ما جرى في القاهرة في الأيام الأخيرة ليس حوارات مصالحة فلسطينية أو استمرارا لحوارات المصالحة الوطنية وتنفيذ الاتفاقات ذات الصلة – اتفاق القاهرة 2011 والقاهرة أكتوبر 2017. كما أنها ليست مجرد مفاوضات لهدنة كما يرَوِج البعض، بل هي مفاوضات سياسية بعضها مباشر وبعضها غير مباشر بين حركة حماس من جانب وإسرائيل وواشنطنوالأممالمتحدة من جانب آخر، مفاوضات تسعى إسرائيل وواشنطن إلى أن تكون صفقة ذات أبعاد إقليمية ودولية تؤسس لتسوية سياسية جديدة أو أوسلو جديدة؛ ولكن هذه المرة مع حركة حماس وضمن جغرافيا قطاع غزة فقط. إن ما يدفعنا إلى التحذير من تسوية جديدة أو أوسلو جديدة أكثر سوءا من الأولى هو أن مفاوضات القاهرة تأتي متزامنة مع تنفيذ صفقة القرن ولا نستبعد أن تكون جوهر صفقة القرن، كما أنها تجري بمعزل عن منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب وعن السلطة الوطنية التي يُفترض أن قطاع غزة جزء من مسؤوليتها وأنها صاحبة الإيالة القانونية على القطاع. كما أن شكوكنا تستند على تخوفات فصائل العمل الوطني الفلسطيني التي تحضر المفاوضات ويُراد لها أن تكون شاهد زور على ما يحاك لها من استدراج لوقف المقاومة وتمرير صفقة القرن، أيضا مواكبة جهود المخابرات العامة المصرية واتصالاتها المتواصلة مع حركة حماس وإسرائيل مع جهود واتصالات قطرية مع حماس وإسرائيل من خلال السفير العمادي وتحركات مكثفة للأمم المتحدة وممثلها في فلسطين. التنسيق وتقاسم الأدوار والمهام بين مصر وقطروالأممالمتحدة ممثلة بميلادينوف برعاية أمريكية يجري على قدم وساق: مصر من خلال رعايتها واحتضانها للمفاوضات ودورها اللاحق من خلال فتح معبر رفح ودخول البضائع المصرية للقطاع وإشرافها وتحكمها بالوضع الاقتصادي والأمني للقطاع، قطر من خلال التمويل المالي وإنشاء مشاريع متعددة، الأممالمتحدة لإضفاء صفة دولية على أي اتفاق قادم مع وعود بمساعدات مالية وإرسال قوات دولية إلى القطاع والتلاعب بقشة الأونروا، وواشنطن من خلال استعمالها سياسة العصا والجزرة مع كل الأطراف. وما يعزز الشكوك التي نتمنى أن تكون غير صحيحة هو أن مصر وقطر الدولتين المتخاصمتين في كل شيء تتقاسمان الأدوار في الصفقة التي تجري في القاهرة تحت توجيهات واشنطن، حيث تتواكب الجهود والاتصالات المكثفة للمخابرات العامة المصرية مع حركة حماس وإسرائيل مع تحركات مماثلة للسفير القطري السيد العمادي!. كل فلسطيني وكل حر في العالم يعارض حصار غزة ويشعر بحالة غضب شديد على كل من شارك أو ساعد أو كان مسؤولا عن وصول الأوضاع الإنسانية في القطاع قلعة الصمود والمقاومة وخزان الوطنية الفلسطينية إلى هذه الحالة المزرية، كما أن ثلاث موجات من العدوان واستمرار التوتر الموجه والمقصود كإحدى آليات صناعة دويلة غزة، كل ذلك دمر البنية التحتية للقطاع وأرهق أهلنا وأزهق الأرواح، وكان من الممكن تَجنب كل ذلك لو كان هناك إدارة عقلانية للمقاومة ولغزة؛ لكن هناك جهات توظف الوضع الإنساني في غزة وما يشهد من توتر أمني على حدوده ليس لرفع الحصار وتخفيف المعاناة فقط بل كمدخل لصفقة سياسية –صفقة القرن - تجهض على ما تبقى من مقاومة ومشروع وطني، صفقة تُبنى على افتراض أن الشعب الفلسطيني استسلم للأمر الواقع وتعب من النضال وأنه مستعد للتخلي عن حقوقه التاريخية