ارتكزت السياسة الاستعمارية العالمية على سحق ومحق كل ما هو معبر عن هوية الشعوب المستعمرة، ودافع إلى بقاء ثقافتها وامتدادها التاريخي والحضاري، مستهترة بالقيم الإنسانية ومنتهكة للقوانين الدولية، ومتعارضة مع سنة التعدد والتنوع الثقافي، متناسية كون الثقافة هي روح الأمة وعنوان هويتها ومن خلالها تستمد عناصرها ومقوماتها وخصائصها، ومستهدفة اللغة العربية باعتبارها وعاء للدين والفكر والهوية. فما هي خصائص ومميزات هاته اللغة؟ وما مقومات قوتها وصدارتها؟ وإلى أي حد استطاع الوطن العربي أن يعمل على المحافظة عليها من خلال دسترتها وتوفير الحماية القانونية لها؟ وما هي التحديات والصعوبات التي تواجهها؟. اللغة وعاء للدين والفكر والهوية: تعد اللغة العربية من أقدس اللغات، على اعتبار أنها لغة القرآن، مصداقا لقوله تعالى: "إنا أنزلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون"، ومن أعرق اللغات، إذ يعود تاريخها إلى عهد سيدنا آدم عليه السلام تبعا لقوله تعالى: "وعلمنا آدم الأسماء كلها"؛ وهي من جهة أولى تحتل الرتبة الرابعة من حيث عدد الناطقين بها، إذ يتجاوز عددهم 365 مليون نسمة ينتمون إلى 60 دولة، وفقا لدراسة صادرة عن منظمة الأممالمتحدة. ومن جهة ثانية تصنف اللغة العربية من ضمن اللغات الست الرسمية التي تصدر بها منظمة الأممالمتحدة تقاريرها، ويتم الاحتفال بها من قبل هاته الأخيرة في يوم عالمي، في الثامن عشر من دجنبر من كل سنة؛ ومن جهة ثالثة تأثرت بها العديد من الحضارات والثقافات، ففي أسيا توجد حوالي 25 لغة يتم كتابتها بحروف عربية، في حين تضمنت اللغة الإنجليزية أكثر من ألف كلمة عربية، لتصنفها الأبحاث المتعددة بكونها أضخم اللغات ثروة وأصواتا ومقاطع وحروفا وتعبيرات..وهي نفسها التي استعملتها البشرية لقرون عدة إبان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية كلغة العلم بلا منازع في شتى الفنون، من رياضيات وفيزياء وكيمياء وهندسة وفلسفة...وكانت كذلك مرجعا للتدريس بالجامعات الغربية إلى غاية القرن التاسع عشر، ككتب ابن سينا في الطب والخوارزمي في الرياضيات وابن الهيتم في الفيزياء، حيث بقي لموروثهم العلمي السبق والفضل حتى عصرنا الحاضر. هذا الأمر يحتم علينا ضرورة إيلاء العناية والاهتمام بلغتنا العربية مع اليقظة والانتباه إلى صراع الحضارات والثقافات القائم بين الأمم، والذي يأخذ أحيانا أبعاد عسكرية وأحيانا أخرى حربا ناعمة في إطار الصراع الحضاري والثقافي، إذ يشن خصومنا على هويتنا العربية والإسلامية والوطنية حربا ضروسا من خلال ضرب أبعادها القيمية، ما ينبغي معه الحذر من الوقوع في شرك دين الانقياد ونحلة الغالب التي حذرنا منها ابن خلدون في مقدمته، بقوله: "إن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب". التشريع والقضاء يصطفان إلى جانب اللغة العربية: نص الدستور المغربي في فصله الخامس صراحة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وأن الدولة ملزمة بالعمل على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها بقوله: "تظل العربية اللغة الرسمية للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها..". وهذا ما أكد عليه التنظيم القضائي المغربي من خلال قانونه التنظيمي 38/15 في مادته الخامسة عشرة بقولها: "تظل اللغة العربية لغة التقاضي والمرافعات وصياغة الأحكام القضائية أمام المحاكم". أيضا الدستور المصري نص في مادته الثانية على أن اللغة العربية هي لغة البلد الرسمية بقولها: "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع". التوجه نفسه ذهب إليه المشرع الأردني من خلال مصادقته على قانون حماية اللغة العربية رقم 35 الصادر سنة 