لما كانت العدالة والحرية والكرامة والمساواة قيما كونية وموروثا إنسانيا مشتركا، فإنها كانت وما زالت محط اهتمام دولي لكل المجتمعات، لا سيما في ظل المطالبة الدائمة والمستمرة بتطوير منظومة حقوق الإنسان، وإنفاذ القواعد النموذجية والمعايير الدولية اللازمة لحمايتها. وعلى هذا الأساس، نجد مطلب الثقة في العدالة يتصدر اهتمام مختلف الأنظمة السياسية والاجتماعية والقانونية، باعتباره حصنا منيعا لدولة القانون، وتحديا يجب رفعه لحماية الحقوق وتطوير العدالة وتحسين أدائها لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مختلف المجتمعات، وهو ما شدد عليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في رسالته السامية الموجهة إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للعدالة المنعقد بمراكش بتاريخ 03 أبريل 2017. وغني عن البيان أن الإحاطة بموضوع الثقة في العدالة يجد راهنيته بالأساس في ظل الإحساس بالعدوانية الذي يطال الفاعلين في منظومة العدالة، لا سيما منهم أعضاء السلطة القضائية، أثناء نظرهم في بعض المنازعات أو الملفات، أو بعد اتخاذهم أو إصدارهم لبعض القرارات أو المقررات. وبدون شك أن الإحساس بانعدام الثقة في العدالة قد يكون حالة طبييعية، لا سيما مع تشعب الإجراءات المسطرية وتعقيد آلياتها بالشكل الذي لا يضمن للمرتفق تسهيل ولوجه إلى العدالة. كما أنه قد يكون حالة شاذة بسبب التجهيل وعدم الانصياع لضوابط التطبيق الفعلي والتأويل الحقيقي للمقتضيات القانونية. وفي حالات أخرى، فإنه قد يتحقق نتيجة عوامل خارجية كعدم كفاية الموارد البشرية بالقدر الذي لا يسمح بتسريع وتيرة الخدمات القضائية، وإصدار الأحكام داخل آجال معقولة، أو عدم تهييء البنية التحتية لما يضمن الخصوصية وتطبيق المعايير الدولية في بعض المواضيع ذات الأهمية (الأحداث، المؤسسات السجنية...(. وفي مستويات أخرى، فإن انعدام الثقة يكون بمثابة رد فعل اضطرابي لبعض الانزلاقات الأخلاقية أو الإخلالات المهنية لمختلف الفاعلين في منظومة العدالة. غير أن الجدير بالملاحظة هو أن أزمة الثقة في العدالة لا تنبني فقط على مظاهر المعوقات القانونية، والإكراهات ذات العلاقة بالموارد البشرية أو المادية والأخلاقيات المهنية، وإنما يتسع نطاقها لتجد ضالتها في أبعاد عميقة ومؤثرة: منها ما يتعلق بالسياق السياسي العام (Le contexte politique) وبالثقافة والقيم المجتمعية (La culture et les valeurs sociales)، ومنها ما يرتبط بمؤشرات نفاذ القانون ودرجة استقلال السلطة القضائية، وتخليق المنظومة، وصورة العدالة من منظور الإعلام والصحافة... وغيرها من مؤشرات الحكامة المؤثرة في تدبير الوظيفة القضائية وتطوير منظومة العدالة. ولأجله، فإن اختلاف السياقات السياسية وتباين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتباين تجذر ثقافة احترام السلطة القضائية داخل المجتمعات، يساهم إلى جانب عوامل أخرى في تفاوت نسبة درجة الثقة في العدالة. فعلى سبيل المثال ومن خلال تقارير ودراسات أنجزت في الموضوع خلال سنة 2016، نجد أن نسبة الثقة في العدالة بإيطاليا لا تتجاوز %29، فيما أكد 48% من الفرنسيين ثقتهم في المحاكم. أما المجتمع الأمريكي فإنه يثق في عدالته بنسبة 59%، فيما تصل درجة ثقة المواطن الألماني في قضائه إلى حدود 67%، في حين إن نسبة ثقة المجتمعين الدنماركي والسويسري تصل إلى غاية 83% (للاطلاع أكثر: Claire jenik : les pays où la jusyice inspire le plus confiance 2016.statista) أما بالنسبة للمملكة المغربية، فإنه بالاطلاع على التقرير الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط برسم سنة 2012، نجده يؤكد أن 58% من الشباب عبروا عن ثقتهم الكبيرة أو المتوسطة في العدالة، فيما لم تتجاوز نسبة ثقتهم في الحكومة 49%. أما مؤشر الرضا بشأن أداء الأحزاب السياسية، فإنه لم يتجاوز نسبة 24%. وهو ما يعطي-من خلال القراءة الأولية-انطباعا جيدا على الوضع التفضيلي لمؤشر الثقة في العدالة مقارنة مع درجة الثقة تجاه السلطتين التنفيذية والتشريعية. وفي السياق ذاته، وفي استطلاع حديث للرأي حول درجة الثقة في العدالة بين 2011 و2016، أكد 52% من المستجوبين المغاربة ثقتهم في السلطة القضائية، فيما أعلن 44 منهم عدم ثقتهم في العدالة (محمد بهضوض: الرأي العربي: صورة العالم العربي من خلال استطلاعات الرأي 2017(. وهو ما يؤكد أن مؤشر ثقة المواطن المغربي في العدالة في مستويات حسنة مقارنة مع درجة الثقة في إنتاج العدالة في الأنظمة القضائية المقارنة، لا سيما مع استحضار الإكراهات العملية، والإزعاجات القانونية والمادية والبشرية التي تجعل السلطة القضائية قاصرة-جبرا عنها-لبلوغ مبتغاها. ولأجله، فإننا نؤكد أن كل تشكيك إيديولوجي في إنتاج العدالة سيبقى لا محالة محاصرا بالأرقام الإحصائية الواردة الكاشفة عن درجة الثقة في المنظومة. وعلى سبيل البيان ودرءا لكل التباس أو إبهام، فإن الإحاطة بدرجة الثقة في العدالة المغربية، ليس من باب الدفاع عن السلطة أو المنظومة في حد ذاتها التي لا شك أنها لم ترق بعد إلى مستوى الجودة أو الفعالية في أدائها، والنمذجة والمثالية في سلوكها حسبما انتهت إليه عدة تقارير حقوقية وطنية ودولية، ولكن فقط من باب التذكير بأن تجويد وتطوير أدائها رهين بالدرجة الأولى بإبداء الاستعداد لتعزيز الثقة فيها، والوعي بمظاهر أزمة شروط إنتاجها، وتجاوز الترسبات التاريخية والتراكمات المهنية التي كانت عاملا مؤثرا في التشكيك فيها، والانتقال مباشرة إلى مرحلة إنتاج الفكر المجتمعي الإيجابي القائم على أساس فتح النقاش بصفة تشاركية وبكل جدية ومسؤولية لاقتراح البدائل والمداخل الكفيلة بالرقي بمؤشر الثقة في العدالة إلى مستويات قوية. *دكتور في الحقوق رئيس المحكمة الابتدائية بوادي زم أستاذ بالمعهد العالي للقضاء.