نشرت الصّحافة الأدبية الاسبانية مؤخراً شذرات من مخطوطات ورسائلَ تتضمّن نصوصاً شعرية، وكتابات نثرية للشاعر الإسباني الأندلسي الكبير الرّاحل فيدريكو غارسّيا لوركا، كان قد كتبها بين 1928 و1930 في فترة صعبة من حياته، سواء على المستوى الإبداعي أو العملي أو الشخصي. يشير الناقد الاسباني "ميغيل غارسّيا بُوسادا" إلى أن مخطوطات غارسّيا لوركا، بما فيها مراسلاته، تعدّ من أغنى وأعمق ما كُتب في الأدب الاسباني الحديث في هذا المجال؛ إذ يحرّكه دوماً فيها واعز المعرفة والاتصالات، وهوَسه الدائم بالبحث عن الحقيقة بواسطة التعبير الأدبي. كانت كتابات لوركا تسمو فوق بؤس الحياة اليومية لتحلّق في الفضاء اللاّنهائي المُشرَع للخلق والإبداع، وهذا ما يفسّر وجود العديد من الأشعار، والخواطر، والإنطباعات، والرسومات في بعضها، فضلاً عن إشارات الشاعر الدائمة إلى مغامراته الإبداعية، المتحدّث دائماً في هذه الكتابات هو الشاعر الذي جعل من الشعر مادّة أساسية لحياته، لذا فإنه عندما يتوجّه بالكتابة إلى أقرب الناس إليه، أو إلى الذين يحبّونه، فإنّ كتاباته على الرّغم من ذلك، لا تخلو أبداً من الإشارة إلى الشّعر ومعاناته. انطباعات مُبكّرة هذه المخطوطات التي كان قد نشرها لأوّل مرّة الملحق الثقافي لكبرى الجرائد الإسبانية في الوقت الراهن" (أ.ب.ث) تعود لتؤكد لنا ما كنا نعرفه عن لوركا، ففيها يمكننا أن نتأمّله مراهقاً وهو بعدُ في مقتبل العُمر، وشرخ الشباب وريعانه ينشر ويشعر بالزّهو والفخار من مقالاته الأولى التي يدافع فيها عن اختياراته، وقناعاته، وإبداعاته الأدبية إزاء التوجّهات التي كان قد اختارها له والدُه، إننا واجدون في كتاباته المبكّرة الشاعر لوركا الذي كان يُكافح، ويُصارع الحياة في مدريد من أجل تحقيق النجاح الأدبي الذي كان يتوق إليه، والذي كان يفعل كلّ ما في وسعه من أجل إيصال مختلف إبداعاته الشعرية والمسرحية إلى الجمهور. تتضمّن بعض هذه المخطوطات والمراسلات أخباراً عن لقاءاته بشخصيات مشهورة معاصرة له، سواء في بلده إسبانيا أو خارجها، منها شخصية شارلي شابلن، وإعجابه بوالدته "هانّا شابلن" التي كانت تقدّم عروضَها الموسيقية باسم فنّي مُستعار هو "لِيلِي هارلي" في لندن قبل انتقالها للعيش في كاليفورنيا، فضلاً عن انطباعاته عن شخصيات أخرى تنتمي لعالم الأدب، والشّعر، والفنون، كما تحفل هذه المخطوطات بأوصاف دقيقة لكلّ ما كانت تقع عليه عيناه خلال سفرياته وتنقّلاته المتعدّدة في مختلف المناطق والجهات الإسبانية وكذلك في أمريكا، وكوبا، والأوروغواي والأرجنتين. والدة شارلو ولوركا إننا نجد في هذه المخطوطات بعض الكتابات والانطباعات التي خصّها الشّاعر عن الفنان العالمي شارلي شابلن، كان شارلو يتقاسم مع الشاعر الغرناطي الشهير غير قليل من أوجه التشابه والتماثل، والتقارب، وكان لوركا قد وجد في "الخبر المقتضب" الذي كانت قد نشرته الصحافة