العملية السياسية تركيب عضوي معقد تساهم فيه فعاليات كثيرة و تغذيه نظريات و ممارسات و تطبيقات متنوعة.ولذلك لا يجوز اختزال الفعل السياسي في الانتخابات.لأن الانتخابات ليست نهاية المطاف، وليست هي منتهى ما يتطلع إليه المواطنون، ولاهي سقف التغيير الذي ينشدون. إن الانتخابات في جوهرها هي جزء من آلية ديموقراطية لصنع السياسات.وهي عملية لفرز القيادات السياسية الجديدة التي سيختارها الشعب لإدارة المرحلة ولتسيير دواليب الشأن العام.وهي أداة حضارية لتكليف من ادعى لنفسه الأهلية السياسية و الحكمة الإدارية و التدبيرية و امتلاك قيم التضحية والوطنية. هي فرصة ذهبية لكل سياسي طموح من أجل أن يبدع لا أن يجرب،و أن يبتكر لا أن يحاول، و أن يجدد لا أن يكرر، أن يساهم في التغيير لا أن يؤثث الفضاء، أن يخالط الناس لا أن يختبئ تحت القبب و في الدور و القصور. فقد مضى زمن الديكور السياسي و الديموقراطية الصورية و الانتخابات الشكلية التي تريد تلميع المشهد السياسي، وتعمل على توجيه الخطاب إلى الخارج استجداء لرضاه ومساعداته. مضى زمن تلك العبارة التي يحفظها الناس لكثرة ما سمعوها لسنوات طويلة من بعض المسؤولين( المهم هو المشاركة)، وهي عبارة تكشف عن عمق المأساة وحجم الاختلالات في الكثير من القطاعات.فليس الفضاء السياسي مختبرا لممارسة التجارب و البرامج المنقولة و المستعارة من هنا وهناك، وليس المواطنون فئران ساذجة لممارسة هذه التجارب. إن المواطن يريد الجواب الكافي والدواء الشافي لمشاكله و همومه. يريد حلولا لا وعودا، يريد سياسيين يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق لا آلهة تتربع على كراسي المجد وتطل على الناس من عل وتستوطن الأبراج العاجية لأجل مسمى قابل للتمديد و التجديد. لم يعد بإمكان المواطن ملازمة قاعة الانتظار السياسية التي مكث فيها أكثر من نصف قرن. فقد ملت قدماه الوقوف بباب البرامج السياسية العابرة، وسئمت أذناه سماع الأزليات و الخرافات التي صاغها الخيال و توارثتها الأجيال. ضاق المواطن ذرعا ببعض الصور الآدمية التي تغير مساحيق التجميل في كل مناسبة، تحاول أن تخفي بشاعة نواياها،لكن تجاعيد المكر و النفاق تظل بارزة تفضح صاحبها مهما تزين وتجمل. إن البرامج السياسية التي يراود بها السياسيون الرأي العام و يدغدغون بها مشاعر الطبقات المحرومة والشرائح المسحوقة و المهمشة ، يجب أن تكون مرجعا تنطلق منه عملية المحاسبة الشعبية و القانونية لكل من سولت له نفسه صيد الغنائم وانتهاز الولائم، ولكل من يحتمي بدرع الديموقراطية ليمارس طقوسا غاشمة لجني الثمار من الحقول التي زرعها الملايين بأحلامهم و انتظاراتهم. يجب أن تكون هناك آلية قانونية لمحاسبة عاشقي الصيد في المواسم الانتخابية حتى لا يتلاعبوا بعقول الجماهير و بأفئدتهم ويصادروا منهم أحلامهم و تطلعهم إلى التغيير،لابد من حماية مسلسل النضال الذي سقاه المواطنون بدمائهم الزكية. إن صياغة البرامج و نسخها من مصادر مختلفة داخلية و خارجية أمر في متناول كل جماعة سياسية،لأن غالبية هذه البرامج خطابات حالمة متعالية مفارقة مكرورة منسوخ بعضها من بعض، تقدم الحلول لأكثر المشاكل تعقيدا ، و تفتح الأبواب الموصدة بعصا سحرية، و تدعي امتلاك الحكمة الكافية لوضع حد لما تراكم من اختلالات بقدرة قادر. و الحقيقة أن رومانسية هذه البرامج السياسية تتحول إلى مجموعة من الأوهام والخيالات التي تدفع الناس إلى التعلق بخيوط الحلم وملاحقة السراب وبناء قصور من الرمل تهوي وتنهار مع أولى