لقد كانت المسيرة الخضراء بالنسبة للملك الراحل الحسن الثاني خيارا لا بد منه للتأكيد على مغربية الصحراء بعد أن أكدت محكمة العدل الدولية وجود روابط قانونية بين سكان الصحراء والملك؛ لهذا فلما أقدم الملك على إعلان المسيرة الخضراء كان مساندا بشرعية قانونية دولية إلى جانب الشرعية التاريخية والدينية في حماية الثغور والحفاظ على وحدة التراب؛ حيث يقول الحسن الثاني في ذلك: "قررنا أن نسير بمسيرة سلمية خضراء مدعمين بحقوقنا، فالمسيرة لا يمكن لها أن تنجح إلا إذا كانت وراءها المشروعية بيد أن أية مسيرة لا تعتمد على المشروعية لن تكون شيئا آخر غير الغزو". إن اعتزاز الملك بالمسيرة الخضراء دفعه إلى اعتبارها "من الناحية البشرية أعظم مسيرة في العالم بأسره منذ فجر التاريخ، هي مسيرة رائعة فريدة بدون سلاح". لقد اعتبر الحسن الثاني نجاح المسيرة ولادة جديدة له وللمغرب؛ حيث صرح: "عندما نجحت المسيرة وعاد المتطوعون من الجنوب نظرت إلى بلدي نظرة جديدة، وكان لدي انطباع بأني ولدت فيها من جديد". بالفعل كان إحساس الملك صادقا ومعبرا، في الوقت نفسه، وهو "الناجي الأكبر "من انقلابين عسكريين فاشلين من المستحيل الخروج منهما إلا بمعجزة، الأول في مذبحة الصخيرات سنة 1971 والثاني في هجوم رهيب في الجو على الطائرة الملكية العائدة من فرنسا سنة 1972. كما واجه الملك معارضة يسارية شرسة علنية وسرية؛ فكيف لا يعبر الملك عن هذه الولادة الجديدة له وللمغرب؟ لهذا نصح الملك الحسن الثاني ولي عهده محمد السادس قائلا: "بعد المسيرة الخضراء قلت لولدي: إذا ما عرفت كيف تعالج الأمور فسأترك لك قرنا من السكينة والهناء؛ فاحرص على صيانة هذا التراث (تراث المسير الخضراء)". لقد أصبحت المسيرة الخضراء بالنسبة للملك مرجعية للوحدة والإجماع الوطنيين حول القضايا المصيرية؛ حيث يقول: "عن المسيرة ومعناها، وعن فلسفتها ومغزاها، أنها أولا مدرسة الوطنية تلك الوطنية التي تنجب الأفكار، تلك الأفكار التي تشحذ العزائم، تلك العزائم التي تدفع إلى الخطوات العملاقة التي من شأنها أن تهز الجبال وأن تطيح بما هو موجود وأن تعلي وتبني ما هو منعدم". لقد خلقت المسيرة الخضراء التي نادى بها الملك أجواء جديدة بالمغرب ميزتها انقشاع غيوم سنوات التوتر والعنف من سماء الحياة السياسية المغربية بين أحزاب المعارضة والنظام؛ حيث حصل الإجماع حول القضية الوطنية. وسنركز هنا على مواقف ثلاثة أحزاب سياسية هي: حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال. أولا: موقف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إن تبلور موقف الحزب من قضية الوحدة الوطنية يصعد إلى سنوات المقاومة، ولكن الموقف من قضية الصحراء بالذات معروف وثابت؛ فقد عبر الحزب عن هذا الموقف على إثر استدعاء الملك الحسن الثاني للسيد عبد الرحيم بوعبيد للتشاور معه في الموضوع على إثر التهديدات الإسبانية الرامية إلى خلق "دولة مصطنعة" بالصحراء. وعليه "بادر عبد الرحيم بوعبيد إلى استدعاء أعضاء اللجنة الإدارية الوطنية لمناقشة العرض الملكي، وتم عقد اجتماع الرباط في منزل الأخ عبد الرحمان بنعمر وترأسه عبد الرحيم وحضره كل من محمد الحيحي، وعبد الواحد الراضي، وفتح الله ولعلو، ووديع الآسفي، ومحمد عابد الجابري"، وبعد مناقشات طويلة انتهى الحزب إلى اتخاذ موقف إيجابي من الطرح الملكي بجعل سنة 1974 "سنة الصحراء"؛ وقد شارك عبد الرحيم بوعبيد شخصيا في الوفود التي توجهت إلى عدد من الأقطار لشرح القضية الوطنية بالخارج. وعلى إثر موقف الحزب الإيجابي من القضية، تم "رفع الحظر على مقرات الإتحاد وتم الإعلان على أنه منظمة غير محظورة". ويضيف محمد الجابري في "مواقفه" أنه عندما "رفعنا في الاتحاد الاشتراكي، منذ بدء الإعداد للمؤتمر الاستثنائي في خريف سنة 1974 شعار: التحرير والديمقراطية، ووضعناه تحت شعار أعم هو: استمرار حركة التحرير الشعبية، لم يكن ذلك من قبيل الشعارات من أجل الدعاية السياسية، بل كنا في الحقيقة والواقع نؤكد ضرورة استمرار وإنجاح المسلسل الذي تقرر فيه، في يونيه 1974، مسلسل استكمال تحرير التراب الوطني وبناء الديمقراطية، وبعبارة ألصق بواقع الأمور: استئناف النضال من أجل استرجاع الصحراء". إن الموقف المبدئي من القضية الذي عبر عنه الحزب ليس إلا تحصيل حاصل لمواقف سابقة؛ حيث يشير الجابري إلى كون السيد عبد الرحيم بوعبيد هو من أوحى للملك الحسن الثاني بضرورة عرض القضية على محكمة العدل الدولية ساعة تأزم الموقف الرسمي؛ حيث يقول الجابري: "هنا تأتي مبادرة الاتحاد الخلاقة، لقد اهتدى المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان يحمل هم الصحراء على كتفه، اهتدى إلى فكرة خلاقة اقترحها على الملك فوافق عليها، فكرة عرض القضية على محكمة العدل الدولية". وقبل ذلك، يقول محمد عابد الجابري، "عرض عبد الرحيم بوعبيد الفكرة على رفاقه في الحزب قبل طرحها على الملك، وحتى لا ننسى فإن المناضل الحزبي عبد الرحيم بوعبيد كان محاميا لامعا ومرافعاته لصالح المعتقلين السياسيين ضد النظام معروفة في أكثر من محطة تاريخية، ولكن هذه المرة ترافع الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد لصالح القضية الوطنية أولا وأخيرا". ثانيا: موقف حزب التقدم والاشتراكية في برنامج الحزب المصادق عليه في مؤتمره الوطني المنعقد بالدار البيضاء أيام 21، 22، و23 فبراير 1975، جعل الحزب من قضية الصحراء "مهمة الساعة: استكمال الوحدة الترابية". وبالفعل، فقد تصدرت المسألة اهتمامات المؤتمر الذي اعتبر المهمة صعبة ولن تتأتى إلا عبر "حشد جميع الطاقات من أجل عودة الصحراء إلى الوطن، وأن محاربة الاستعمار الإسباني من قضايا الساعة التي تتنافى مع أية ممطالة أو انتظارية، فمن العبث والحالة هذه أن ينتظر النظام الفرنكوي المنهار أن يمنحه المغرب هبة ما". لقد اتسمت سنة 1974 بتحولات كيفية فيما يخص نوعية المعركة التحررية من أجل استعادة الصحراء؛ فإجماع الشعب المغربي وكافة القوى الوطنية حول هذا الشعار وتنشيط الدبلوماسية المغربية، بما فيها إشراك ممثلي الأحزاب الوطنية في هذه المهمة، وتعبئة الحركة الوطنية وأجهزة الدولة، كل هذه العوامل جعلت قضيتنا الصحراوية تحتل مكان الصدارة من بين قضايا الساعة؛ ذلك أن النظام الإسباني اضطر إلى التراجع نتيجة عزلته. وهكذا أرغم الاستعمار الإسباني على التخلي عن مشروعه الأول الرامي إلى إقامة دويلة مزيفة مستبدلا إياه بمشروع استفتاء استعماري، كما أن هيئة الأممالمتحدة بدورها اتخذت قرارا يمنع إسبانيا من الإقدام على استئنافها المزعوم. إن النجاح الدبلوماسي في هيئة الأممالمتحدة يستحق الاعتبار وينبغي تعزيزه، لكن محكمة لاهاي سوف لا تبدي إلا رأيا استشاريا، ومهما كان هذا الرأي في صالح المغرب، فإنه غير كفيل بتحرير الصحراء؛ فالاستعمار لن يتخلى عن أقاليمنا في الجنوب إلا إذا أكره على جميع الأصعدة... فمن الضروري أن تشمل المعركة جميع الميادين، وفي هذا الصدد ينبغي تشجيع المقاومة المسلحة التي سجلت انتصارات هامة فوق الأرض المحتلة، وإمدادها بكل الإمكانيات الشعبية والرسمية. لا بد من تعبئة القوى الوطنية وتوحيدها مع تقوية القدرة الدفاعية العسكرية المغربية بتوفير الأسلحة العصرية وفتح باب التطوع كي يشارك الشعب المغربي إلى جانب قواته المسلحة التي عليها أن تكون مستعدة لمواجهة أي احتمال، ولخوض معركة التحرير عند الضرورة، جريا على التقاليد النضالية التي يتحلى بها شعبنا. ثالثا: موقف حزب الاستقلال من القضية الوطنية ظلت قضية استكمال وحدة المغرب الترابية أولوية الأولويات بالنسبة لحزب الاستقلال من منطلق أن إعلان استقلال المغرب في 18 نونبر 1956 لم يشمل سوى المنطقة الوسطى التي كانت خاضعة للحماية الفرنسية. وقد بين زعيم التحرير علال الفاسي أن نهاية الحماية يجب أن تكون منطلقا للعمل على تحرير باقي الأراضي المغربية، وأن على المغاربة مواصلة الكفاح لاستعادة أراضيهم في الشمال والجنوب التي ظلت خاضعة للنفوذ الأجنبي. لقد سبق أن أعلن زعيم التحرير علال الفاسي في رسالة وجهها إلى مؤتمر الشبيبة الاستقلالية بفاس في 25 مارس 1956 أن استقلال المغرب سيظل ناقصا ما لم يتم تحرير الأجزاء الصحراوية في الجنوب. وفعلا تم استرجاع بعض الأراضي المغتصبة تدريجيا؛ حيث فاوض المرحوم بلافريج، الأمين العام للحزب، بصفته وزيرا للخارجية، الحكومة الإسبانية، فاستعاد المغرب منطقة طرفاية في 1958 كما تم استرجاع سيدي إيفني في 1969. ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف إسبانيا عن ممارسة سياسة التسويف والمماطلة للحيلولة دون استرجاع المغرب لصحرائه. وإزاء هذا الموقف الاستعماري واصل حزب الاستقلال نضاله من أجل استكمال الوحدة الترابية؛ فأنشأ زعيم التحرير علال الفاسي مجلة "صحراء المغرب" وطالبت عريضة الشبيبة الاستقلالية في 11 يناير 1971 بتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب. ووجه زعيم التحرير علال الفاسي في 7 ماي 1974 نداء إلى المسؤولين العرب ينبههم فيه إلى مسؤولياتهم لإنقاذ عروبة الصحراء بإنقاذ مغربيتها، وعرف ذلك النداء "بنداء الكويت" تيمنا بنداء القاهرة، وأمام عزم إسبانيا عن تنظيم استفتاء بالصحراء انطلق المغرب، ملكا وحكومة وأحزابا سياسية وشعبا، في تعبئة وطنية لاسترجاع الصحراء، وقد شاركت قيادة حزب الاستقلال في حملة شملت العديد من الدول لتؤكد حق المغرب في استكمال وحدته الترابية. وبمناسبة تنظيم المسيرة الخضراء تجند حزب الاستقلال لإنجاح هذه المسيرة، وأكد أن الحل الأول هو مغربية الصحراء والحل الثاني هو مغربية الصحراء والحل الثالث هو مغربية الصحراء. ولكن هل كانت عودة الصحراء فقط باتخاذ المواقف المبدئية دون تكاليف مادية؟ (يتبع في المقالة المقبلة: تكاليف إدماج الصحراء)