد، فترتفع الأسعار وتحتد المضاربة بين التجار، ويزداد الجدل حول دواعي "ارتفاعها الصاروخي" الذي يعتبره التونسيون "مستفزا للجيوب"، مع أن الأمر يتعلق بثمرة توجد في الطبيعة تؤخذ من شجر الصنوبر في الغابات ليس إلا. عن أصول هذا الطبق التونسي الأصيل والمتفرد، تتباين الروايات بين قائل إن الموريسكيين حملوه معهم لما توافدوا على تونس انطلاقا من عام 1609، وبين آخر يذهب إلى أنه ذو أصل أمازيغي ورثه التونسيون عن السكان الأصليين لإفريقية (تونس)، لكن الرواية التي يرجحها المؤرخون هي تلك التي ت رجع تاريخ هذه الأكلة إلى فترة قحط وجفاف حاد، تم اللجوء فيها إلى ثمرة الصنوبر الحلبي كمادة غذائية، خلال عام 1864 إبان ثورة علي بن غذاهم الذي عاش بين عامي 1814 و 1867. وعلى الرغم من تواري حالة الجفاف تلك، ظل إعداد هذا الطبق مرتبطا بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف في تونس، بل باتت الأسر التونسية تجتهد اجتهادا في إعداد "عصيدة الزقوقو"، وتتباهى بدعوة الضيوف إلى تناولها وحتى إهدائها بمناسبة العيد، لاسيما أن هذا الطبق عرف مع مرور الوقت عدة تحسينات تمثلت بالخصوص في إضافة العديد من المكونات وأصناف الفواكه الجافة مثل الجوز واللوز والفستق والبندق، فضلا عن إدخال تنويعات على طريقة تقديمه. وينجم عن إقبال التونسيين موسميا على "عصيدة الزقوقو"، ارتفاع أسعار هذه المادة بالأسواق، وتزداد المضاربة، ومعها الجدل عن أسباب ذلك، ما دفع إلى تعالي أصوات تنادي بالإحجام عن شراء مادة "الزقوقو"، كان من أبرزها صوت "المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك" التي دعت إلى مقاطعة هذه المادة بسبب المنحى التصاعدي الذي اتخذته أسعارها، ومن أجل إحباط حسابات المضاربين الجشعين. بات ثمن الكيلوغرام الواحد يناهز 27 دينارا (حوالي 9,3 دولار) مع أن سعره عند الإنتاج يصل بالكاد إلى 4 دنانير، (1,3 دولار)، لا غير، ما يعني أن السعر يتضاعف تسع مرات، زد على ذلك المواد الأخرى التي تدخل في التحضير، فيتضاعف سعر الطبق أكثر فأكثر. قال رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي، إن كميات كبيرة من مخزون هذه المادة تراكمت في السوق نتيجة عمليات المقاطعة خلال السنتين الماضيتين، وهو ما يؤثر على ظروف خزنها التي اعتبرها غير صحية. لكن وزارة الصحة التونسية سارعت إلى التأكيد يوم الجمعة الماضي أن نتائج التحاليل المخبرية التي قامت بها أظهرت سلامة مادة الصنوبر الحلبي المعروضة بالأسواق خلافا لما تداولته بعض وسائل الإعلام التونسية وصفحات التواصل الاجتماعي. وآزرتها في ذلك وزارة التجارة التونسية، التي أصدرت بدورها بلاغا ت علم فيه أن نتائج التحاليل المخبرية أثبتت خلو مادة "الزقوقو" من سموم فطريات "الأفلاتوكسين"، بعد عمليات تفقد واسعة أنجزتها مصالح مراقبة الجودة منذ شهر أكتوبر الماضي. ويبرر بائعو مادة الصنوبر الحلبي من جهتهم، ارتفاع الأسعار بالقول إن منتجي الزقوقو يتكبدون مشقة كبرى في تسلق الأشجار التي يصل علوها إلى عشرين مترا، وعناء في قص المخاريط التي تضم الحبوب، قبل أن يعمدوا إلى تجميعها واستخراج ما بها من ثمار باستعمال أفران تقليدية يتجشمون نصبا شديدا في تشغيلها، ويقولون إن 100 كلغ من مخاريط الصنوبر الحلبي تمكن من جني 3 كيلوغرامات، لا غير، من حبات "الزقوقو". وتقدر حاجيات تونس من هذه المادة ب300 طن سنويا، يتم استهلاك 200 طن منها في فترة عيد المولد النبوي، وتتمركز أشجار الصنوبر الحلبي بالخصوص في مناطق سليانة والكاف والقصرين فيما يتوزع الباقي على بنزرت وباجة وزغوان. وتبلغ مساحات غابات الصنوبر الحلبي في تونس حوالي 360 ألف هكتار وتعتبر ولاية سليانة (شمال غرب البلاد) أهم مركز لإنتاج وتخزين هذه المادة، إذ يصل ما تنتجه منها إلى حوالي 60 طنا سنويا. ورغم كل هذا الجدل، يظل "الزقوقو" هو نكهة عيد المولد النبوي الشريف بامتياز لدى معظم التونسيين، بعد أن وجد له مكانة واضحة في طقوس الاحتفال بالعيد في تونس وفي فن الطبخ التونسي. وما تلبث أن تنطوي أيام العيد، حتى تتراجع "حمى" عصيدة "الزقوقو" شيئا فشيئا في انتظار عيد العام المقبل. *و.م.ع