الاسبانية وقتئذ عن موت والدة شارلي شابلن مَنهلاً لتحريك خياله الإبداعي والجنوح به وبعاطفته ومشاعره نحو هذا الفنان الفريد الذي أضحك الملايين، كما أنه أبكى الملايين، وكان لوركا من أكبر المُعجبين بفنه، وعوالم إبداعاته، جاء في نصّ الخبر العابر: "نتيجة تعقيدات في جهازها العصبيّ ماتت الممثلة السّابقة والدة الفنان الشهير شارلو شابلن، وبعد أن علم شارلو بهذا الخبر أغمي عليه"! يقول الناقد الإنجليزي البروفسور "كرستوفر مورير"، الأستاذ بجامعة "هارفارد"، إن "فيديريكو غارسيا لوركا لا بدّ أنه قرأ هذا الخبر في جرائد العاصمة الإسبانية، إلاّ أنّه لم يمرّ بهذا الخبر مرور الكرام؛ إذ بعد أسبوع من نشره كان الشاعر يعيش فترات حرجة وصعبة من حياته، فإزاء النجاحات المتوالية التي كانت تحققها كتاباته، وأشعاره، ومسرحياته، على المستوى الإبداعي، كان يعيش أزمة نفسية حادّة". الشّهرة الغبيّة كان شارلو يجيد فنّ الضحك وسط الآلام، كان يدعو دائماً إلى التأمّل في أمريْن اثنيْن "الحزن الداخلي والحبور الخارجي". كأيّ ممثل في ذلك الإبّان، فإنّ شارلو لم يكن يُسمع له أي صوت خلال أدائه التمثيلي، وكان مجهوده بالتالي للتعبير الخارجي مضاعفاً، إنه كان يعبّر عن عواطفه، ومشاعره الداخلية بواسطة التلميحات، والإيحاءات، والهمسات، والحركات الميمية الصّامتة، وكان يلفت النظر إلى الفرق الكامن بين ما يشعر به ويراه. وفي المقام التالي، فإنّ شارلو كان ضحية "الشّهرة الغبيّة"، كان الشّاعر لوركا يقول عن هذه المفارقات: "الرجل الشّهير يشعر بمرارة في عمقه بينما تخترق صدره البارد الكلمات الصمّاء التي ينعته بها الآخرون". وهكذا تتحوّل قبعة الفنان إلى إكليل من شوك. يقول البروفيسور "كريستوفر مورير": "هذه التأملات في الواقع تعبّر عن لوركا أكثر ممّا تصوّر، أو تعبّر، أو تصف شابلن، فكثيراً ما وصف شاعر نيكارغوا الكبير المُجدّد روبين دارييّو لوركا بأنه مليونير الدموع، والغريب أن هذا النّعت أطلق كذلك فيما بعد على شارلو". تأمّلات (رقم 1) يقول الشاعر لوركا: "عندما كنتُ في كاليفورنيا نزلتُ ذات مرّة ضيفاً على والدة شابلن، كانت امرأة سخيفة جداً، وكانت تبكي بدون انقطاع عندما ينتهي إلى سمعها رنين أجراس صلاة التبشير، ومع ذلك كانت رقيقة وناعمة. كانت والدة شابلن لا تعترف سوى بعبقريتيْن اثنتيْن في هذا العالم وهما: وليم شكسبير وولدها فقط! لقد أقمت حداداً من دموع على موتها؛ إذ صادف أخيراً أنني اصبحتُ إلى البكاء أقرب، وإنه لشيء مُمتع حقاً أن أقول في داخلي وداعاً والدة شارلو، مأساتكِ كممثلة هزّت المسرح المعاصر". (الذي نلاحظه هنا أن لوركا يقول في النصّ السّابق إنه نزل ضيفاً على والدة شابلن، في حين إنّنا نعلم أن والدة شارلو ماتت في 28 أغسطس 1928، ونعلم كذلك أن "فرناندو دي ريّوس"، مُعلّم لوركا السّابق وصديق العائلة، كان قد اقترح عليه مرافقته إلى نيويورك لتعلّم الإنجليزية، واكتساب تجارب أدبية وإبداعية أخرى في العالم الجديد، وركبا البحر على متن الباخرة العملاقة (أوليمبيك) وهي أخت (تيتانيك) الشهيرة التي كانت قد غرقت من قبل، ووصل لوركا إلى نيويورك بتاريخ 26 يونيو 1929، ومكث بها تسعة شهور من يونيو 1929 إلى مارس 1930، وبعد ذلك سافر إلى كوبا، ثمّ إلى الأوروغواي والأرجنتين، لذا فإننا نشكّ في صحّة ومصداقية الرّواية السّابقة، حتى وإن جاءت هذه الأخبار مبثوثةً في النصوص المخطوطة آنفة الذكر المنسوبة إلى لوركا). ثم يلي ذلك قطعتان شعريتان، الأولى تحت عنوان: "الدجاجات البياضة" والثانية بعنوان: "صوت الشّعب" وهما قطعتان مُبطّنتان بسّخرية مُرّة وألم ممضّ. تأملات (رقم 2) يقول لوركا: "هناك فرق واضح جداً بين كلّ الرّجال وشارلو، كلّ الرّجال يضحكون من الأسماك الملوّنة، وشارلو كان يبكي عند رؤيتها. لم يستعمل أحد قبل شارلو "البكاء" بهذا الشكل الصّافيّ النقيّ، فقد كان البكاء باستمرار نتيجة حدث أو شيء، وجعل شارلو منه قضيّة، جعل منه نبعاً محايداً لا علاقة له بالسّبب الذي يثيره، أو يبعث عليه، إنه بكاء مدوّر، بكاء داخل بكاء". فالضّحك من أو مع الأسماك ا لملوّنة أمر واقع، وهو قد ضحك كثيراً، إذ إن الضّحك لا يتطلب كبيرَ مجهود أو عناء، أمّا البكاء فهو شيء آخر يعطى أو يقدّم للحبّ وللميّت الرّاحل كذلك، فالذي يبكي ينقضي، وشارلو من هذا النوع يقدّم بكاءَه للأسماك الملوّنة ضارباً بذلك المثل الذي لم يسبق تقديمه من قبل، لذلك فلحركاته، وسكناته، وهمساته، وضحكاته معنىً جديد". ويضيف لوركا قائلاً: "شارلو هذه المرّة عندما وصله نبأ وفاة أمّه لم يبكِ بل أغمي عليه، وكان ذلك أعظم لحظة في أعماله وحياته؛ إذ أبان بذلك عن قلب "آنسة" الذي يحمله بين أعطافه، وضلوعه، وأحشائه، واكتشف شارلو أن له جناحيْ إوزّ، إذ لم يسبق له أن أغمي عليه من قبل لأيّ سببٍ كان بهذا الشكل المثير". وبعد أن استرسل لوركا في تخيّل، ووصف جنازة والدة شارلو بغير قليل من السّخرية المغلفة بالآلام نصل إلى مقطوعة شعرية جديدة له، (بعد أن لوحظ نقص أو فراغ في الصفحتين 10 و11 من المخطوط) يقول في بعضها: "فلنُعطِ الأشياءَ المفرحة للموت السّعيد / فنأخذ الأشياءَ الرقيقة الناعمة لموت الأمس / نَصِفُ طفلاً نائماً وإبراً للخياطة / الجيران يقدّمون المشروبات لشارلو / وعازفات البيانو يتقدّمن للرّقص / الطلبة القدامى يشترون له عكازاً". ونقرأ على ظهر صفحة 12 من هذا المخطوط: "ماتت والدة شارلو/ التابوت أهدي لها من طرف المِستر هنري فورد / شارلو في الشبّاك لا يتوقّف عن البكاء / دموعُه فتافيت خبز / بالقرب من المقبرة يقبلها مُخترع / منذ الصّباح لم تمطر السّماء في الطابق الداخلي / ثلاثة عصافير ميكانيكية تغنيّ بدون انقطاع / لو شئتُ لأمكنني بعث الآلهة من جديد". *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم –بوغوطا- كولومبيا.