نريد أن ننبه، في مستهل هذا المقال، إلى أن الموقف العدمي الحقيقي في أي شأن عام هو الإقرار بفساد الشيء وإتيانه، وهذا ما عليه جل الأحزاب اليوم ونخبتها السياسية والثقافية. لقد أجمعت جميع الأحزاب على أن كل الانتخابات التي نظمتها وزارة داخلية النظام منذ انتخابات 29 ماي 1960 الجماعية، ولا أجازف في تعميم هذا الحكم السياسي، شابها التزوير الممنهج، ولكن هذه الأحزاب تستمر في لعبة النظام اللامتناهية وتتواطأ معه على حساب إرادة الشعب واختياراته وانتظاراتها ومستقبله السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لقد أمعن النظام، عبر وزارة داخليته وأجهزتها الأمنية، التي لم تكن في خدمة المواطن منذ الاستقلال حتى الآن، وتطاول على إرادة الشعب واستخف بها، فنكص على عقبيه ولم يف بوعده للحركة الوطنية بإقامة نظام ديمقراطي وملكية برلمانية وانتخابات حرة ونزيهة غداة الاستقلال. فقد عين مخزنيا لرئاسة أول حكومة، شماتة في قادة الحركة الوطنية الشرفاء الأحرار، وأجرى انتخابات بلدية وبرلمانية، على مدى قرابة ستة عقود، تحت وصاية مطلقة لوزارة الداخلية والأجهزة الأمنية وأقام نظاما سياسيا شموليا وجعل ثروات البلد دولة بينه وبين خلانه وملئه السياسي وأصبح الطريق نحو البرلمان لا يمر عبر صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية وإنما عبر القصر والإرادة المقدسة لساكنه. لا يختلف اثنان عاقلان على أن الانتخابات آلية لتداول السلطة بين قوى سياسية لإدارة شؤون الدولة بتفويض من الشعب، صاحب الشرعية الأصلي، والتي يعبر عنها من خلال اختياره لمن يتحمل هذه المسؤولية السياسية عبر صناديق اقتراع حر ونزيه في ظل قوانين انتخابية وأنظمة ذات الصلة تعنى بتنظيم عمل المؤسسات الدستورية، خاصة مجلس النواب، بيت الشعب، صادرة عن نوابه وليس عن وزارة داخلية النظام. لقد دفع مناضلون شرفاء منذ الاستقلال ومن أجل الاستقلال، من كل ألوان الطيف السياسي والإيديولوجي، الثمن من أرواحهم وحريتهم لنيل هذه الحقوق السياسية والمدنية وانتزاعها من قبضة النظام ووزراء داخليته، ابتداء بالجنرال محمد أوفقير، ضابط فرنسا في القصر الملكي، حتى اليوم، مرورا بفؤاد الهمة، الذي لا يتوانى في التبجح بصداقته للملك في كل مناسبة وبغير مناسبة في استهتار بخطورة اللحظة التاريخية الدقيقة التي تمر بها الدولة المغربية. إن صديق الملك لا يدرك بأن الأمر لن يتوقف عند سحق العدالة والتنمية أو قطع الطريق أمام القوة المتنامية في الشارع لجماعة العدل والإحسان ولليسار الوطني، قطبي راحة حركة شباب 20 فبراير المباركة، أو الحصول على أغلبية مقاعد مجلس النواب والظفر بمنصب رئيس الوزارء على مقاس حليفه وصنيعه مزوار، إن الأمر يتعلق باستقرار مجتمع ومستقبل دولة تقع على مرمى الثورات العربية، وإنه أيضا إصرار شرائح عريضة من الشعب المغربي تقوم بإنزال نضالي واجتماعي شبه يومي منذ شهر فبراير المنصرم إلى أن تتحقق مطالبها في تغيير وضعنا السياسي القائم وتحديد وتقييد دور النظام الملكي فيه دستوريا وسياسيا واقتصاديا ودينيا. يراهن النظام دائما على سذاجة الأحزاب في التعامل مع خطاياه السياسية