الكتابة العامة والمفتشية العامة ومديرية المناهج .. مناصب لا تخضع للتباري وفق معايير الكفاءة المعرفية والمهنية .. وليست مناصب سياسية .. وجوه ترافق كل وزير وكل حكومة؟؟؟ الدارجة ومقررات التعليم وشخصنة الفاعل، لغط ولغو. شظف العيش .. شواهد في مهب الريح .. نستفيق كل يوم على مشهد صادم، فنتساءل إلى متى سوف يستمر هذا الاندحار والتبخيس للموارد البشرية التي يزخر بها بلد مثل المغرب، خاصة وعاء الشباب ..؟؟ صادفت في أحد المجالس، داخل مؤسسة للتعليم الخصوصي، شابين يقدمان سيرتهما العلمية طلبا للحصول على شغل داخل هذه المؤسسة، الشابة الأولى لها إجازة في القانون وتكوينات أخرى، تطلب الاشتغال كمرافقة للتلاميذ في حافلة نقل أطفال المدرسة، والثاني شاب بنفس المؤهلات يطلب العمل كسائق لهذه الحافلة .. فقمت من المجلس وقد أحسست بدوار، وكأن حجرا كبيرا انصب من السماء يشق رأسي دون أن يحطمه، ليستمر الألم .. فكرت في عدد المسؤولين الذين ربما ليست لهم نفس السيرة العلمية التي بحوزة هذين الشابين ... أفواج تتخرج كل عام لتجد أبواب الشغل موصدة .. ليس بالضرورة في أسلاك الوظيفة العمومية، ولكن في عدد من الشركات والمؤسسات التابعة للقطاع الخاص. شباب ينهشه الفقر والبطالة والأفق المسدود، ليتوجه نحو الاكتئاب بسبب الخذلان واستعلاء الباطل ... استمرار المعاناة، من الأب إلى الإبن إلى الحفيد .. ولا إصلاح. منذ وعيت من أنا ومن أكون، صرت أتطلع ليوم ينصلح فيه حال التعليم، فتتلمذت وزاولت التدريس وتقاعدت، دون أن يأتي الإصلاح .. فوعيت أن الإصلاح لابد أن يكون شموليا، وما التعليم إلا حلقة في سلسلة قطاعات طالها الفساد الإداري وغياب حس المسؤولية بسبب تعاقب حكومات لا شعبية ... الوضع يتفاقم يوما بعد يوم، فصار أبناؤنا ثم أحفادنا، عرضة لعملية التضبيع الممنهجة، بل استفحل الأمر لدرجة لم يعد من الممكن السيطرة على صناع القرار في مجال التعليم وكل ما يرتبط بقضاياه، مقابل الميزانيات الضخمة التي تضخ لهذا القطاع، ومقابل هذا ارتفعت أصوات تطالب بضرورة الانتباه لحال البلد من خلال إصلاح التعليم، وهنا لابد من الوقوف عند تراجع دور الأحزاب والنقابات في الدود عن منظومة التعليم وقضايا نسائه ورجاله، فلا غرابة إذن أن يدق عاهل البلاد ناقوس الخطر، في عدد من خطاباته، آخرها خطاب العرش في ذكراه 19، لتحميل المسؤولية للمشرفين على التعليم، حيث ربطه بالبعد الاجتماعي، من خلال توجب دعم الأسر لتستطيع تدريس أبنائها ومحاربة الهدر المدرسي. ليس من باب الصدفة، إذن، إصدار مقررات دراسية بالشكل الذي وردت به الكتب الموجهة للمدرسة العمومية هذا الموسم، لأن القوم لا يمزحون، ما دام التعليم كابوسا يقض مضجع أعداء الثقافة التي منها حضارة الشعب، أي شعب، لا يمكن أن تقوم له قائمة من غير الاضطلاع بالمراتب الأرقى في مجالي التربية والتعليم، ولسنا في حاجة للمقارنة أو النظر لبلدان سارت على درب الحضارة بعد قرون من التخلف، لأن تنشئة الأجيال وتعليمها هي السبيل الوحيد لتحقيق التطور الحضاري، وكل مجتمع تسري بين أفراده الأمية والجهل، لا يمكنه التخلص من التخلف والتبعية، فيكون لقمة سائغة بين أنياب الفئة المتسلطة على الشأن العام، لأنها تتوخى الحذر، وتتوجس من المتعلم خيفة على مصالحها، فتتشكل داخل المجتمع فئة تستحوذ على الإنتاج ووسائله، أي على دواليب السياسة والاقتصاد، والشأن الاجتماعي، وهي فئة ذات تفكير أخطبوطي، بمعنى أن تسلطها يطال كل بعيد، وتسخر لذلك الوسائل العلمية والفكر والمعرفة لتحقيق غاياتها. باعتبار أن الفكر والمعرفة لهما وجه خبيث، وبالتالي إحكام قبضتها على الشأن العام والمجتمع برمته، ولعل أنجع ابتكار لهذه الفئة، ولا أسميها نخبة، لأن النخبة لها حمولة سوسيولوجية لا تعكس مكونات هذه الفئة، هو التضليل وخلق نوع من الفوضى المنظمة، أي فوضى تنخر المجتمع بواسطة أفراد هذا المجتمع، وهي فئة ذات روح انتقامية وحقد دفين قد يمتد لعقود، لتعاود الكرة وتنتقم وتقوم بطمس معالم أي سلوك حضاري داخل المجتمع، بمعنى أنها تقف في وجه كل فعل أو حراك للتقدم، وهي الفئة التي سعت منذ عقود لإبقاء التعليم على ما هو عليه، بعد أن أفرزت فترة الستينيات، وهي الفترة التي تلت خروج الجيشين الفرنسي والإسباني من التراب المغربي، مجتمعا تنخره الأمية بنسبة مائوية عالية جدا، داخل الحواضر والبوادي، فلم تبادر الحكومات المتعاقبة لإصلاح منظومة التعليم، ليس لأن الأمر مركب أو معقد أو صعب المنال، ولكن لأن اهتماماتها كانت أبعد ما يكون عن تنشئة أفراد هذا المجتمع لبناء الدولة الحديثة، وسياق الحديث لا يتسع للخوض في المقاربة التاريخية لمغرب الستينيات ... فاستمر التعليم على ما هو عليه، لم يبرح مكانه، وقد ظل لفترة طويلة، حتى مستهل ثمانينات القرن الماضي بعيدا دائرة الضوء، على مستوى البرامج ومخططات الوهم والأغلفة المالية الخيالية، حيث كان الكتاب قارا، رغم الهزال الذي يطفح به، إذ المقررات لا ترقى للمستوى المعرفي الطموح المنفتح، ومع كل ذلك تخرج شباب وأطر من المدرسة العمومية يحمل فكرا واعيا يسعى للإصلاح والتغيير، ليس بفضل المقررات وإنما بمجهود شخصي حكمه المناخ الساسي العام الذي خيم بظلاله على فترة الستينيات والسبعينيات، وكذا انفتاح الشباب على البيبليوغرافيا الأجنبية، ثم دور المدرس رغم انتهاجه أساليب تقليدية ...، فاستمر التخوف من المدرسة العمومية، وبات تقويس قناتها ضرورة وحتمية لا محيد عنها، فجاء مستهل الثمانينيات ليتم تغيير الكتاب المدرسي، ليضرب القدرة الشرائية للأسرة المغربية الفقيرة والمتوسطة، لأن الكتاب السابق، رغم فقره المعرفي، كان يستعمل من جيل لجيل، فتجد أفراد الأسرة الواحدة يتوالون على كتب الأخت الكبرى أو الأخ الأكبر، ويمكن توزيعه على أبناء الجيران والمعارف، لأنه كتاب لا ينقرض. أما وقد تم إقرار كتاب جديد مع مستهل الثمانينيات، كتاب قراءتي مثلا بالنسبة للأقسام الابتدائية، فإن تكلفة الكتاب انضافت لهزاله المعرفي، الشيء الذي فسح المجال أمام المضاربة في الكتب والأدوات المدرسية، صاحبها سيل جارف من المواد التي لا رقيب عليها لحماية المستهلك الصغير، الذي هو الطفل، مستعملين الألوان ووسائل الإغراء، والأسعار الخيالية التي هي بدورها لا تخضع لمقاييس أو مراقبة تضع حدا لجشع المطابع ودور النشر والموزعين وتجار الجملة وتجار التقسيط والوسطاء وغيرهم من لوبيات الهيمنة على سوق الكتاب المدرسي واللوازم المدرسية ... فأضحى مجال التعليم مرتعا للتجريب، ليس التجريب بمفهومه العلمي، وإنما تجريب لإلهاء وإشغال أبناء المجتمع بخطط وبرامج ومخططات ومواثيق، وغيره من الوجبات السريعة التي لا طائل من ورائها سوى هدر المال العام في تكوينات وملتقيات الوهم، وهلمج من المصطلحات التي لا دلالة ولا مدلول لها. مذكرة الكاتب العام عن "المنهاج المنقح" ... و"رؤية 2030" عجبي إذن، من المذكرة الموقعة من طرف الكتاب العام، عدد 123/18، بتاريخ 28 غشت 2018، موضوعها "تعميم المنهاج المنقح لسلك التعليم الابتدائي"، تقع في 5 صفحات، موجهة لكل المسؤولين بقطاع التعليم، إداريين وتربويين وهيئة تدريس. وهي تحمل توقيع الكاتب العام للوزارة، طبعا بتفويض من وزير التعليم، وهو أمر مثير للانتباه في نظري، لأن المذكرة ذات حمولة سياسية، موجهة للمسؤولين وللرأي العام، فلماذا لم يوقعها الوزير نفسه، لما لها من دلالة على المنصب السياسي داخل حكومة يفترض أنها نتجت عن اقتراع وتوافق بين الأحزاب، وسوف تنم عن تفعيل رؤية سياسية للحكومة في مجال حيوي كالتعليم؟؟ ثم إن كان ولابد أن تحمل توقيع أحد ما، فهناك مدير المناهج، وهو المنسق لبرنامج "تحدي القراءة العربي" الذي ترعاه دولة الإمارات العربية المتحدة؟؟ فيبدو منذ الوهلة الأولى، ومن خلال صياغتها أنها فجة وعائمة، ديماغوجية أكثر منها إخبارية، لأنه، وبعد قراءة الفقرة الأولى كاملة، لا نفهم شيئا، "... تطوير النموذج البيداغوجي انسجاما مع ما ورد في الرافعة الثانية عشرة وخصوصا ما يتعلق بالمقاربات البيداغوجية وملاءمتها (المادة70) وبالمراجعة المنتظمة للمناهج والبرامج والتكوينات وفق معايير الجودة (المادة72) وبالوسائل والوسائط التعليمية والموارد(المادة74)، واستحضارا لخصوصية الموسم الدراسي 2018-2019 الذي يستمد أهميته من المستجدات التربوية التي سيتم تفعيلها في إطار أوراش تطبيق الرؤية الاستراتيجية للإصلاح،..."(نقلت الفرقة دون تصرف، حيث تغيب علامات الترقيم، وكذا استهلالها بحرف جر)، إنها عبارة عن إحالة لمواد بما سمي "مشروع رؤية استراتيجة 2015-2030"، ثم أين وجه خصوصية الموسم الدراسي الحالي؟؟ فكل موسم له خصوصية؟؟ أو ليس المنهاج "نابع" عن "رؤية" يصل مداها إلى غاية 2030؟؟ بمعنى تعويم ما جاء في المقررات الجديدة من عبارات بالعامية المغربية وجعلها ذات بعد "استراتيجي"، وفق رؤية العارفين بخبايا التعليم وأهدافه، والأمر ليس بهذه البساطة، لأنه لا يمكن أن يبقى التعليم رهين "رؤية" لا نفس فلسفي فيها، ولا أفق لها تمتد بأبنائنا إلى 2030 ... وهو الأمر الذي أثار جدلا على مواقع التواصل، من خلال التعليق والنكتة الكاريكاتورية التي تلخص رد الفعل ضد قرار يطال المجتمع، في غياب من يقوم برد فعل حقيقي، ويبقى التعليق على المقررات بعيدا عن وضع اليد على العلة، لأن الأمر لا يتعلق بشخص بقدر ما هو اختيار تتحمل وزره حكومة ومؤسسة تشريعية ومجلس أعلى للتعليم ... القوم رسموا طريقا لا محيدا عنه، يتقدمون بكل ثقة ولا راد لهم، غافلين أن التعليم قضية وطنية، تتطلب استفتاء شعبيا، من خلال إشراك ذوي الاختصاص وجمعيات المجتمع المدني، وفق اختيارات سياسية خلاقة، تعيد للتعليم بريقه ودوره ... ''المغرب بماضيه وحاضره ومستقبلة أمانة في أعناقنا جميعا'' (الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 19 لعيد العرش) ... وللحديث بقية.