مقابل تحسين مستوى معيشته. نتمنى على حركة حماس، التي جاءت تحت شعارات المقاومة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر وأن فلسطين وقف إسلامي الخ، أن لا تساوم على كل تضحيات الشعب الفلسطيني طوال قرن من الزمن، حيث سقط مئات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الأسرى والجرحى وآخرهم شهداء وجرحى مسيرات العودة، تساوم على كل ذلك من أجل تثبيت سلطتها في قطاع غزة الذي خرجت منه إسرائيل عام 2005 وسبق أن رفض الرئيس أبو عمار أن يُقيم دولة مستقلة فيه، وحيث كان (اتفاق أوسلو الخياني) تحت عنوان غزة أولا !!! . ما تسرب عن مفاوضات القاهرة وما صرحت به قيادات من الفصائل الموجودة في القاهرة يؤكد أن رأس المقاومة ووجودها وتكريس الانقسام سيكون الثمن مقابل وعود إسرائيلية وأمريكية وعربية بتسهيلات ستقتصر في المرحلة الأولى، وقد تكون الأخيرة، على فتح معبر كرم أبو سالم الذي كان مفتوحا دوما ولم يُغلق إلا قبل شهر تقريبا، وفتح معبر رفح وقد كان مفتوحا دوما قبل سيطرة حماس على قطاع غزة كما أنه شأن مصري فلسطيني لا يحتاج إلى تنازلات فلسطينية للإسرائيليين حتى يتم فتحه، وتوسيع منطقة الصيد وهي في أفضل الحالات لن تكون أوسع مما كانت عليه، بالإضافة إلى وعود عن ميناء ومطار إلخ. لقد سبق للرئيس أبو مازن أن طالب حركة حماس بأن تسمح لحكومة الحمد الله باستلام المؤسسات في القطاع مقابل تحَمُل الرئيس والحكومة كامل المسؤولية عن القطاع وحل كل مشاكله الإنسانية، وهذا كان مضمون اتفاقات المصالحة السابقة في أكتوبر 2017؛ إلا أن حركة حماس رفضت من منطلق أنها لا تثق بالرئيس وبحركة فتح وبالحكومة، ولذا لن تتنازل عن السلطة، والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل إسرائيل أكثر ثقة ومصداقية عند حركة حماس من حركة فتح والرئيس؟. لسنا في وارد الدفاع عن حركة فتح ومنظمة التحرير والحكومة ونحن نعلم أن أخطاء كثيرة حدثت وصاحبت الحركة الوطنية وقيام السلطة وسبق أن كتبنا عن سوء إدارة ملف الانقسام من لدن السلطة ومنظمة التحرير، وآخر فصول سوء إدارتها القرارات الأخيرة بخصوص رواتب موظفي غزة والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، بل أحيانا نتساءل: كيف لسلطة غير قادرة على حماية الضفة والقدس أن تمد سلطتها لقطاع غزة؟!!، كما لا نقلل من قيمة وشأن الأحزاب التي تشارك في مفاوضات القاهرة أو نشكك بوطنيتها حيث بصماتها واضحة في المقاومة والصمود. كما نتلمس عذابات أهلنا في غزة الذين يتحملون بصبر وصمود المعاناة الناتجة عن الحصار والعدوان الإسرائيلي المتواصل وسوء إدارة القطاع؛ ولكن ما يجري في القاهرة لا علاقة له بالمصلحة والمصالحة الوطنية بل على حسابهما، إنها تسوية تكرس الانقسام وتَعد سكان غزة بتسهيلات معيشية غير مضمونة وتؤسس لتصفية القضية الوطنية. وأخيرا، ما زال في الإمكان تدارك الأمر ورهاننا على المخزون الوطني الكبير عند كل الأحزاب المشاركة في مفاوضات القاهرة وعلى صبر وصمود شعبنا، وخصوصا في قطاع غزة وعلى حرص جمهورية مصر العربية على القضية الفلسطينية التي رعتها منذ تأسيس المنظمة فيها عام 1964. ولا نعتقد أن مصر ستسجل على نفسها أنها ساعدت إسرائيل في مخططها لفصل غزة عن الضفة وتصفية القضية الفلسطينية. [email protected]