2015، والذي ينص في مادته الثامنة على التزام المعلمين في مراحل التعليم العام وأعضاء هيئة التدريس في التعليم العالي باستخدام اللغة العربية في التدريس، وبأن هاته الأخيرة هي لغة البحث العلمي، وتنشر البحوث بها. ويجوز النشر بلغات أجنبية بشرط أن يقدم الباحث ترجمة باللغة العربية تعميما للفائدة للجهات ذات العلاقة. ويحث القانون ذاته في مادته العاشرة على أنه لا يعين معلم في التعليم العام أو عضو هيئة تدريس في التعليم العالي أو مذيع أو معد أو محرر في أي مؤسسة إعلامية إلا إذا اجتاز امتحان الكفاية في اللغة العربية؛ في حين اعتبرت المادة الثانية عشرة منه أن اللغة العربية هي لغة المحادثات والمفاوضات والمذكرات والمراسلات والاتفاقيات والمعاهدات التي تتم مع الحكومات الأخرى والمؤسسات والمنظمات والهيئات الدولية، وهي لغة الخطاب التي تلقى في الاجتماعات الدولية والمؤتمرات الرسمية ما أمكن ذلك. وتحقيقا للطابع الزجري لهذا القانون عاقبت المادة الخامسة عشرة منه كل من يخالف أحكامه بغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد عن ثلاثة آلاف دينار. ولعل أهم انتصار من القضاء المغربي للغة العربية هو قرار المحكمة الإدارية القاضي بإلغاء القرارات الإدارية المحررة بالفرنسية، معللة ذلك بمخالفتها للدستور وبكونها جاءت مشوبة بعيب المخالفة الجسيمة للقانون؛ فيما أيدت محكمة الاستئناف بالرباط نهاية يناير 2018 حكما مماثلا صادرا عن المحكمة الإدارية بتاريخ 02 يونيو 2017 يقضي بعدم مشروعية استعمال اللغة الفرنسية في الإدارة العمومية. ووصف الحكم القضائي استعمال اللغة الفرنسية بأنها انتهاك لإرادة المواطنين المجسدة بنص الدستور الذين اختاروا العربية والأمازيغية لغتين لمخاطبتهم من قبل الدولة وجميع المرافق العمومية الأخرى، كما أنه تصرف لا يمكن تبريره بأي مسوغات واقعية أو قانونية جدية. واعتبر الحكم القضائي استعمال اللغة الفرنسية من قبل الإدارات العمومية المغربية "عملا مخالفا للدستور" موضحا أن "اللغة المذكورة غير منصوص على استعمالها الرسمي بأي نص قانوني، فضلا عن أنها لا تمثل أي مظهر من مظاهر الهوية المغربية ماضيا وحاضرا وليس لها أي امتداد تاريخي بالمغرب ذي بعد وطني ومشروع". تحديات وصعوبات تواجه اللغة العربية: وتشهد لغة الضاد في الوطن العربي بالآونة الأخيرة تربصات وتحرشات من قبل أعدائها. وكان المغرب من ضحايا هاته المؤامرات، التي تسعى إلى ضرب اللغة العربية، من خلال مناداتها باعتماد اللغة العامية المغربية في التعليم الأولي بدلا من اللغة العربية الفصحى؛ كما تطالب بوضع حد للكتاتيب القرآنية، بدعوى أن اللغة العربية صعبة على الناشئة. هكذا تم حشو مجموعة من النصوص معبر عنها باللهجة العامية بالمراجع الدراسية لموسم 2018/2019. وأثارت هذه الحملة على اللغة العربية ضجة كبيرة في أوساط المهتمين بها والمدافعين عنها، وكذا مختلف شرائح المجتمع المغربي، مشككين في نوايا وأهداف هذه الحملة غير البريئة، ومنتقدين هاته الخطوة غير المحسوبة التي ترغب في زرع الفتنة والبلبلة والزج بالوطن في نقاشات ومتاهات عقيمة، لن تزيد الشعب المغربي إلا تمسكا بلغته ولن تزيد اللغة العربية إلا صمودا وثباتا وقوة. مع تسجيل أن هاته الحملة مخالفة لروح الفصل الخامس من الدستور الذي ارتضاه المغاربة، ولمشروع القانون الإطار رقم 17.51 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، ما يحتم على السلطة الحاكمة أن تتحمل مسؤوليتها السياسية والإدارية وتعمل على توفير الحماية القانونية للغة العربية بسحب جميع المقررات الدراسية التي تضمنت تلك النصوص المعبر عنها باللغة العامية، حفاظا على تراث الأمة وتماسك هوية الوطن واستقراره.