القاتلة منذ الاستقلال، كما يراهن على قابليتها لخيانة مبادئها وتاريخها ودماء شهدائها وضعفها أمام ألاعيبه المخزنية وعروضه المغرية من مناصب عليا محتكرة وتتوارث ومال عام مستباح وأشياء أخرى سيذكرها التاريخ وتُكشف في ردهات المحاكم يوم تدق ساعة العدالة، كما هو الشأن اليوم في تونس ومصر وليبيا وغدا في اليمن وسوريا و.. إننا نريد المشاركة في انتخابات تحترم خياراتنا وأصواتنا وكرامتنا وليس أن تقول لنا أحزاب شجرة النظام الملعونة كل مرة هذه آخر انتخابات مزورة وتتلاعب بمشاعر المواطنين وتستخف بذكائهم بالقول إن سلطات النظام اتخذت موقف الحياد السلبي. تُشرف وزارة داخلية النظام والأجهزة الأمنية والاستخباراتية على هذه الانتخابات منذ فجر الإستقلال، وبالأخص في هذه اللحظة السياسية التاريخية، لأنها تعلم بأن أي خطأ في حساباتها ستكلف النظام ثمنا باهظا. نقول لهذه الوزارة وأعوانها، تُخطئين في التسديد والتقدير لأن النظام سيخسر على المدى الاستراتيجي وفي كل الأحوال. إنه انحراف في طبيعته ولا يمكن أن تُقومه قوانين انتخابية أو تقطيع الدوائر ولا حتى خيانة أحزاب باعت وطنها بثمن التراب أو دعم بعض العواصمالغربية الحليفة. إننا نريد انتخابات ينبثق عنها مجلسا نيابيا يمثل إرادة الشعب وليس خريطة حزبية مبلقنة بسبب مقاس الرقابة المخزنية وتدخلات وزارة الداخلية عبر آليات التقطيع الانتخابي، نريد مؤسسة تشريعية يحرك ضميرها وفعلها السلطة والشرعية التي يمنحها الشعب وليس التوجيهات المخزنية التي تحاصرها والحسابات الحزبية الضيقة أو المصالح الشخصية، كما نريد انتخابات تفرز لنا حكومة شرعيتها اختيار الشعب لها داخل بيت الشعب، مجلس النواب، وليس داخل ضريح مولاي ادريس زرهون أو ردهات القصر ودهاليز وزارة الداخلية. لسنا عدميين حينما ندعو اليوم إلى تقديم مصلحة المقاطعة على مفسدة المشاركة في ارتكاب جريمة العصر، اغتصاب إرادة الشعب، في الوقت الذي تشتعل الساحات العربية ثورة في وجه الطواغيت، غير مقبول اليوم أن نكون شركاء في إهدار هذه الفرصة التاريخية لجعل النظام حقيقة، كما يقول دائما في خطبه، خديم الشعب المغربي. أدعو حركتنا المباركة والقوى الداعمة لها وأحرار وحرائر المغرب في الوطن والمهجر ليس فقط إلى مقاطعة هذه الانتخابات، حتى يتعرى النظام وتنكشف عوراته أمام الرأي العام الوطني والدولي وتسقط ادعاءاته حول الإصلاح واحترام إرادة الشعب، وإنما إلى إسقاط حكومة وبرلمان سينبثقان عن هذه الانتخابات غير الشرعية، حكومة وبرلمان ولدا من زواج متعة بين القصر وأحزاب شجرته الملعونة على حساب مستقبل الدولة المغربية والمجتمع المغربي، على حساب انتظارات الشعب وطموحه في إقامة نظام سياسي مسؤول وصياغة دستور يعبر عن إرادته ويتمتع بشرعيته. لقد عمل النظام، منذ انطلاق حركة شباب 20 فبراير المباركة، على ترتيب أوراقه المهترئة وبيته السقيم لفرض الأمر الواقع، وجمع كل ما يملك من آليات وقوى وتحالفات لكسب المزيد من الوقت، مراهنا على أن تفتر الحركة ويدب الخلاف بين مكوناتها وتنهزم أو تتعثر الثورات العربية، ليحقق بذلك مخططاته على يد هيكلة جهنمية سداسية الأذرع يفوز بها في الانتخابات المقبلة ويضمن ورقة المرور بسلام فوق صراط الثورات العربية. الذراع الأول سياسي وهي مجموعة "G8" كنواة لتحالف أوسع يقوده صديق الملك فؤاد الهمة نحو كرسي رئاسة الحكومة وأغلبية نيابية، والذراع الثاني اقتصادي مالي وهي مجموعة "ONA" كنواة لتمويل المشروع السياسي ، يشارك فيها، رغبا أو رهبا، أقطاب المال والأعمال ببلادنا، والذراع الثالث برأسين استخباراتي "DGED" ودبلوماسي "MAEC" لحشد التأييد الدولي والتسويق لمشروع الإصلاح وللحكومة المقبلة كصفقة مقابل خدمات تبحث عنها عواصم غربية في منطقتنا المغاربية، ومتابعة معارضي النظام عبر العالم. أما الذراع الرابع، فله مهام أمنية "DST" لمراقبة خصوم النظام ومعارضيه والتنكيل بالمناضلين الشرفاء داخل وخارج حركة 20 فبراير واعتقالهم وإجهاض تحركاتهم الرامية إلى مقاطعة سياسات النظام وفضحه وطنيا ودوليا، والذراع الخامس عسكري "FAR"، خاصة الطبقة الموالية للنظام من الرتب العليا، والتي فتح لها الملك الحسن الثاني، غداة انقلابات 71 و72، خزائن الدولة بحرا وأرضا، لأداء نفس المهام القمعية التي أدتها في حق الشعب المغربي أعوام 1959 و1965 و1981 و1983 و1990 في الريف المجاهدة والدار البيضاء المناضلة ومراكش المرابطة وتطوان الغاضبة وفاس العلمية، إضافة إلى المقابر الجماعية السرية التي كشف عنها تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة. وأخيرا الذراع السادس الدولي، وهو الأخطر، "A.P.W.N"، محور باريس-واشنطن-الأطلسي، الذي يمثل الفناء الخلفي للنظام والذرع الواقي من أي مخاطر أو انفلات داخلي يهدد مستقبل الملكية في المغرب، التي أحاطت بها الثورات من كل يابسة وتواجه بحر العداء اليميني الإسباني التريخي، الذي سيفوز في الانتخبات المقبلة، مما يفسر انتخاب المغرب مؤخرا عضوا غير دائم (غير فاعل في الحقيقة) في مجلس الأمن، تحصينا له من التقلبات السياسية الإقليمية والثورات العربية والضغوطات الدولية. إن هذا الذراع هو صمام أمان النظام في وجه ثورة الشعب المغربي السلمية المطالبة بالتغيير. لقد تعبنا من وعود النظام ولم يتعب من التزوير منذ أول انتخابات مطلع ستينيات القرن الماضي، ومللنا مناوراته المكررة، ونريد أن نتقدم نحو المستقبل بدل أن يجرنا إلى الماضي بتقاليده القديمة والدوران حول ذاته المقدسة، نريد انتخابات المواطنة الحرة وليس انتخابات العبيد ونريد مؤسسات دستورية منتخبة بنزاهة ومسؤولة أمام نواب الشعب فقط وليس مؤسسات تسير بتوجيهات مستشاري الملك وبعض السفارات الأجنبية المعتمدة ببلادنا ونريد ديمقراطية حقيقية تمنح تداولا سلميا ومدنيا على السلطة وليس ديمقراطية مجازية لا مثيل لها في الأمم المحترمة. امنحوا الشعب المغربي الكريم هذه البيئة السياسية السليمة، من ضمانات قانونية ودستورية وساسية وإشراف مستقل وطني ودولي على الانتخابات ، يكون أول مشارك فيها وداع إليها، وإلا كان أول كافر بها وداع لمقاطعتها، لأن درء مفسدة المشاركة في الانتخابات، بالدعوة إلى مقاطعتها، أولى من مصلحة المشاركة فيها ما دام النظام لازال على عادته القديمة ووفيا لطبعه غير الديمقراطي. [email protected]