كانت كتابات "صمويل هنتنغتون" الذي وافته المنية في عام 2008 تدور حول "صدام الحضارات"، وما تفرع عنها من مجموعة من الأفكار الفرعية، والتي اعتبرها "هنتنغتون" مسلمات، مثل: أهمية الثقافة في تشكيل السلوك السياسي، وعدم وجود قيم عالمية مشتركة بين الحضارات الأساسية في العالم. ولكن هذا التراث الذي تركه عالم السياسة الأمريكي لم يكن متوافقًا مع العديد من التغيرات التي ظهرت في عالم اليوم، وعلى رأسها التراجع الديمقراطي بعد الأزمات التي عصفت بالديمقراطيات الغربية، وفي مقدمتها الأزمات المالية في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنطقة اليورو، وتصاعد دور الحركات الشعبوية في أوروبا، والتي أضحت تمثل تهديدًا للنظم السياسية الغربية، فضلًا عن تصاعد قوة عدد من الدول المعادية للقيم الغربية مثل روسياوالصين. ومع مرور ربع قرن على أطروحة "هنتنغتون" عن "صدام الحضارات" يحاول "فرانسيس فوكوياما" إلقاء الضوء على إرثه في مقالته المعنونة ب"تراث هنتنغتون" Huntington's Legacy، المنشورة بمجلة "المصلحة الأمريكية The American Interest في 27 غشت 2018، وذلك من خلال نقده لمقولته الأساسية لصدام الحضارات، وفكرته الأساسية عن الثقافة والقيم العالمية. إشكالية المحدد الثقافي: يرى "فوكاياما" أن هناك خطًّا عامًّا في كل كتابات "هنتنغتون" الأخيرة يدور حول مسألة الثقافة، إذ لم تتعلق تلك الكتابات فقط بمسألة صدام الحضارات؛ بل أثارت مشكلة من نحن؟ فقد رأى "هنتنغتون" أن السلوك السياسي للشعب يتحدد بشكل كبير من خلال الثقافة، وأن الخيارات التي يحددها المجتمع استنادا عليها تظل ثابتة وقائمة في مواجهة التحديث الاجتماعي-الاقتصادي، بل تتخطى كذلك المصلحة الذاتية التي تميز الاقتصاديات الحديثة. ففي كتابه الأخير "من نحن؟" ركز "هنتنغتون" على الهوية الأمريكية، واعتبر أن نجاح الولاياتالمتحدةالأمريكية كدولة يرجع بشكل كبير إلى حقيقة أن أمريكا الشمالية قد استوطنت من قبل الأنجلو-بروتستانت، وليس من قبل الكاثوليك الفرنسيين أو الإسبانيين أو البرتغاليين، وإلا كانت تشبه اليوم البرازيل والمكسيك وإقليم كيبك في كندا. وإذا كانت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي والتي شهدت صعود الديمقراطيات الليبرالية بعد سقوط جدار برلين قد قامت على قبول واسع للقيم الغربية؛ إلا أن "هنتنغتون" جادل بأهمية المحدد الثقافي كأساس للتحول الديمقراطي، حيث رأى أن موجة التحول الديمقراطي تلك لم تكن قائمة على قبول واسع للقيم العالمية حول الديمقراطية، بل على حقيقة أن الديمقراطيات الجديدة في أمريكا اللاتينية وأوروبا كانت ذات خلفية ثقافية مسيحية كاثوليكية. فالذي تغير من وجهة نظر "هنتنغتون" هو وجود نوع من التصالح بين الكنيسة الكاثوليكية والديمقراطية الحديثة، وهو ما سمح بعد ذلك للدول من المجر وبولندا إلى الأرجنتينوالبرازيل لقبول الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم. ويري "فوكوياما" إذا كان "هنتنغتون" محقًّا في تأكيده العام على أهمية الثقافة لأن الثقافة المشتركة هي الأساس لوجود مستويات عالية من الثقة الاجتماعية في بلدان معينة، كما أسهمت بشكل كبير في نجاحها الاقتصادي؛ إلا أنه قد اتُّهم بعد نشر كتابه "من نحن؟" بالعنصرية تجاه المهاجرين. وفي هذا السياق، وافق "فوكوياما" على استنتاج "هنتنغتون" المتعلق بمساهمة المستوطنين الأنجلو-بروتستانت في نجاح أمريكا الشمالية بسبب القيم الثقافية التي يحملونها، وليس بسبب العرق، وذلك مثل أخلاقيات العمل البروتستاتينية، والإيمان بالفردية، وعدم الثقة في السلطة المركزية للدولة، وغيرها من القيم الأخرى. ولكن على صعيد آخر، يرى "فوكوياما" أن هذا التأكيد الواسع على استمرار الثقافة كمحدد للسلوك السياسي يقابله عدد من الصعوبات. فإذا كان "هنتنغتون" يجادل بأن الثقافة متجذرة بشكل أساسي في الدين، وأن الانتماءات الدينية المتعددة وليس الهويات المحددة ستشكل النظام المستقبلي العالمي؛ فإن هذا الطرح لا يخلو من المشكلات، حتى في ظل تصاعد دور الدين في السياسة الدولية الحديثة، ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن في الهندوأمريكا اللاتينية والولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث لعب المحافظون الدينيون دورًا سياسيًّا متناميًا. ويري "فوكوياما" أن الدين ليس العامل الأساسي والوحيد في تشكيل الهوية في العالم المعاصر، فهناك العديد من عوامل التضامن الأخرى. فعلى سبيل المثال، أدى التحديث الاجتماعي الاقتصادي إلى ظهور حركة نسائية عالمية تسعى للحصول على الحقوق السياسية والاجتماعية للمرأة. وهذه الحركة تتميز بالقوة، ليس فقط في أوروبا وأمريكا الشمالية، بل أيضًا أضحى لها جذور ثابتة في الدول المحافظة. وستمثل ثقلًا موازنًا مهمًّا للإسلام المحافظ في إيران. كما تصاعدت النزعات القومية وعادت إلى الظهور مرة أخرى وخاصة بين دول مثل اليابانوالصين، على الرغم من انتمائهم إلى الحضارة الكونفوشيوسية. ويضيف إذا كان الدين يمثل العامل الأساسي المحرك للحركات الشعبوية الجديدة في أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية، لكنه ليس العامل الوحيد، إذ تتداخل معه عوامل أخرى، مثل: النزعة القومية القديمة، والعرق، وعدم المساواة الاقتصادية، والذاكرة التاريخية المشتركة. الهوية وليس الثقافة: يرى "فوكوياما" أن مفهوم الهوية مفهوم واسع وأكثر مرونة بحيث يمكن من خلاله فهم السياسات المعاصرة بدلًا من الثقافة أو الحضارات القائمة على أساس ديني. فمفهوم الهوية يقوم على الاعتراف بكرامة العرق أو الدين أو الأمة أو حتى الاعتراف بالخصائص الفريدة لفرد ما. وفي هذا الصدد، اعتبر "فوكاياما" القومية والإسلاموية مظاهر مختلفة للهوية. فعدم الاعتراف بالقومية الصربية في الإمبراطورية النمساوية-المجرية عام 1914 هو ما دفع Gavrilo Princip إلى اغتيال الأرشيدوق Franz Ferdinand. ويضيف أن الهوية أضحت محدِّدًا للعديد من الظواهر في العالم المعاصر، فالتطرف الديني -على سبيل المثال- ليس مدفوعًا بالاعتقاد الديني في حد ذاته. فالكثير من الشباب الأوروبي المسلم الذين تركوا بلادهم للقتال ضمن صفوف تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا كانوا محاصرين بين ثقافتين؛ الثقافة التقليدية النابعة من تقديس الوالدين، والعلمانية الغربية التي نشئوا في ظلّها. وهذا الخلط قد أثّر بالطبع على نظرة المسلم الراديكالي لنفسه وللمجتمع من حوله. ولذلك، أصبح الدين في هذا السياق أداةً مفيدة للسياسين لحشد الدعم السياسي، وقد حدث هذا في أوروبا في القرن التاسع عشر عندما استخدم السياسيون الأوروبيون الهوية الوطنية لحشد الدعم وتعبئة أتباعهم. ووفقًا لهذا الوصف، يرى "فوكاياما" أن الهوية تتوافق بشكل أكبر مع حقائق عالم اليوم أكثر من محدد الثقافة القائم على أساس الدين. فإذا كان "هنتنغتون" قد ذهب إلى أن الحضارات قد أصبحت أكثر تماسكًا نتيجة لحدوث الاندماج الاجتماعي على المستوى الثقافي عبر القومي، إلا أن الملاحظ أن المجتمعات أصبحت مقسمة إلى مجموعة من الهويات الفرعية والأصغر، وهو ما يتجلى في الحركات القومية الشعبوية الجديدة في كلٍّ من روسيا وبولندا والمجر وأجزاء من أوروبا، لأن مصالحهم القومية غالبًا ما تكون في صراع وتطغى على أية محاولة لتحقيق التضامن فيما بينهم. ويُعد المثال الأكثر أهمية الذي يوضح أن الهوية لا تؤدي إلى التضامن الحضاري ولكن إلى انقسامات وشروخ لا نهاية لها، هو الحال في الولاياتالمتحدةالأمريكية. فقد ترسخت سياسة الهوية في أعقاب ظهور الحركات الاجتماعية في الستينيات عندما شعر كلٌّ من الأمريكيين من أصل إفريقي، والنساء، وذوي الإعاقة، والأمريكيين الأصليين، أنهم يتعرضون للتمييز والتهميش بطرق مختلفة. كما أدى