موجات إكراهات الحياة العامة. ولذلك تحتاج هذه البرامج إلى الواقعية في صياغتها و إلى التزام العلمية والتفكير المنهجي والاستراتيجي في اقتراحاتها لمعالجة القضايا الراهنة و المستقبلية دونما لجوء إلى المراوغة والدغدغة وتوظيف لغة السحرالمخادعة التي تبهر عقول الناس وتأسر قلوبهم بأقاويل و طلاسم مفارقة لا علاقة لها بالواقع المعيش. إن اختزال السياسات في النقاش الجاف الذي تمارسه النخبة عبر وسائل الإعلام هو شكل من أشكال الخطاب الإشهاري الذي يسيء إلى الحياة السياسية و يعيد الناس إلى درجة الصفر في علاقتهم بالشأن السياسي ، ويدفعهم إلى عدم الوثوق و التصديق . لأن السجالات السياسية الراهنة فيها نوع من الإرهاب الخطابي الذي يريد محاصرة الناس بالأحلام و الوعود على الطريقة القديمة المعهودة التي ذاق الناس مرارتها أكثر من مرة.فما تتلفظ به الأحزاب وما يروجه السياسيون في نقاشاتهم لم يعد يهم المواطن، لأنه يعرف أن الهاجس من وراء كل ذلك النقيق و النعيق هو الحصول على أكبر عدد من المقاعد. إنها مجرد عملية مألوفة مكشوفة لاستدراج المواطن و اللعب بمشاعره من أجل الظفر بصوته.فكثرة الصياح و التظاهر بالصلاح أسطوانة مشروخة لم تعد تطرب أحدا. ومن الغباء أن يعتقد أحد أن له صوتا شجيا يحرك المشاعر و الأفئدة، فهي إن تحركت فللسخرية أو للشفقة ليس إلا. إن الحراك الذي تعرفه البلاد اليوم يجب استثماره إيجابيا من أجل بنا ء المشهد السياسي على أسس جديدة وبوعي وطني متطور يراعي المتغيرات ويضع الأولويات و يرسم المستقبل بحروف واضحة لا لبس فيها ولا غموض.وأول ما يجب في هذا المسار هو احترام ذكاء المواطن وعدم الاستخفاف بقدراته العقلية ومهاراته التحليلية و التأويلية والإدراكية. وبعد ذلك لابد من استحضار الضمير الوطني وشهادة التاريخ عند كل سلوك سياسي ، لأن ذاكرة الوطن تختزن كل التفاصيل، وحجمها رحب وواسع لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها. فإذا كان المواطن فيما مضى مغلوبا على أمره وموجها بسلطة المال وسطوة الرجال ، فإنه اليوم قد تحرر من كل الأوهام. تحرر من حالة العبودية السياسية و الاجتماعية، تحرر من الوصاية ومن عقلية القطيع الوديع. ولهذا لا بد على البرامج السياسية أن تكون في مستوى هذا المواطن الجديد، المواطن الذي يطلب الكرامة قبل اللقمة، ويريد الحرية قبل المصلحة. هذا المواطن الذي وعي و أدرك وفهم، هذا المواطن الذي لن يتنازل عن حقوقه ولن يرحم مستغليه. لن يرحم الأحذية التي ألفت العبور على ظهره إلى نادي الكبار ومستقر التجار. سيحاسب كل المراكب وكل السائقين.سيصبح صوته لعنة تطارد المتلاعبين، وسوطا على رقاب الخائنين. ولذلك يجب أن يدرك محترفو المواسم الانتخابية أن الزمن قد تغير، أن زمن قطف الثمار المادية قد مضى و انقضى، وجاء زمن المتابعة و الحساب و زمن المعاتبة والعقاب. ولذلك فمن كان في نفسه ذرة من إحساس بالذكاء و الدهاء فليعلم أن المواطن أشد ذكاء، و أن حرمته خط أحمر، و أن حسابه عسير غير يسير. ولذلك أكرر التأكيد على أن نزاهة الانتخابات وشفافيتها وتجديد آلياتها ومساطرها ليس ذلك هو سقف التغيير الذي ينتظره المواطن، وليس ذلك غاية تقام من أجلها الدنيا. نعم هو مطلب أساسي و ممر لكل ممارسة ديموقراطية حقيقية، حتى تزول الأعذار وترفع المعيقات. ولكن المحك الحقيقي للأقوال و الخطابات الحزبية و البرامج السياسية هو يوم تسلم المفاتيح لفلان أو علان لقيادة البلاد. حينئذ سنعرف أين موطن الخلل، هل في الصناديق أم في الرجال؟؟.