(2) توطئة: إن التهافت الغربي الكبير على كتاب الاستشراق، وترجمتَه إلى عشرات اللغات، تقابلُه، مع الأسف، محدوديةٌ كبيرةٌ في الاقبال عليه من طرف القارئ العربي العامِّ. لقد ظل، منذ ترجمته المتأخرة إلى اللغة العربية، حَبيسَ الدوائر الأكاديمية، وهذا مُستغربٌ جدا، لأن الشرقَ، موضوع َالاستشراق، هو شرقُنا نحن؛ فكيف لا ينْتَشر بيننا هذا الكتابُ المِفْصَلي الانقلابي الذي يدفع في اتجاه ِنهضَة معرفية شرقيةٍ إسلامية تتحدثُ هي عن نفسها بدلَ ترك الآخر المُغرض يفعل ذلك؟ وأقدم في الآتي الحلقة الثانية من القراءة. لِنميز الآن بين الاستشراقِ القديم والاستشراقِ الحديث: حتى عصرِ النهضة الأوروبية لم يكن الاستشراقُ يعني شيئا آخر غير التخصص في لغات أقاليم الكتاب المقدس، ومن رُواده "ايرينْيوس" و"غِيوم بوستيل". هذا الأخير كان "يتفاخر بأنه يستطيع أن يَعبُر قارة آسيا، حتى يصل إلى الصين، دون أن يحتاج إلى مترجم"، (ا. سعيد: ص111). منطلق الاهتمام بلغات الشرق، وبالتالي ما يُعتبر في الغرب استشراقا رسميا، يعود إلى صدور قرار مجلس كنائس مدينة "فْيِين" الفرنسية: 1311م. نص هذا القرار على إنشاء كراسي الأستاذية لعددٍ من اللغات الشرقية. أما من ناحية الحدود الجغرافية، حيث يظهر الشرق والغرب ككِيانين مُتميزين، فأمر ضارب في عمق التاريخ: يعود، ثقافيا، إلى ملحمة الالياذة. يحضر هنا بقوة، طبعا، الرحالة والإخباري "هيرودوت"، كما تحضر كل فتوحات الإسكندر الأكبر في الشرق. مع نهاية القرن الثامن عشر، بدأ الاستشراقُ الحديث، مُخلفا وراءه الهاجس الديني الذي انبنى عليه الاستشراق القديم. اعتبارا لمؤثرات عصر الأنوار سيَنحو الاستشراقُ الحديث صوب العَلمانية؛ بمعنى حضور الدُّنيوي في أعمال المستشرقين، مُمَثَّلا في التركيز، ليس فقط على ديانات الشرق، وبصفة خاصة الإسلام، وإنما على منظومةِ القيم، العادات والتقاليد، الإنتاج الفكري والأساطير. من حيث توزعُ الاهتمام الأكاديمي بالاستشراق، تحتل فرنسا مركز الصدارة التاريخية. ثم تلاحقت باقي الدول: ايطاليا، بريطانيا، ثم ألمانيا. وكما تَخلَّص الاستشراق الحديث، تدريجيا، من تأثير الكتاب المقدس، سينحو تدريجيا أيضا صوب صناعة الشرق الذي يريد الغرب، تمهيدا لتحرك الجيوش الاستعمارية. "سِلفِسْتَر دي سَاسِي" رائد الاستشراق الحديث: لا يمكن أن تظل مقاربتُنا للاستشراق عامة فقط؛ أي تتحرك أفقيا عبر عدد من العناصر والأسماء، دون التركيز العمودي على شخصية وازنة من شخصياته تشتغل مرآة عاكسة تكشف لنا عن تحول جوهري في مفهوم الاستشراق، وتكشف أيضا عن الجانب التعليمي الذي رسَّم مناهج واضحة وصارمة لكل مُقبل على التخصص. "سلفستر دي ساسي" هو هذا الرقم الصعب الذي لا يمكن أن نمر عليه مرور الكِرام. وُلد بفرنسا سنة 1757، ونشأ نشأة دينية كاثوليكية، بدءا من تمدرسه الخاص بدير "بندكتي" حيث أقبل على اللغات الشرقية، وقد ركز بصفة خاصة على العربية؛ إذ أدرك أنها بابه المشرعة على الشرق ولغاته. لقد شكل دي ساسي، في فرنسا وقتها، سلطة لغوية عربية: فهو أول معلم للغة العربية بمدرسة اللغات الشرقية (1769). في 1806 رُشح لمنصب الأستاذية ب"كوليج دو فرانس". شغل منذ 1805 منصب المستشرق المقيم بوزارة الخارجية حيث ترجم العديد من بيانات الجيش الفرنسي. حينما احتلت فرنسا مدينة الجزائر سنة 1830، أصدرت "الإعلان العام للجزائريين"، وقد أوكلت