ظهور تيار اليسار في الولاياتالمتحدة وأوروبا خلال مطلع القرن العشرين لتحقيق التضامن بين أعضاء الطبقة العاملة إلى احتضان مجموعة من الهويات الجديدة، وقد دفع هذا إلى إضفاء نوع من الشرعية على وجود هوية جديدة لليمين. وإذا كان خطاب الرئيس الأمريكي " دونالد ترامب" لم يحترم تجليات الهوية التي تميز الخطاب الأمريكي السياسي المعاصر، إلا أنه حفز صعود التيارات اليمينية والقوميين البيض. ولهذا تعد الهوية على خلاف الثقافة أفضل أداة لوصف السياسة في عالم اليوم، لأنها مبنية على أساس اجتماعي، كما أنها مفهوم قابل للنقاش والنقد، وذلك على العكس من مفهوم الثقافة الذي عبر عنه "هنتنغتون" لأنه مفهوم ثابت وغير قابل للتغيير، فالهوية ليست متجذرة من الناحية البيولوجية أو ذات قديمة المنشأ. فلم تكن القومية بالمعنى الحديث موجودة في أوروبا قبل الثورة الفرنسية، والمنطلقات العقائدية لكل من "بن لادن" و"أبو بكر البغدادي" لا تتوافق مع أي من المدارس الفقهية التقليدية الكبرى. كما أن الهويات المعاصرة القائمة على أساس الدين أو الأمة قد ظهرت لأغراض محددة، ويمكن أن تحل محلها هويات أخرى نتيجة للنضال السياسي. ويخلُص "فوكوياما" إلى أن نظرية "هنتنغتون" لا تتناسب مع الواقع الحالي، فالديمقراطيات الغربية في حالة حرب داخلية على الهويات الوطنية، ولذلك فقد أصبح الغرب مختلفًا عن ذي قبل. وكذلك فإن القوى المضادة للغرب من روسياوالصين تمثل دولًا قوية، ولكنها ليست كيانات عابرة للحدود تقوم على القيم الثقافية المشتركة. القيم العالمية: من أكثر المسائل التي أثارها "هنتنغتون" في كتاباته هي مسألة القيم العالمية. حيث لم يعتقد بوجود مثل هذه القيم، لأن الحضارات الكبرى في العالم قد بنيت على مجموعة معينة من القيم المشتركة التي تكمن جذورها في الماضي التاريخي المعقد، والتي شكلت في نهاية المطاف مجموعة من القيم غير المتكافئة. وقد رأى أنه لا توجد قيم عالمية تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية على وجه الخصوص، حيث ظهرت نتيجة للخبرة المسيحية الغربية، وما انتشارها في أماكن اخرى مثل اليابان أو كوريا الجنوبية إلا نتيجة للقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية، وبالتالي إذا اضمحلت تلك القوة مقارنة بالحضارات الأخرى، فسوف تتلاشى معها جاذبية الأفكار الديمقراطية. ويذهب "فوكوياما" إلى خطورة هذا الطرح السابق، لأنه من الممكن التعويل على وجود مجموعة معينة من القيم العالمية من خلال عملية التحليل التاريخي المعمق، فانتقال المجتمعات من مراحل البدائية إلى أشكال التنظيم المعقد في هيئة المجتمعات الصناعية الحضرية الكبرى، قد حدثت في جميع أنحاء العالم في ظل ظروف جغرافية ومناخية وثقافية مختلفة. فعلى سبيل المثال، ظهرت المجتمعات البدائية العشوائية ذات الأشكال المماثلة من التنظيم الاجتماعي في أماكن مختلفة من الصين إلى الهند إلى الشرق الأوسط إلى القبائل الجرمانية التي سيطرت على الإمبراطورية الرومانية. وقد حلت محلها في الكثير من المناطق في العالم مجموعة من المؤسسات التي أنشأتها الدولة، والمجتمعات التي سعت للدفاع عن حقوق الملكية من أجل البقاء اقتصاديًّا على المدى الطويل. فالتحديث الذي طال تلك المجتمعات هو عملية متماسكة لا يتم تحديدها ثقافيًّا في بعض جوانبها. ويتضح من خلالها وجود أشكال عالمية من التنظيم الاجتماعي التي استجابت للاحتياجات الوظيفية لمختلف المجتمعات لتحقيق عملية التطور. فالاعتقاد السائد بأن عملية التحديث لن يُكتب لها النجاح إلا إذا قامت على القيم الغربية يدحضه التطور الذي حدث في شرق آسيا، والتطور الذي من الممكن أن يحدث في أماكن أخرى في العالم. لذلك لم يكن "هنتنغتون" محقًّا دائمًا فيما طرحه من أفكار لأنها لا تتناسب مع واقعنا المعاش في الوقت الحاضر. *مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة