أضفى دستور فاتح يوليوز 2011 على نظام حكومي أفرزه حراك شعبي بتجاوب ملكي طابعا مؤسساتيا تجلى من خلال تحويل الوزير الأول إلى رئيس للحكومة، يتم اختياره وفق نفس شعبي وانتخابي، بمنطوق الفصل 47 الذي "يعين بمقتضاه الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها"، وبتزكية تشريعية بمقتضى منطوق الفصل 88، وبصلاحيات واسعة لرئيس الحكومة، التي من بينها ممارسة السلطة التنظيمية بمقتضى الفصل 90 من الدستور، والتعيين في "الوظائف المدنية في الإدارات العمومية وفي الوظائف السامية في المؤسسات والمقاولات العمومية" بمقتضى منطوق الفصل 91. ولكن القرارات الأخيرة للحكومة، خاصة المرسوم الحكومي المتعلق بالتجنيد الإجباري والمرسوم الحكومي الخاص بالإبقاء على التوقيت المستمر طيلة السنة، والطريقة التي اتخذت بها هذه القرارات، تطرح تساؤلات من طرف المتتبعين ومن مكونات الرأي العام عن الأسباب الكامنة وراء انتهاج حكومة العثماني لهذه الطريقة المتسرعة والمرتبكة في إصدار قرارات لها انعكاسات كبيرة على فئات عريضة من المجتمع دون تهييئ فكري وإعلامي مسبق للرأي العام، أو خلق نقاش عام يهيئ الأجواء المناسبة لتقبل مثل هذه القرارات الحكومية. الانقلاب السياسي على الإرادة الحكومية يبدو أنه على الرغم من تصدر حزب العدالة والتنمية لنتائج الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016، وتعيين الملك بنكيران رئيسا للحكومة تجسيدا لمقتضيات الدستور وتجاوبا مع إفرازات صناديق الاقتراع الشعبي، فقد كانت هناك نية سياسية مبيتة للانقلاب على هذا الوضع. ولعل هذا ما استشعره رئيس الحكومة المعين؛ إذ صرح في خروجه الأول أمام الصحافيين يوم الاثنين 10 أكتوبر 2016 بأن "هناك توجها يحكم هذه المشاورات التي جاءت بعد الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر الجاري"، مضيفا أن "المشاورات يجب أن تؤسس على أساس احترام الإرادة الشعبية"، مؤكدا على ضرورة احترام قواعد الديمقراطية التي جاءت بها الانتخابات. لكن بالموازاة مع هذا التصور السياسي لبنكيران المصادق عليه من طرف الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، كان هناك خطاب داكار الذي رسم بشكل أساسي مقاربة تختلف جذريا عن الخلفية السياسية التي رسمها بنكيران. ففي هذا الخطاب، الذي يعتبر أول خطاب ملكي يلقى من خارج المملكة ومن بلد إفريقي، تطرق الملك إلى "أن المغرب يحتاج إلى حكومة جادة ومسؤولة"، وبلغة صارمة أكد أن "الحكومة المقبلة لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية". وعلى هذا الأساس، واجه بنكيران بلوكاج سياسيا تمثل في فرض مجموعة من الإملاءات السياسية كان من أهمها إبعاد حزب الاستقلال بزعامة شباط، والقبول بضم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بزعامة لشكر إلى الأغلبية الحكومية؛ ما جعل المشاورات تراوح مكانها، خاصة بعدما تشبث رئيس الحكومة المعين بضرورة عدم إدخال الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ضمن تشكيلة الحكومة المقبلة، مشخصنا خلافه مع الكاتب الأول لهذا الحزب الذي كان يتهمه بتورطه في مؤامرة الانقلاب عليه، حيث رهن عدم مشاركة هذا الأخير في تشكيلة الحكومة ببقائه رئيسا لها. مما عثر مشاورات بنكيران وجعلها تدخل الباب المسدود لتنتهي بإقالته دون أن يتم استقباله من طرف العاهل المغربي ليعرض عليه تقريرا بشأن ماراتون مشاوراته؛ إذ بمجرد عودة الملك إلى البلاد، صدر بلاغ من الديوان الملكي "ينهي مهمة رئيس الحكومة وعبد الإله بنكيران، ويكلف الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية الدكتور سعد الدين العثماني بتشكيل الحكومة في أقرب وقت". التحكم السياسي في التشكيلة الحكومية يبدو أن تعويض بنكيران بشخصية العثماني كان الغرض منه ليس فقط خلخلة الانسجام داخل الحزب المتصدر للانتخابات، بل أيضا انتقاء شخصية مطواعة تقبل بالتحكم في مكوناتها دون أن تكثر من اللغط والمماحكة التي كان يبديها بنكيران. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال كل التعديلات التي خضعت لها حكومة العثماني. فعلى إثر تداعيات حراك الحسيمة، تم إعفاء عدة وزراء من هذه الحكومة استنادا إلى تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي ركزت على بعض مظاهر قصورهم؛ إذ شملت عملية ما سمي بالزلزال السياسي إعفاء وزير السكنى وسياسة المدينة السيد نبيل بنعبد الله رغم ثقله السياسي كأمين عام لحزب التقدم والاشتراكية وحليف أساسي لبنكيران، وإعفاء وزير الصحة المنتمي للحزب نفسه، في حين كانت عقوبة حرمان وزير الثقافة السابق في حكومة بنكيران الأولى السيد الصبيحى من تقلد أي منصب وزاري مستقبلا ضربة سياسية ثالثة وجهت لهذا الحزب. وفي السياق نفسه، تم إعفاء وزير التربية والتعليم محمد حصاد، وحرمان كل من كاتبة الدولة في البيئة السيدة الحيطي، ووزير السياحة لحسن حداد، من تقلد أي منصب مستقبلا. إلى جانب ذلك، تم خلق وزارة منتدبة للشؤون الإفريقية وتكليف شخصية منتقاة من طرف القصر لتدبيرها. وبالتالي، نسفت عملية هذا الزلزال السياسي أي تحكم لرئيس الحكومة في أغلبيته الحكومية، حيث ظهر ذلك بالخصوص بعدما تمت إقالة كاتبة الدولة في الماء دون علمه المسبق. التأثير السياسي في طريقة اشتغال الآلية الحكومية وعلى غرار طريقة إصدار حكومة العثماني لقرار التجنيد الإجباري الذي اتسم في نظر العديد من المتتبعين والرأي العام بالفجائية والتسرع، أصدرت هذه الحكومة قرارا بالإبقاء على التوقيت الصيفي طيلة فصول السنة بشكل أحاط به الكثير من الارتباك واتسم بالكثير من الارتجال والتسرع. الاختراق الحكومي ومرسوم قانون الخدمة العسكرية إن أي قرار سياسي مرتبط ببيئة قرارية أو ظرفية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تمهد لأجواء اتخاذ هذا القرار وتهيئ الرأي العام لاستقباله، خاصة إذا كان يهم شرائح واسعة من المجتمع. وبالتالي، فقد أثار إعلان الأمانة العامة للحكومة "أن مجلس الحكومة سينعقد يومه الاثنين، تزامنا مع ذكرى ثورة الملك والشعب، لمناقشة نقطة فريدة تتعلق بمشروع قانون الخدمة العسكرية رقم 44.08"، عدة تساؤلات حول حيثيات هذا القرار والخلفيات التي تكمن وراءه، خاصة وأن انعقاد مجلس الحكومة قد حدد في فترة عطلة صيفية، وفي غير اليوم المقرر لانعقاده، وهو يوم الخميس. وفي هذه الأجواء من الترقب الشعبي، قدم وزير الداخلية عرضا مفصلا أمام أنظار المجلس الحكومي، تطرق فيه إلى تفاصيل قانون الخدمة العسكرية والهدف منه الذي يكمن في "تأطير الشباب المغربي على قيم المواطنة"، معتبراً أن "عودة الخدمة العسكرية أمر إيجابي في المرحلة الحالية". لكن يبدو أن هذا القرار قد أثار، خاصة بعد المصادقة عليه من طرف مجلس وزاري ترأسه الملك، ردود فعل مختلفة، بحيث رأت فيه بعض الفعاليات الشبابية قرارا يبطن خلفية أمنية تذكر بالخلفية السياسية التي حركت أول مرسوم ملكي متعلق بإحداث وتنظيم الخدمة العسكرية سنة 1966، التي كانت تستهدف بالأساس إعادة ضبط الشارع المغربي بعد سنة فقط من انتفاضة الدارالبيضاء من خلال احتواء بعض العناصر الراديكالية الشابة، خاصة تلك الحاصلة على شواهد عليا التي كانت تنتمي إلى بعض الأحزاب اليسارية المعارضة لنظام الملك الراحل الحسن الثاني. ولعل تشكيك قسم من الرأي العام في أهداف هذا المرسوم، الذي يرجع بالأساس إلى عدم التهييئ الحكومي لهذا الرأي العام، هي التي دفعت الملك في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية لخريف 2018 إلى التأكيد على البعد التربوي والمواطني والتكويني لهذا التجنيد. الارتباك الحكومي ومرسوم الإبقاء على التوقيت الصيفي تجدر الإشارة إلى أنه قبيل انتهاء أجل العمل بالتوقيت الصيفي بموجب المرسوم الحكومي الصادر في أبريل 2018، واصلت وسائل الإعلام الرسمية، من قنوات تلفزية وإذاعية، الإعلان عن التخلي عن التوقيت الصيفي والرجوع إلى العمل بالتوقيت الشتوي "ابتداء من الساعة الثالثة من يوم الأحد 28 أكتوبر 2018، وتغيير مواعيد نشرات الأخبار اليومية وفقا لذلك). غير أنه بدون سابق إخبار أو إشعار، أعلن الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة عن اتخاذ الحكومة لقرار الإبقاء على هذا التوقيت طيلة السنة، مبررا ذلك بما توصلت إليه دراسة تم إنجازها في هذا الموضوع أظهرت محاسن عدم الاستمرار في تغيير هذا التوقيت كل سنة مع ما يرافق ذلك من تداعيات صحية ونفسية على الساكنة، مشيرا إلى أن تطبيق هذا التوقيت ستتم مصاحبته بإجراءات تسهل عملية تأقلم شرائح الشغيلة والمتمدرسين مع هذا النظام التوقيتي المفروض. وقد أظهر هذا الوضع ارتباكا ملفتا في صنع القرار الحكومي وعدم التنسيق بين أجهزة الدولة في الإخبار والإعلام وبين عمل حكومة العثماني وعملية إصدارها لمراسيمها الحكومية. لكن إلى جانب هذا الارتباك الحكومي، اتسم اتخاذ هذا المرسوم بالكثير من التسرع والارتجال، حيث تم الإعلان عن اجتماع استثنائي لمجلس الحكومة صباح يوم الجمعة على الساعة التاسعة والنصف لتدارس نقطة فريدة تتعلق بإصدار مرسوم هذا التوقيت؛ الشيء الذي يذكر بالاجتماع الاستثنائي السابق للحكومة الذي تدارس نقطة فريدة تتعلق بقرار التجنيد الإجباري قبل أن تتم المصادقة عليه من طرف مجلس الوزراء الذي ترأسه الملك. ومما زاد من حدة هذا التسرع والسرعة القياسية لطريقة اشتغال الحكومة هو أن هذا المرسوم قد صدر في الجريدة الرسمية ليوم السبت 27 أكتوبر 2018 قصد تنفيذه قبيل الانتهاء من العمل بالتوقيت الجاري به العمل المحدد في 28 أكتوبر 2018. وبالتالي، فقد أدت طريقة اشتغال الحكومة بهذا الشكل إلى ردود فعل قوية من طرف الرأي العام عكستها وسائل التواصل الاجتماعي التي عبرت من خلال تصاريحها وسخرياتها عن امتعاض شديد من عدم تفاعل هذه الحكومة مع المطالب الملحة التي لا تتعامل معها بالاستعجال نفسه الذي تعاملت به مع نظام توقيت ستكون له بلا شك آثار سلبية على المزاجية النفسية والاجتماعية لغالبية السكان. ولعل هذا ما دفع بالعديد من الفعاليات الحقوقية والاجتماعية إلى التظاهر والتنديد بأسلوب هذه الحكومة التي لا تأخذ الوقت الكافي لتهييء الرأي العام لاستقبال هذا النوع من القرارات. وعموما، فإن أزمة حكومة العثماني التي خلفت حكومة بنكيران لا ترجع إلى أمور إجرائية أو تقنية، بل تعود بالأساس إلى الالتفاف السياسي على مكتسبات الحراك السياسي لفبراير 2011، الذي أفرز دستورا قعد لمؤسسة رئاسة حكومة كان من الممكن أن تتحول إلى قطب سياسي مستقل وحيوي قبل أن يتم ابتلاعه من طرف الرمال المخزنية المتحركة التي اكتست لبوس ملكية تنفيذية؛ إذ أدى تواطؤ طبقة سياسية متكلسة، وانتشار النزعة الشعبوية باستعراضاتها اللفظية، وافتقاد الخبرة في تسيير الشأن العام، وضرب مقومات الطبقة المتوسطة... إلى تفويت فرصة إخراج مؤسسة رئاسة الحكومة من ربقة المجال المخزني من خلال بناء مقر مستقل لرئاسة الحكومة بعيدا عن أسوار وأبواب تواركة، يضم كل مصالح هذه المؤسسة بوزاراتها المنتدبة ومرافقها المختلفة. كما أن الافتقار إلى شخصية سياسية مجربة ومحنكة لتولي هذا المنصب قد ساهم بشكل كبير في تواري هذه المؤسسة التي أصبحت اسما دستوريا بلا مسمى سياسي.