كيف يتسلقون المراتب بهذه السرعة؟ كيف يقررون في السياسات العمومية وهم لا يتمتعون بالحد الأدنى من شروط تحمل المسؤولية؟ في حزب ما نعاقبه انتخابيا، في حكومة نحتج عليها باعتبارها تقوم بالتسيير وفق كما نقول نحن المغاربة بطريقة "على تيسير الله". بتاتا، بعيدون، بعيدون. ليسوا مثقفين وليسوا سياسيين وليسوا حتى خبراء، ومع ذلك لا يتوانون في إعطائنا دروسا يحفظونها دونما فهم ودونما تمحيص. الرداءة لم تعد تزحف نحونا، كان ذلك من الماضي. الرداءة صارت قوة، صارت سلطة وأصبحت تقرر في حياتنا وفي تعليمنا وفي طريقة مشيتنا. التافهون شبههم الكاتب جون دولابروير بالكلمات التالية: كان التافه، أساسا، شخصا حقيرا وناجحا. شخصيته التي تجسد معنى التفاهة والتي أسماها سيليس Celse يقول عنها الكاتب: "كان إنسانا حقيرا، لكن الأقوياء يدعمونه. لم يكن عالما، ويربط علاقات قوية بالعلماء. كان إنسانا بدون قيمة، ويعرف ذوي القدر الرفيع. لم يكن إنسانا فطنا؛ لكنه يملك لسانا يساعده على ترجمة مراده، وكان يملك رجلان تقودانه من مكان إلى آخر". من يضعهم في مناصب وفي مؤسسات دستورية تقرر، ثم لا يتم محاسبتهم لأنهم بكل بساطة غير منتخبين، بل هم معينون من طرف جهات أخرى غير مرئية، غربية غالبا. وأمثالهم كثر، قرروا اليوم الدارجة وإنهاء المجانية في التعليم. وأمثالهم كثر، قرروا اليوم أن حرية الجسد أسبق في الأهمية من حرية الفكر. وأمثالهم كثر، غدا يطالبوننا بتغيير جلدتنا بعدما نغير لغتنا و.. لا أملك إلا أن أقول مع فلوبير الذي نقل لنا كلمات صديقه الشاعر لويس بوييي: "يا أيتها التفاهة النتنة : أشعار نفعية، أدب البيادق، المهاترات الجمالية، الرداءة الاقتصادية لأمة منهكة. أنتم لستم سوى الهزال. أنتم لستم سوى البقع الحمراء الساخنة لأزمنة الحمى، أنتم القيح البارد الأصفر النازل من تعفن قديم". كم أخجل اليوم من كوني أحمل بين ضلوعي هم الحداثة، لقد اتسخت الحداثة بأمثالكم. كم أخجل اليوم من مجاورة أمثالكم في هذه الأرض، التي أنبتت يوما زهرات نديات وقامات وهامات عاليات. كم وكم.. حزين يا وطني، هنا الشعراء بدون قضايا سوى اللغة. حزين يا وطني، هنا الصحافيون يفهمون في كل القضايا ولا يفقهون شيئا.. حزين يا وطني، هنا السياسيون يشهرون – في أحسن الحالات - الديبلومات الأمريكية للتجارة ويبيعوننا كسلع ثم يتهربون من أداء الضرائب. حزين يا وطني، المثقفون سدت الأبواب في وجوههم، اختاروا الصمت ثم استكانوا للريح. وحدهم التافهون استأسدوا بالتافهين وطفحوا ينشرون البلادة التي يتمرغون فيها. وجاء الطوفان، وأخرجت الأرض ناسها، هربوا في القوارب، مشيا على الأقدام قالوا لبعضهم البعض: الوطن... آه قال المغترب، آه لو تعلمون. قال الذي يتضور قهرا وظلما: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة. بين البحر والبحر، كانت تنطفئ الجذوة. بين البحر والبحر، تطفو الأحلام المجهضة. افتقدت اللحن اللازم لأقول الحكاية. لا بد أن يكون هناك مؤرخ ليقول الحكاية. ولا بد أن يكون هناك شاعر ومغن ورجل أعمى يحمل المزمار وامرأة تولول. تلكم أركان الحكاية، لكن الكل رحل أو صَمَت أو باع. مقابل الأغنية الحزينة القديمة، يتقدم نحونا التافهون اليوم بالخواء وهم يضحكون. ثمة غيمة حزن كبير ترخي بظلامها على القلوب. يأمرنا التافهون بالصمت. ثمة مرجل تغلي، قدر تغلي. التافهون يغنون. التافهون. التفاهة. الخواء يحاصرني. *كاتب وباحث [email protected]