ترجمته، طبعا، إلى دوساسي. كما أصبح مستشارا في الخارجية. ورغم هذا الحضور السياسي الوازن، فإن ما صنع شهرتَه، ورسَّخه مرجعا في الاستشراق الحديث، هو أداؤه الأكاديمي الذي تمثل في تجميع كَمٍّ هائلٍ من النصوص الشرقية، وترجمتِها، وتصنيفِها وتبويبها. يضاف إلى هذا جهدُه المتواصل من أجل إرساء مناهج وطرق تعليمية وتقاليد بحثية أكاديمية. إضافة إلى هذا، يعتبر دو ساسي أولَ من ربط الاستشراق كعِلم بالسياسات العامة للدول. وباختصار شديد: "كان رائدا يدرك ما يفعل، وكان... يكتب ما يكتب مثل كاهن أصبح عَلمانيا، فأصبح الشرق مذهبه الديني، وطلابه رعايا كنيسته"، (ا.سعيد:214). "جاكْ فارْدَنْبُرْغْ" يكشف مَدَى عداءِ الغربِ للإسلامِ: في موضوع الاستشراق يُشكل الإسلام قُطب الرَّحى، ومن هنا تخصيص هذه الفقرة لمستشرق بارز قيل في دراسته، وهي بعنوان: "الإسلام في مرآة الغرب": "إنها تتميز بقيمتها البالغة، وذكائها الخارق"، (ا.سعيد). يجتمع في هذه الدراسة، المتسمة بالموضوعية، ما تفرق هنا وهناك من حجج دامغة على أن الاستشراق، وهو يناصب الإسلام عداءً كبيرا، أطاح بكل ادعاءات الصرامة المنهجية، والعلمية. ركز "فاردنبرغ" على خمسة من جهابذة الاستشراق، هم: "جولد تسيهار"، "بلاك ما كدونالد"، "كارل بيكر"، "سنوك هرجونيي"، والمشهور جدا "لويس ما سينيون". وتمكن من دحض العديد من أطروحاتهم حول الإسلام، حتى وهم يظهرون، أحيانا، بمظهر المُقدر للفكر الإسلامي ونصوصه. تعتبر دراسة "فاردنبرغ" مرجعا مهما في نقد الاستشراق. وتبقى أهم نتائجها البارزة، الكشف عن كونهم كانوا يشتغلون وفق نهج واحد، ولتحقيق أهداف استشراقية استعمارية، خططوا لها جميعا، وتكاملوا في تحقيقها. (ص:328). صُوَرُ العربِي في الثقافةِ الشعبية الأمريكية: وراء الصورة النمطية التي تروج في الذهن الأمريكي، حيث يظهر العربي شيخًا بجانب مِضخة بترول وبملامحَ لا يمكن إبداعُ أفضل منها، حينما يتعلق الأمر بتصوير المكر والخُبث، لا يكْمُن–كصانع ومنتج-العقلُ الاستشراقي الأكاديمي، كما مر معنا ونحن نتحدث عن الاستشراق الأوروبي، القديم والحديث، وإنما مجردُ ظلاله، وتَمَثلاتُه الأشد سطحية. "لقد أصبح الشرق، في أعقاب الحرب العالمية الثانية مُباشرة، قضيةً إدارية، أو مسألة خاصة بالسياسات الأمريكية، لا قضية عامة شاملة، على نحوِ ما كانَهُ الشرق، بالنسبة لأوروبا، على امتداد قرون طويلة. وهكذا دخل الساحةَ عالِم الاجتماع والخبيرُ الجديد؛ وهما اللذان تكفلا بحمل لواء الاستشراق"، (ا.سعيد). حتى الاهتمام بلغات الشرق لم يعد تخَصُّصا أكاديميا يوكل للجامعات والمعاهد، بل شأنا عسكريا مَوكولا للجيش الأمريكي يوظفُه وِفق متطلبات سياسته في الشرق. يكفي هذا لنخمن حضورَ الصراع العربي الإسرائيلي في تحديد زوايا نظرِ رجل الإدارة الأمريكي، إضافةً إلى حضور الثراء العربي الذي لا يثير أكثرَ من الشهية الأمريكية، وما يستتبع ذلك من مخططات اقتصادية وعسكرية لامتصاص هذا الثراء. نتيجة لهذه السياسة البْراغْماتية، ضيقة الأفق، أصبح فرسانُ الساحة الاستشراقية غير فرسانها بالأمس. لقد أوكِلت الأمورُ كلُّها، بما فيها المراكز المهمة في مؤسسات صنع القرار السياسي، إلى مجرد خبراء محدودي التخصص، في ابتعاد كبير عن مفهوم الاستشراق. ويتَكرَّس هذا المنحى التقهقري للاستشراق بانحسار كبير للوجود الانجليزي والفرنسي في الشرق. 6.ادوارد سعيد.نفسه.ص: